أي دور للإعلام في التنمية المحلية؟
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
كيف نفهم مصطلح الإعلام
في
الحقيقة، عندما نقرأ ما يكتب حول مفهوم الإعلام، يستفاد من ذلك أن هذا
المصطلح يعني بصفة عامة، نشر الأخبار والمعلومات والإعلانات على الجماهير
عن طريق وسيلة ما من وسائل الإعلام (1). غير أن هذا التعريف المتداول
وغيره من التعريفات المختلفة، التي يكاد يحسبها الكثيرون جامعة مانعة، هل
من شأنها أن تبين حقيقة مصطلح الإعلام بدقة ووضوح، لاسيما في العصر الحديث
حيث صار الإعلام يتخذ أبعادا جديدة، يلتبس فيها الثقافي بالسياسي، والعلمي
بالأيديولوجي، وما إلى ذلك!
إن التحول العميق الذي شهدته حياة
الإنسان في العصر الحديث، اعترى مختلف المستويات والجوانب، فلم يكن
الإعلام بمنأى أو منجى من ذلك، بقدر ما كان العنصر الأكثر حظا من ذلك
التحول، كيف لا؟ وقد كان نفسه طرفا مشاركا وفعالا في تحول العالم وتبدله،
فلم يعد الحديث عن الإعلام باعتباره مجرد آلية لتوصيل الخبر، وإنما بوصفه
قوة لازوردية تؤثر بشكل سحري في الجمهور، ومن ثم تساهم في تشكيل أفهامهم
وتوجيهها، كما أنه لم يعد الحديث عن الصحافة باعتبارها سلطة رابعة، وإنما
سلطة أولى!
على هذا الأساس، فإن مفهوم الإعلام توسع أكثر، فاقتصرت
تعريفاته اللغوية والاصطلاحية العتيقة على المعاجم والبحوث الأكاديمية
التقليدية، أما الدراسات الإعلامية الحديثة، فلا تلتفت إلى تلك التعريفات
المستهلكة، بقدر ما تربط مفهوم الإعلام بالواقع المعاصر، وما يعتريه من
أحداث ومستجدات سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية، مما سوف يجعل مفهوم
الإعلام يتخذ دلالات جديدة تحيل على السلطة والقوة والتأثير والهيمنة
والسيطرة وغير ذلك. فصاحب كتاب (المتلاعبون بالعقول) هربرت أ. شيللر، يفسر
في مقدمة الكتاب، كيف يتحول الإعلام من جهة أولى، إلى عملية تضليل، ومن
جهة ثانية إلى أداة قهر وقمع! فعندما "يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح
أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي، فإنهم يتحولون إلى
سائسي عقول، ذلك أن الأفكار التي تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف...
ليست في الواقع سوى أفكار مموهة أو مضللة!". ثم "إن تضليل عقول البشر هو،
على حد قول باولو فرير، "أداة للقهر". فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى
النخبة من خلالها إلى "تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة"." (2) وقد توقف
المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه (السيطرة على الإعلام)، عند جانب
الدعاية المضللة للإعلام، فرأى أن مواجهة تمرد القطيع/الشعب في الدولة
الشمولية أو العسكرية يتم بسهولة تامة، إذ "فقط عليك أن تمسك بهراوات فوق
رؤوسهم، وإذا خرجوا عن الخط ما عليك إلا أن تحطم تلك الهراوات فوق رؤوسهم،
ولكن في مجتمع أكثر ديمقراطية وحرية، فقدت هذه الوسيلة، فعليك إذن اللجوء
إلى أساليب الدعاية والمنطق، فالدعاية في النظام الديمقراطي هي بمثابة
الهراوات في الدولة الشمولية، وهذا أمر يتسم بالحكمة".(3) أما المفكر
المغربي د. المهدي المنجرة، فيدرك بعمق أن مفهوم الإعلام هو أكبر مما
تحدده المعاجم، فهو حسب فهمه "المادة الأولية للمعرفة باعتبار أن المعرفة
إعلام قد تم تركيبه وتأليفه حسب تصور معين"(4)، وقد أصبح الإعلام يتجه
حاليا إلى تحويل مجتمع الإنتاج الصناعي إلى مجتمع إعلام ومعرفة، فترتب عن
ذلك أنه صار "مصدر تفاوت وتسلط سياسي وتفوق عسكري وهيمنة اقتصادية
وثقافية"(5).
