نهاية الإعلام الجماهيري وبداية الإعلام الشخصي
2005/09/21 وليد الشوبكي**
في البداية لم يكن الإعلام جماهيريا بل كان محليا ومحدودا، ثم بزغ وساد خلال القرن العشرين. الآن ثمة بوادر في الأفق لنمط جديد من الإعلام هو الإعلام الشخصي، وهو ليس ردة لمرحلة سابقة من التطور الحضاري للبشر، وإنما قفزة أخرى للأمام تدعمها التكنولوجيا.
بداية ونهاية
يقصد بالإعلام الجماهيري توصيل محتوى معلوماتي ما إلى نطاق واسع من الأفراد عبر عدد محدود من الوسائل؛ كالبث الإذاعي والتلفزيوني والسينما ودور النشر وحديث الإنترنت.
كانت أولى أسلاف سبل "الإعلام الجماهيري" عام ظهور المطبعة؛ فأول نسخة من الكتاب المقدس مطبوعة بطريقة "جوتنبرج" ظهرت حوالي عام 1456، ثم بدأ الإعلام الجماهيري في البزوغ شيئا فشيئا، فكان أول مسرح بلندن عام 1567، والطبعة الأولى من دائرة المعارف البريطانية عام 1771، وصحيفة "تايمز" البريطانية عام 1788، وصحيفة الأهرام المصرية عام 1876، وصحيفة مانشستر جارديان 1821، ثم صارت جارديان عام 1959، بحسب كتاب "التاريخ الاجتماعي للوسائط" الصادر ضمن سلسلة "عالم المعرفة".
وسك مصطلح الإعلام الجماهيري بالفعل في عشرينيات القرن الماضي مع ظهور محطات الإذاعة التي تغطي دولا بأكملها.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين تركزت ملكيات معظم الوسائط الإعلامية في أيدي عدد محدود من الشركات. وبنهاية القرن المنصرم كانت حوالي 90% من وسائل الإعلام الأمريكية مملوكة لـ 7 شركات فحسب، إحداها مثلا شركة "ذي نيوز كوربوريشن" المالكة لمئات الصحف والقنوات التلفزيونية في أوربا وأمريكا، مع ما يتضمنه ذلك من قدرة هائلة لهذه المؤسسات على توجيه الرأي العام العالمي.
نبوءات نيجروبونتي
تنبأ كتاب نيكولاس نيجروبونتي "الحياة الرقمية" (Being Digital) الصادر عام 1995 بأن التطور التكنولوجي سيؤدي إلى أفول الإعلام الجماهيري وظهور الإعلام الشخصي (personal media) كبديل له. وأرجع المؤلف -وهو مدير وأحد مؤسسي "مختبر الإعلام" التابع لجامعة (MIT) الأمريكية- توقعاته إلى تفاعل 3 عوامل:
- تصاعد إقبال منتجي المواد الإعلامية (من قنوات وصحف) على تخزينها في الصورة الرقمية؛ أي في صورة سلاسل هائلة من أصفار (0s) وآحاد (1s) -وهما حرفا اللغة الرقمية- ليسهل التعامل معها؛ لأنها مخزنة على نوع واحد من الوسائط، ويتم التعامل معها بناء على معايير موحدة.
- تسارع تطوير "البيانات الواصفة" (metadata) والتي تسمح للشخص الذي يقوم بتخزين المواد في الصورة الرقمية بإضافة بيانات فرعية تيسر الوصول لها بكفاءة. فمثلا إضافة كلمة "شكسبير" كبيان فرعي لملف يحمل مقالة نقدية عن الشاعر والمسرحي البريطاني، وملف آخر يحوي مسرحية "هاملت" من تأليفه، يؤدي إلى تيسير القدرة على استدعاء المواد الخاصة بشكسبير دون الحاجة للبحث في محتويات كل مادة على حدة.
- انتشار استخدام الإنترنت والشبكة المعلوماتية العالمية.
ورأى المؤلف نتاج تفاعل هذه العوامل الثلاثة سيتلخص في ظهور أنماط جديدة للكيفية التي يختار بها الأفراد المواد الإعلامية ويستقبلونها. وبالتالى لن تكون مضطرا لشراء جريدتك اليومية التقليدية لتقرأ منها مقالاً أو اثنين ثم تلقي بباقي صفحاتها في سلة المهملات، وإنما سيكون بإمكانك أن تحدد بدقة نوعية الموضوعات التي تفضل قراءتها لتصلك دون غيرها على حاسوبك الشخصي كل صباح.
