الضوابط الأخلاقية لقوة الإعلام
محمد السماك
هناك قاعدتان عامتان من قواعد القوة في نظام السلوك الانساني.
القاعدة الاولى هي المعرفة, والقاعدة الثانية هي القدرة على صناعة القرارات في المنظمات الرسمية أو غير الرسمية حيث يتم تكوين أو بلورة السلوك الانساني.
بالمعرفة نعني كل أشكال الرموز والنظم الفكرية التي تحدد الوسائل والاهداف من جهة أولى والمصالح والقيم من جهة ثانية.
رغم أن بعض المهن تمزج بين المعرفة واتخاذ القرارات, فإنه يمكن تصنيفها كلها تحت هذين البعدين العامين للقوة.
من المهن ما يختص بتطوير وتطبيق قوة المعرفة, فالمحامون مثلاً يختصون في معرفة كل ما من شأنه أن يؤثر على مصالحنا المركزية, وعلى قيمنا العميقة, وعلى شعورنا بالمساواة والعدالة.
الاطباء يشرفون على المعرفة التي تساعدنا على تحقيق أحاسيسنا المتداخلة للمحافظة على سلامتنا الجسمية والفيزيولوجية والمعنوية.
العلماء الاكاديميون, في الفيزياء والطبيعيات والاجتماع يحددون أطر مفاهيمنا العامة من خلال نظرياتهم عن الطبيعة, عن العالم وتطوره, عن مفهومهم لمعنى الحياة وعن آرائهم بالقوة والعدالة في الحياة الاجتماعية.
الفنانون من كل الانواع يصهرون أحاسيسنا ويبلورون تقديرنا للجمال في العالم.
أما الاعلاميون الذين يقيسون ضغط المجتمع فيرفعونه أو يخفضونه ,فإنهم يوجهون خياراتنا ويؤثرون على أحكامنا في القضايا المطروحة.
فهم إما أن يغلفوا خيارات حلوة بطبقة إعلامية حنظلية تجعلها مستحيلة البلع, وإما أن يغلفوا خيارات مرة بطبقة اعلامية سكرية تجعلها أسهل على البلع.
وإذا كان الاعلام قد لاقى على مر الاجيال اهتماماً وتقديراً فذلك لانه قادر على ان يلعب الدور المؤثر والفاعل الذي يمنع السلطة من الغطرسة والذي يكبح جماح الفساد المترتب عن سوء استعمال قوة السلطة.
بسبب ما يتجمع عند الاعلامي من معرفة بخفايا الأمور, وبأسرار العلاقات, فإن الاعلام كقوة أصبح هو نفسه معرضاً للفساد ولسوء الاستغلال.
فالقوة في الاعلام لاتقتصر على عملية النشر وحدها في عالم قزمته الوسائل الحديثة للاتصالات عبر الاقمار الاصطناعية, إنما تشمل كذلك عملية تجاهل أو إخفاء بعض المعلومات والحقائق.
من أجل ذلك, فإن مهنة الاعلام, أضحت واحدة من مهن المعرف التي تتبوأ موقعاً مرجحاً في موازين القوى الاجتماعية.
فنتيجة لقوة المعرفة التي تمتع بها هذه المهنة, فإن تأثيرها على حياة الأفراد والجماعات, وكذلك على صناعة القرار وعلى التوزان الاجتماعي, هو في تزايد متواصل.
عندما يصاب أي مجتمع بهزة معنوية, أو سياسية أو أمنية أو حتى اقتصادية ,يتعرض أبناء هذه المهنة بصورة تلقائية وطبيعية الى شتى أنواع النقد, ويلقى على كواهلهم جزء من مسؤولية التردي والإنهيار.
إن إتهام رجال الاعلام بالاانضباط الذاتي, وبعدم التحسس بالمسؤولية سواء لجهة نشر انباء محددة, أو لجهة الامتناع عن نشر أنباء محددة اخرى, وسواء لجهة توجيه الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك, أصبح قاعدة من القواعد المتعارف عليها في المجتمعات النامية والمتقدمة على حد سواء ,وإذا كان التعامل مع هذه القاعدة يختلف من مجتمع الى آخر, أو من دولة الى أخرى, فإن ثمة أمراً يكاد يكون هناك إجماع على تأكيده.
وهو أن مهنة الاعلام – كغيرها من مهن المعرفة – تواجه مشكلة اجتماعية معقدة, وإن معالجة المشكلة يتطلب التعمق في دراسة اسبابها وتسليط الاضواء على سلبياتها قبل تقديم مقترحات المعالجة, ومن اوليات ذلك رسم حدود المراقبة الاجتماعية, وتحديد المسؤولية العامة في عملية المعالجة.
يمكن اختصار مواصفات السلوك المهني الذاتي الاعلامي في ثلاث: قوة المعرفة ,القدرة على التحكم الذاتي, الشعور بالمسؤولية تجاه الرأي العام.
إن ممارسة الاعلام لاتعني أو يجب أن لا تعني ,إدعاء هذه المواصفات فقط, بل ممارستها في الدرجة الاولى.
المعرفة هي قوة في المطلق, وبسبب انعكاساتها المباشرة على الشؤون العامة للناس, فإن القوة من أي نوع كانت يجب أن تخضع لضوابط اجتماعية أخلاقية وسياسية.
ذلك أن القوة أياً كان شكلها, أو مصدرها, هي أكثر أهمية بالنسبة للسلامة العامة من أن تترك للاختصاصيين وحدهم.
ترى ألا يهتم بعض الاطباء بالطب كعلم أكثر من اهتمامهم أحياناً بالمريض كإنسان؟.
ألا يعني ذلك تحويل الوسيلة الى هدف ؟؟.
ترى ألا يقف بعض المحامين والقضاة أمام حواجز الجنس والاثنية والثروة التي تعترض طريق المساواة في العدالة؟.
ترى ألا ينسى بعض العلماء الاكاديميين من خلال تفرغهم للبحث والتنقيب والاكتشاف العلمي ما يكابده الافراد من أعباء بسبب ذلك, مع العلم أن هؤلاء الافراد هم هدف هذه الابحاث ؟.
ترى ألا يخفي بعض الاعلاميين الحقائق التي يعرفون أنها حق مقدس من حقوق الناس؟ ألا يشوه بعض الاعلاميين الوقائع وهم يعرفون أن تشويه الحقيقة أشد خطراً من تزوير العملة؟
من اجل ذلك, لابد من وضع قواعد ومقاييس لممارسة قوة المعرفة.
ولابد من وضع دليل يكون أساساً للتحقيق من مدى التزام أو عدم التزام محترفي قوة المعرفة بالمواصفات الضرورية لممارسة هذه المهنة.
ومن هذه المواصفات, الانضباط والرقابة الذاتيين, ومنها تشجيع الرأي العام على إبداء المزيد من الاهتمام والمتابعة, ومنها حمل الحكومات على اتخاذ الاجراءات الرادعة حيث لاتكون الرقابة الذاتية كافية في حد ذاتها.
والمهم في ذلك كله هو عدم تعويق البحث العلمي, أو عرقلة حرية المعرفة, أو كبح المنطلقات الفكرية بفرض القيود, أو ممارسة الرقابة, إنما المهم هو أن لاتنفلت هذه الحريات من الضوابط الاخلاقية والانسانية بحيث يتحول الهدف الى وسيلة والوسيلة الى هدف.