1- ما هي أهم شروط الإعلام المنشود؟
في خضم هذه
الرؤية، نشأ لدي وعي أكيد بأن الاستمرارية السليمة، لا تتحقق في العصر
الحديث إلا للأمم والشعوب التي تملك إعلاما متوازنا وقويا، وهذا الإعلام
لا يتشكل فجأة، وإنما ينبثق من تراكم علمي ومعرفي، يشهد بتجارب وإنجازات
سابقة مهدت تدريجيا لنشأة هذا الإعلام القوي وتشكله. هكذا فإن آفة العالم
العربي والإسلامي تتحدد في غياب إعلام قوي، يؤدي أكثر من وظيفة حضارية،
بدءا بمحو الأمية... وصولا إلى الدعوة المنظمة إلى الإسلام. مما فتح الباب
أمام الغزو الإعلامي الأجنبي، فأصبح العالم الإسلامي كله حقل تجارب لكل من
هب ودب، من الشرق أو من الغرب!
لذلك، ليس أمامنا إلا أن نمضي على هذا
النحو، ونحن كلنا إيمان بأنه لم يبق في أيدينا إلا رهان واحد، يمكن أن
نبين من خلاله حقيقة حضارتنا الإسلامية؛ للذات وللآخر، للحاضر وللمستقبل،
لأننا جربنا كل الرهانات من دبلوماسية ومقاطعة ومواجهة وتبعية وغير ذلك،
غير أننا فشلنا فشلا ذريعا! وهذا الرهان، هو رهان الإعلام، لكن ليس أي
إعلام!
ترى بأي إعلام نستطيع أن ننفتح على الآخر، فنتمكن من إيصال
حقيقتنا الدينية والحضارية إليه؟ في واقع الأمر إن ذلك الإعلام، الذي يمكن
وصفه بالقوي والمتوازن، يقتضي جملة من الشروط، التي تتحدد أهمها كالآتي:
•
النهج العلمي: والمقصود به حضور البعد العلمي في الأداء الإعلامي
والصحافي، الذي من شأنه أن ينظم المعرفة الإعلامية، مبنى ومعنى، مضمونا
وأسلوبا، فيجنبها السقوط في الإسفاف والعشوائية، لاسيما وأن أغلب ما ينشر
ويبث في وسائل الإعلام يفتقد العلمية والتنظيم والدقة، لذلك فهو يندرج في
نطاق ذلك الخطاب الإخباري أو الدعائي المرحلي، حيث قلما نصادف الصحافة
العلمية، ليس فيما يتعلق بجانب المحتوى فحسب، وإنما بجانب الأداء كذلك.
•
الحس الموضوعي: ويعني طلب الموضوعية باعتبارها "دراسة الظواهر كأشياء لها
وجودها الواقعي الخارجي ومنفصلة عن كل ما هو ذاتي شخصي كالآراء المسبقة
والرغبات والنزعات والأهواء الشخصية"(6). فما أحوج إعلامنا العربي
والإسلامي إلى الابتعاد عن العاطفة والانفعال، وتجاوز لغة الانطباعات إذ
أن معظم ما يقدمه الإعلام العربي والإسلامي، يظل حبيس دائرة الخصومات
الشخصية والصراعات الأيديولوجية، حقا إن هذه الأمور يمكن أن تشكل مضامين
إعلامية ساخنة وجادة، غير أن ذلك يقتضي أداء واقعيا خلوا من الآراء
التنميطية المسبقة والأهواء الشخصية والسياسية.