كذلك لن يكون ثمة مبرر لأن تتحمل سخافات الإعلانات التلفزيونية انتظارا لأحد أفلامك المفضلة والذي سيعرض بعد منتصف الليل بثلاث ساعات، فقط كل ما عليك هو أن تختار نوعية الأفلام والبرامج التي تفضلها ليقوم حاسوبك الشخصي بتسجيلها لك لتشاهدها وقتما تريد.
الآن في النصف الثاني من عام 2005 نرى بجلاء تحقق نبوءات نيجروبونتي بالرغم من تركيزها فقط على السلطة التي تمنحها التكنولوجيا للأفراد لاختيار المواد الإعلامية واستقبالها بالطريقة التي يفضلونها.
تقنيات الإنترنت ومصداقية الإعلام
لم يقتصر الأمر فقط على تحقق تنبؤات نيجروبونتي، ولكن منحت تقنيات الإنترنت للأفراد سلطتين أخريين بالغتي الأهمية: التحقق من مصداقية الإعلام الجماهيري التقليدي صنع المحتوى الإعلامي ذاته مع ما يتضمنه ذلك من إيجابيات وسلبيات، ومن هذه التقنيات:
RSS
RSS (هي الأحرف الأولى لكلمات Really Simple Syndication، أي النشر المتزامن بطريقة بسيطة)، وهي إحدى البرمجيات التي يُتوقع أن تغير جذريا طريقة اختيار واستقبال المحتوى الموجود على الإنترنت.
ويستطيع المستخدم من خلال هذه التقنية أن يختار مواقعه المفضلة، وخاصة المواقع ذات المحتوى المتجدد كالمواقع الإخبارية وصفحات المدونات (blogs)، لتصله بصورة متجددة @@ ومؤتمتة محتويات هذه المواقع أو أجزاء منها على متصفح الإنترنت الذي يستخدمه أو على برنامج فرعي، دون الحاجة لزيارة أي من هذه المواقع مرة أخرى.
فمثلا، للاطلاع باستمرار على كل عناوين المقالات الجديدة لمجلة "ذي إيكونوميست" يمكنك أن تستفيد من خدمة RSS التي يتيحها موقع المجلة، بعض المقالات متاحة مجانا وبعضها بمقابل اشتراك، ولكنك في كل الأحوال لن تكون مضطرا لزيارة موقع المجلة مرة أخرى لمتابعة أعدادها.
وتدعم النسخة الحديثة من متصفح "أوبرا" (الذي تطوره شركة نرويجية) استقبال مواد الـRSS. وثمة تقنية مماثلة للـRSS تسمى XML Atom، تقوم بنفس الوظائف، وكذلك تطوير مستمر لبرمجيات النشر المتزامن التى تتيح للمتلقي استقبال المواد حول موضوع واحد (كشركة محلية أو فريق رياضي) من مصادر مختلفة.
ويرجع ذيوع تقنية RSS -ضمن أسباب أخرى- إلى انتشار المدونات. ويقول دان جيلمور في كتابه "نحن الإعلام" (We The Media): إذا اعتبرنا الإنترنت مخزنا هائلا للمحتوى المعلوماتي فإن "المدونات" تكون هي الحوار الدائر بصورة دائمة حول هذا المحتوى، وتكون RSS أفضل وسيلة لمتابعة هذا الحوار بصورة لحظية.
منبّه المحتوى
منبّه المحتوى (Search/News alerts)، تتيح هذه التقنية محركات البحث (مثل جوجل وياهو)، وتسمح بالوصول بصورة متجددة لأي صفحات تضاف للإنترنت ذات صلة بموضوع ذي أهمية للمستخدم؛ وذلك بالاستفادة من إمكانيات محركات البحث في فهرسة وتصنيف مليارات الصفحات التي تحويها حواسيب شبكة الإنترنت بصورة يومية. فمثلا، عند الاشتراك في خدمة منبه المحتوى بكلمات "الأغذية المحورة وراثيا" (GM Foods)، سيُطلب منك تزويد الموقع ببريدك الإلكتروني، ثم يصلك بصورة لحظية عنوان أي صفحة يعثر عليها محرك البحث وتحوي الكلمات محل اهتمامك.
وقد بدأت العديد من الوكالات الإخبارية والصحف، مثل "فوربس" و"نيويورك تايمز" و"نيوز دوت كوم" في تقديم هذه الخدمة مجانا لقرائها، ليصلك عبر البريد الإلكتروني كل مقال من هذه المصادر يحوي معلومات عن شركة مايكروسوفت أو عن الحواسيب المحمولة، على سبيل المثال.
التحقق من مصداقية الأخبار
مواقع التحقق من مصداقية الأخبار مثل"نيوز ترست"، هذا الموقع الذي سيُدشن خلال 3-6 أشهر (كما أوردت مجلة تكنولوجي ريفيو في مايو الماضي) سيكون مرصادا ومدققا لما تورد وسائل الإعلام التقليدية.