• تحري المصداقية:
وكلمة المصداقية مشتقة من الصدق، وهي تعني مطابقة القول للعمل، أي أن ما
يقوله الإنسان وما يعد به، ينعكس في أعماله وسلوكاته، وما ينطبق على
الإنسان ينطبق كذلك على الإعلام، الذي يتحتم عليه أن يكون صادقا في نقله
لقضايا الواقع، غير أنه قلما نجد وسائط إعلام تضع في الحسبان جانب الصدق،
فثمة من الوسائط من يطوع تلك القضايا ويوظفها لأغراض إيديولوجية وسياسية،
وثمة من يروج مغالطات لا أساس لها من الصحة والواقعية، لذلك نشأت في أذهان
الناس مسلمات تحط من قيمة الإعلام، ولا تحسبه إلا ناقلا للأراجيف، ومسوقا
للشائعات.
• الرؤية المتوازنة: ويراد بها أن يشمل الإعلام جوانب
الحياة ومجالاتها كلها، فلا يهتم بمجال معين على حساب مجال آخر، كالرياضة
أو السياسة أو الأخبار اليومية، كما نجد في أغلب وسائل الإعلام العربي
والإسلامي، في حين يكاد ينعدم الإعلام التربوي أو التعليمي، ويقل إعلام
الطفل، وغيرهما. هذا على المستوى العام، أما على المستوى الخاص، الذي يعني
به التوازن الذاتي لكل وسيلة إعلام على حده، سواء أكانت جريدة أم إذاعة أم
قناة أم موقع رقمي أم غير ذلك، فينبغي أن تشمل تلك الرؤية كل حيثيات تلك
الوسيلة، من شكل ومضمون وأداء وآليات وما إلى ذلك.
• بصيرة
الاستشراف: إن الإعلام لا يقف عند وصف الكائن ونقله فحسب، وإنما يضيف إلى
ذلك خاصية أساسية وهي التوقع بما سوف يحصل، واستشراف الممكن، ولا تتأتى
هذه الخاصية إلا لذلك الإعلام الموجه والمتمكن، الذي يكتسب مع مرور الأيام
وتراكم التجارب، بصيرة استشرافية تستشعر بناء على أحداث الواقع ومعطياته،
كيف سوف يكون المستقبل القريب أو المتوسط، وبنسبة أقل المستقبل البعيد.
كيف نفهم مصطلح التنمية؟
إن
الاقتصاديين يكثرون من استعمال عبارة التنمية، التي يقصدون بها رفع مستوى
الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد، لكن هذه العبارة لم تبق محصورة في
المجال الاقتصادي، بقدر ما نزحت نحو أغلب حقول العلوم والمعارف الإنسانية،
فيطلق على أية طريقة تستهدف تحسين وضعية ما أو تطويرها، من حالة الرداءة
إلى حال الجودة والعطاء تنمية، التي يعبر عنها في المعاجم اللغوية بتكثير
الشيء وزيادته؛ فتنمية النار في إشباع وقودها، وتنمية التجارة في رفع
أرباحها ورأسمالها، وتنمية الجوار في تطوير العلاقات فيما بين الدول
المجاورة، وهكذا دواليك.
وقد تناول د. إبراهيم العيسوي قضية التنمية
في كتابه (التنمية في عالم متغير)، حيث تعرض إلى التطور التاريخي لهذا
المصطلح، يقول: "إذا تتبعنا تطور مفاهيم التخلف والتنمية، فسوف نجد أنها
قد مالت في أول الأمر إلى التركيز على جانب النمو الاقتصادي وما يتحقق فيه
من إنجاز. فقد كان التعريف الشائع للبلدان النامية منذ أواخر الأربعينات
حتى أواخر الستينات أنها البلدان التي ينخفض فيها مستوى الدخل الفردي
كثيرا بالقياس إلى مستواه المتحقق في البلدان المتقدمة. وعرفت التنمية
بأنها الزيادة السريعة والمستمرة في مستوى الدخل الفردي عبر الزمن".(7)
إلا أنه سوف يكتشف بأن هذا المفهوم الذي يختزل التنمية في مجرد النمو
الاقتصادي السريع، ضيق وغير صائب، لأن ثمة بلدانا نامية عديدة، كما يستخلص
الباحث، حققت معدلات نمو للدخل القومي قريبة من المعدل الذي حدده خبراء
التنمية، غير أنها بقيت مستويات المعيشة بها متردية، وظلت الكثير من
قطاعاتها تتخبط في الفقر والجهل والمرض والتخلف. (
على هذا الأساس، فإن
مفهوم التنمية سوف يحافظ على البعد الاقتصادي، وفي الوقت ذاته يضيف إليه
أبعادا متعددة، وهكذا فإن خبرة الخمسينات والستينات سوف تساعد "على صقل
المفهوم الأوسع للتنمية، بتحجيم دور العنصر الاقتصادي في مفهوم التنمية
(أي النمو الاقتصادي)، وبإبراز دور الجوانب المؤسسية والهيكلية والثقافية
والسياسية".(9)
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن المؤرخين لمفهوم التنمية يميزون بين ثلاث مراحل أساسية مر بها هذا المفهوم، وهي على التوالي:
•
مرحلة الفكر الرأسمالي: وتعتبر فيها الحرية الفردية من أهم دعامات النموذج
الرأسمالي، الذي يمنح الفرد حرية تكاد تكون مطلقة، على حساب الجماعة،
وتشمل هذه الحرية مختلف ممارسات الحياة وجوانبها، كالدينية والثقافية
والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد ارتبط ظهور مفهوم التنمية في
الفكر الرأسمالي بما هو اقتصادي، حيث يتمتع الفرد بالحرية في نشاطاته
الاقتصادية، ولا تتدخل الدولة فيها، إلا بشكل جزئي، عندما يتعلق الأمر
بالضرائب، أو بالحماية النسبية من المنافسة. وقد سعت العديد من دول العالم
الثالث، بما فيها المنطقة العربية، إلى استيراد النموذج التنموي
الرأسمالي، غير أنها لم تفلح في أن تستنبته بشكل سليم ومثمر في مجتمعاتها
النامية، بقدر ما ظلت تتخبط في مأزق التبعية للعالم الرأسمالي، وانتظار
معوناته الاقتصادية والفكرية والتكنولوجية، فكانت النتيجة أن فشلت معظم
مشاريع التنمية المستوردة من الغرب.(10)
• مرحلة الفكر الاشتراكي: إن
النموذج الماركسي جاء كرد فعل على التوجه الرأسمالي الغربي، فسعى حثيثا
إلى استبدال أغلب مبادئ الرأسمالية ومقولاته، برؤى مثالية جديدة، وقد
انطبق ذلك أيضا على مفهوم التنمية، إذ يذهب الاشتراكيون التقليديون إلى أن
التغيير الواقعي لا يتم إلا بالتنمية الاجتماعية الموجهة، اعتبارا بأن
التغيير في الفكر الماركسي لا يتأتى إلا عن طريق الثورة، والانقلاب الجذري
على المنظومة الاجتماعية القديمة، وتعويضه بتركيبة مجتمعية جديدة، تتأسس
على الجماعة وليس على الفرد، كما في النظام الرأسمالي.