ويعكف مبرمجو هذه الشركة على تطوير برنامج يتيح للفرد العادي أن يتعرف على النصوص التي حذفت أو بُدلت من أي خبر يقرؤه على الإنترنت. وأغلب الظن أن هذا الموقع سيمثل اتجاها جديدا ستتبعه شركات أخرى، وهو ما يوفر أداة لإجبار وسائل الإعلام التقليدية على الالتزام بأعلى مستوى من الشفافية.
المدونات
المدونات (blogs)، هي صفحة إنترنتية تظهر عليها تدوينات (مدخلات) مؤرخة ومرتبة ترتيبا زمنيا تصاعديا، تصاحبها آلية لأرشفة المدخلات القديمة. ويكون لكل تدوينة عنوان دائم لا يتغير منذ لحظة نشره، مما يمكن القارئ من الرجوع إليها في وقت لاحق، كما أوردت موسوعة "ويكيبيديا" المجانية على الإنترنت.
وتتيح المدونات للمستخدم أن ينشر على الإنترنت ما يريد، ويحفظ ما ينشر بطريقة منظمة يمكن الرجوع إليها. كل هذا من خلال واجهة بسيطة، تكاد تماثل واجهات مواقع البريد الإلكتروني، وترفع عن كاهل المستخدم عبء التعقيدات التقنية المرتبطة عادة بهذا النوع من النشر، دون الحاجة للمعرفة بأي قاعدة من قواعد البرمجة أو أسس تصميم أو نشر صفحات الإنترنت. ومن أشهر المواقع التي تقدم خدمة المدونات مجانا موقع (Blogger).
ورغم انتشارها التدريجي مع بداية الألفية الثالثة، فإن المدونات حظيت بالذيوع الكبير خلال الحرب الأخيرة على العراق. فخلال هذه الفترة ظهر -ربما للمرة الأولى في التاريخ- ثقل مضاد لوسائل الإعلام التقليدية في تغطية أحداث عالمية مهمة. ولم يكن ذلك الثقل إلا المدونات الشخصية التي يكتبها أفراد من داخل العراق (من جنود قوات الاحتلال أو المواطنين) يصفون فيها صورة أقرب وأكثر تفصيلا لما يحدث على الأرض، ويوجهون الضوء للأحداث التي غض دونها الإعلام التقليدي طرفه عمدا أو بغير عمد.
ويكي (Wiki)
تقنية ويكي (Wiki)، هي نظام في إنتاج ونشر صفحات الإنترنت يسمح لزوار المواقع العاملة بذلك النظام بأن يضيفوا أو يعدلوا أو يكتبوا ما يريدون، وينشروا ذلك بصورة لحظية على الإنترنت. ومن ثم فإن هذه التقنية تتيح الفرصة لظهور مشروعات كبرى قائمة على المشاركة التطوعية من عدد كبير من الأفراد.
ومن أشهر مشروعات هذا النظام موسوعة "ويكيبيديا" التي تبز الموسوعة البريطانية؛ حيث يصل حجم مواد الأولى إلى حوالي 7 أضعاف حجم مواد الثانية.
ويكينيوز
الآن ثمة مشروع آخر هو "ويكينيوز" لإتاحة الفرصة لمشاركة الأفراد العاديين في كتابة الأخبار. والفارق بين الأخبار في المدونات وتلك التي في ويكينيوز أن الأخيرة تتمسك بمستوى أعلى من الاحتراف الصحافي. كما أن المواد متاحة للتعديل والتصحيح من آخرين للوصول إلى أقرب صور الخبر إظهارا للحقيقة. وثمة مشروع مماثل هو موقع أخبار (OhMyNews) الكوري الذي ينتج أخبارا يشارك في إعدادها متطوعون يدققون في موضوعية ومصداقية كل خبر يُنشر على الموقع. ويطلق البعض على هذا النوع الجديد من إنتاج المادة الإعلامية "صحافة المواطنين التعاونية (Collaborative Citizen Journalism).
تقدم لنا هذه التقنيات للفرد العادي سلطات لم يكن ليطمح إليها سابقا، فنرى سلطة الاختيار وأسلوب الاستقبال في (الأولى والثانية)، والتحقق من المصداقية والشفافية في (الثالثة)، وإنتاج مواد إعلامية مكملة أو بديلة للإعلام التقليدي في (الرابعة والخامسة).
أما إذا كانت هذه التقنيات ستؤدي إلى انتهاء عصر الإعلام التقليدي فهو أمر محل تساؤل، ولكن المؤكد أن السلطة والسطوة المطلقتين اللتين كانتا تتمتعان بهما وسائل الإعلام التقليدية هي صور من ماضٍ لن يعود.