• التوجه
الجديد: الذي أصبح فيه الإنسان أكثر وعيا بأهمية المجتمع المدني في تنمية
الواقع الذي ينتظم فيه، وقد أدت منظمة الأمم المتحدة دورا مفصليا في نشر
هذا النوع من الفكر، من خلال مختلف التقارير والمنشورات والمواثيق التي
تصدرها، ويتحدد مفهوم التنمية لديها في أنها "ليست بالعبء، وإنما هي فرصة
فريدة - فهي تتيح، من الناحية الاقتصادية، إقامة الأسواق وفتح أبواب
العمل؛ ومن الناحية الاجتماعية، دمج المهمشين في تيار المجتمع؛ ومن
الناحية السياسية، منح كل إنسان، رجلاً كان أم امرأة، صوتاً وقدرة على
الاختيار لتحدّي مسار مستقبله".(11)
وما يسترعي الانتباه أن أغلب
المنظرين العرب والمسلمين لمفهوم التنمية، يقتصرون في ذلك على التفسيرات
الغربية، كما أنها هي وحدها الموجودة، وأن الإنسان لم يتمتع بوعي تنموي
إلا في ظل الحضارة الغربية الحديثة، في حين أن الدراسات التاريخية تشير،
بشكل أو بآخر، إلى أن مفهوم التنمية قديم قدم الإنسان، وأن أية مجموعة
بشرية إلا وشهدت نوعا من التنمية المادية أو الموضوعية. وتجدر الإشارة في
هذا الباب، إلى أن التاريخ الإسلامي لم يخل من البعد التنموي، في مختلف
مستوياته، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والعسكرية، وغير
ذلك، بل وأن المتفحص لتعاليم الدين الإسلامي، يدرك مدى حضور الهاجس
التنموي في العديد من النصوص القرآنية والحديثية، هذا ناهيك عن اجتهادات
العلماء، وتأملات الفلاسفة، وتوجيهات المربين، وإنجازات الحكام.
وقد
تناول د. إبراهيم العسل هذا الموضوع في كتابه (التنمية في الإسلام)، يقول:
"يقوم التصور الإسلامي للتنمية على أساس أن الله سبحانه وتعالى قد خلق
الكون واستخلف الإنسان في الأرض ليقوم بعمارتها، وفق منهج الله وشريعته،
وقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان متميزا عن سائر المخلوقات ليكون قادرا
على أداء هذه المهمة، وهيأ له بفضله وكرمه كل ما يمكنه من أدائها، وأنه
على ضوء قيام الإنسان بهذه المهمة يتقرر مصيره ويتحدد مستقبله في الدنيا
والآخرة".(12) وقد توقف الباحث عند مجموعة من النصوص القرآنية والأحاديث
النبوية، التي تتضمن إشارات بليغة حول مفهوم التنمية، مثل هذه الآية
الكريمة التي تنبه على عدم التبذير، (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن
السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان
لربه كفورا)،(13) فمضمونها الداعي إلى عدم الإفراط والإسراف، لا يختلف
كثيرا كما هو وارد في مواثيق الأمم المتحدة، وقوانين العديد من الدول،
التي تحث على ترشيد النفقات وتوجيهها، وعدم تبذير الموارد البيئية
والطبيعية خاصة. ثم إن خاصية التنمية في الإسلام "ليست عملية إنتاج فحسب،
وإنما هي عملية كفاية في الإنتاج مصحوبة بعدالة في التوزيع، وأنها ليست
عملية مادية فقط، وإنما هي عملية إنسانية تهدف إلى تنمية الفرد وتقدمه في
المجالين المادي والروحي".(14)
أشكال وتجليات الإعلام المحلي
غالبا
ما يختزل الناس الإعلام في جملة من الوسائل التواصلية، سواء التقليدية
كالجرائد والمجلات والملصقات والإذاعات والتلفاز وغيرها، أم الحديثة
كالفضائيات والإنترنت والهواتف والفاكسات، وما إلى ذلك. هكذا فإن فهم
الناس ينصرف دوما إلى وسائل الإعلام المستوردة من خارج الواقع الذي يعيشون
فيه، كأن الإعلام ما هو إلا منتوج أجنبي وافد عليهم، وهم يلغون بذلك، بلا
وعي منهم، العديد من الأشكال الإعلامية التي ينتجونها ويتداولونها، إما؛
• لأنهم لا يستوعبون المفهوم الحقيقي لمصطلح الإعلام، ووسائل الاتصال.
• أو لأنهم يرون في بعض الأشكال الإعلامية السائدة في واقعهم، أدوات لا ترقى لأن تشكل وسائل إعلامية مرضية ومقبولة.
• أو لأنهم ينبهرون بالوسائل الإعلامية الأجنبية، مما يدفعهم إلى تبنيها، واستبدال وسائلهم التقليدية بها.
من
هذا المنطلق، ينبغي تصحيح هذه الرؤية المغلوطة، والإقبال على الأشكال
الإعلامية المتنوعة التي ينطوي عليها واقعنا، وتتضمنها ثقافتنا المغربية
والأمازيغية، لأن الإعلام الحقيقي والجاد لا يكون كذلك إلا إذا كان نابعا
من البيئة التي يوجد فيها، أما إذا تم استيراده من الخارج، وقمنا بإسقاطه
على مجالنا التداولي، فإن ذلك سوف ينتج عنه لا محالة إعلام مفصول عن
الواقع، لا يعبر عن هموم الناس وانشغالاتهم.
وبالنظر إلى واقعنا المحلي، يمكن تحديد أهم مكوناته الإعلامية من خلال الأشكال التواصلية الآتية:
•
أبراح/المنادي: وعادة ما يستعمل صوته أو آلة معينة لإيصال صوته، كالبوق
مثلا، وتتعدد مظاهره حسب الرسائل الإخبارية والفكرية التي يسعى إلى
إيصالها، كأن تكون رسالة تجارية، كما هو حال البائعين في الأسواق، أو
رسالة ترفيهية، كما هو الشأن بالنسبة إلى (الحلايقيين) في الأسواق، أو
رسالة دينية، وخير تعبير على ذلك هو صوت المؤذن الذي يدعو الناس إلى إقامة
شعيرة الصلاة، أو رسالة ثقافية وأدبية، كما هو الحال بالنسبة إلى الشاعر
الأمازيغي (أمذياز)، الذي يتنقل عبر المداشر والقبائل ليلقي أشعاره على
الناس، وغير ذلك من الرسائل.
• الملصقات: وهي تتضمن مختلف الإعلانات
الإخبارية، التي تعلم بنشاط أو تظاهرة معينة، وعادة ما تستعمل هذه الآلية
في واقعنا، من قبل المؤسسات التعليمية والجمعيات الثقافية والرياضية.
بالإضافة إلى إشارات المرور، ولوحات المحلات التجارية ومختلف المؤسسات،
التي تكون ملونة، أو مضاءة، أو متحركة.
• المنشورات والأدلة: وهي شكل
تواصلي مفضل لدى المؤسسات البنكية ووكالات الأسفار والتأمين والاتصال،
أصبحت في متناول كل مواطن، فهي معروضة في أغلب هذه المؤسسات.
• المنابر
الورقية: كالجرائد والمجلات والكتب، وهي على المستوى المحلي شحيحة نوعا
ما، غير أنه بدأ يظهر البعض منها في الآونة الأخيرة.
• المنابر
الرقمية: من مواقع إلكترونية إخبارية ومدونات ومنتديات، وغيرها كثير، وقد
أدى هذا الشكل دورا كبيرا في تفعيل الإعلام المحلي، والكشف عن كثير من
القضايا التي كانت مطوية، والتعريف بالواقع المحلي بدون حواجز مادية أو
رقابية.
• الإعلام المدرسي: ويتمثل في مختلف الأنشطة التربوية التي
تقوم بها المؤسسات التعليمية المحلية، كالمسابقات والأمسيات الثقافية
والمسرحيات والاجتماعات، وغير ذلك.
• الإعلام الشعبوي: ويتجلى من خلال
مختلف السلوكات التواصلية اليومية، كالمحادثات العادية، ومحادثات الغيبة
والنميمة، والتجمعات الشعبية، والتظاهرات الرياضية، والاحتفالات،
والجنائز، والأعراس، والشعائر الدينية، وغير ذلك.
بناءً على هذه
الأشكال التواصلية التي يزخر بها الواقع، تتعين أهم مصادر الإعلام المحلي،
التي يمكن للصحافيين والإعلاميين المحليين الاعتماد عليها، فيما يأتي:
• الجمعيات بمختلف أنواعها (ثقافية، رياضية، تنموية، فلاحية...).
• المؤسسات التعليمية العمومية والخصوصية.
• المساجد ودور العبادة.
• مؤسسات الدولة (الجماعات، القيادات، الدوائر، المندوبيات، الدرك، الأمن، المراكز الصحية...).
• الوكالات التجارية والخدماتية والمالية (أبناك، أسفار، بريد، اتصالات، وكالات عمومية، تأمينات...).
• دور الشباب والثقافة (ملاعب، نوادي، مقاهي الإنترنت، مكتبات...).
• المواقع الرقمية والمنتديات والمدونات.
• المقاهي العامة والأسواق والحمامات...
كيف يساهم الإعلام التنموي في تنمية الواقع؟
يعتبر
الإعلام التنموي أرقى مستوى بلغه الإعلام في تطوره التاريخي، الذي مر فيه
بمراحل متعددة، وتسلق مستويات مختلفة، تتنوع بتنوع سواء الحقول المعرفية
التي يشتغل عليها الإعلام، أم التوجهات الفكرية والأيديولوجية التي تهيمن
على الممارسة الإعلامية، وتجدر الإشارة إلى أن تلك المستويات تتحدد حسب
الأبعاد التي يتخذها الإعلام، كالأيديولوجي، والوصفي، والاجتماعي،
والديني، والتربوي، والاقتصادي، وهلم جرا.
ولا يعني هذا أن هذه
المستويات كلها ما عادت تجدي، وإنما تحضر بشكل لافت في المعادلة الإعلامية
المعاصرة، غير أنها طورت أكثر من قدراتها ومنهجياتها ومقاصدها، لتواكب
البعد التنموي للإعلام، فتنخرط كلها في عملية التنمية التي يشهدها الواقع.
ويعود الفضل تاريخيا في نشأة هذا النوع من الإعلام، إلى الباحث ويليبر
شرام الذي ألف كتابا في وسائل الإعلام والتنمية، وهو يرى أن الإعلام
التنموي فرع أساسي ومهم من فروع النشاط الإعلامي، "وهو قادر على إحداث
التحول الاجتماعي والتغيير والتطوير والتحديث، يتم فيه وضع النشاطات
المختلفة لوسائل الإعلام في سبيل خدمة قضايا المجتمع وأهدافه العامة أو
بمعنى آخر هو العملية التي يمكن من خلالها توجيه أجهزة الإعلام ووسائل
الاتصال الجماهيري داخل المجتمع بما يتفق مع أهداف الحركة التنموية ومصلحة
المجتمع العليا". (15)
كما أنه أومأ في هذا الكتاب الطلائعي، إلى أهم
الأدوار التي تؤديها وسائل الإعلام، كأن "توسع من آفاق الناس، ويمكنها أن
تلعب دور الرقيب، ويمكنها أن تشد الانتباه إلى قضايا محددة، وكذلك يمكن أن
ترفع طموحات الناس، ويمكنها أن تصنع مناخا ملائما للتنمية، ولا يخفى في
النهاية، ما لوسائل الإعلام من مهمات تعليمية ودور في صناعة القرارات".(16)
هكذا
تتضح أهمية الإعلام التنموي في حياة الإنسان المعاصر، وتتحدد أهم ملامح
هذا الإعلام، وهي ملامح أساسية فيه بإجماع العديد من الأكاديميين
والباحثين والمتخصصين في علوم الإعلام، كالآتي:
• الإعلام التنموي
تجاوز الأساليب التقليدية المتمثلة في نقل المعلومة فقط، إلى المشاركة
الفعالة في كافة خطط التنمية، وتتبع سيرها من خلال مختلف الأنشطة والأشكال
الإعلامية.
• يظهر دور الإعلام التنموي بجلاء أثناء تعرض الواقع إلى
أزمات وحالات طوارئ مفاجئة، من خلال اعتماد الإعلام على استفزاز الواقع
اليومي وخلق جو من الألفة والتفاعل مع الضحايا والمتضررين.
• يساهم
الإعلام التنموي في تلقين الناس المهارات والأساليب اللازمة التي تقتضيها
عملية التحديث والتطور، لاسيما الجرأة وانتقاد المسئولين وعدم الخوف منهم.
•
يشارك الإعلام التنموي في تنمية المجتمع المباشرة من خلال شتى الأنشطة
والإسهامات، كمحو الأمية الهجائية، وتنظيم الدورات التكوينية، والتثقيف
النسائي، والتربية، وغير ذلك.
• كلما كان الإعلام التنموي متطورا في
أدائه ووسائله، كلما أثر ذلك أكثر في الواقع، فالدراسات تجمع على أن ثمة
ارتباطا وثيقا بين النمو الاقتصادي ونمو وسائل الإعلام.
• وفيما يتعلق بتوظيف وسائل الإعلام في التنمية المحلية ينبغي؛
1. أن ترتبط تلك الوسائل بالبيئة المحلية وثقافة المنطقة.
2. التنسيق الشمولي مع مختلف المؤسسات، سواء أكانت رسمية، أم مدنية.
3. أن يكون المشرفون على تلك الوسائل الإعلامية في الغالب الأعم من أبناء المنطقة، يستوعبون مشاكل الناس وحاجياتهم.
بناء على ما سبق ذكره، وارتباطا بواقعنا المحلي، نخلص إلى المحصلات الآتية:
•
أولا: التنمية هي مسؤولية الجميع، سلطات ومواطنين، مؤسسات الدولة ومؤسسات
المجتمع المدني، لذلك ينبغي تغيير تلك النظرة التقليدية التي كانت تربط كل
شيء بالدولة.
• ثانيا: آن الأوان لتجاوز مرحلة الإعلام التنميطي
الوصفي، المبني على المعارضة من أجل المعارضة، كما كان سائدا في الماضي،
إذ ظل الإعلام مرهونا بما هو سياسي وأيديولوجي وحزبي، متأثرا به، والآن
أصبح الإعلام هو الذي يؤثر فيما هو سياسي، فهو ليس السلطة الرابعة كما كان
سائدا في الأدبيات التقليدية، وإنما السلطة الأولى!
• ثالثا: الانتقال
من مرحلة الدعاية والتعبئة والخطابات الأيديولوجية، إلى مرحلة الإنتاجية،
من خلال جمعيات المجتمع المدني التنموية، ويؤدي الإعلام دورا محوريا في
هذه التنمية، باعتباره ليس محفزا فحسب، وإنما محفز وموجه وطرف أساس في
صناعة هذه التنمية.
هكذا ينبغي أن تشكل هذه العناصر الثلاثة موجهات
أساسية لإعلامنا التنموي المحلي، حتى ينخرط في تطوير واقعنا المتردي،
ويسهم بقسط وافر في التنمية المحلية، التي تسعى حثيثا إلى تحقيقها كل
مكونات المجتمع وأطيافه.
توجيهات أساسية للكفاءات الإعلامية المحلية
أود
أن أضع في هذا المبحث بعض التوجيهات الأساسية، التي ينبغي لكل إعلامي أو
صحافي محلي أن يستحضرها في ممارسته الإعلامية اليومية، سواء في الفضاءات
العامة، كالشوارع والملاعب والمقاهي، أم في المؤسسات الرسمية، أم في
جمعيات المجتمع المدني، أم في غيرها من المؤسسات العمومية والخصوصية، أم
عبر مختلف وسائل الإعلام الورقية والرقمية.
النزول إلى الواقع وتوعية العامة
والمقصود
بذلك الشعور والاكتواء بهموم الناس، قبل الكتابة عنها، إذ لا يقتصر
الإعلام على وصف تلك الهموم فحسب، وإنما يبحث في أسبابها وعواملها الخفية،
لا ليواسي الناس ويرثي حالهم، بل ليكون طرفا مهما في حل مشاكلهم، والإجابة
عن أسئلتهم الإشكالية والمستغلقة، ففي الغرب على سبيل المثال، توجد مكاتب
ومؤسسات تتخصص في هذا المجال، وتقدم لها الميزانيات الهائلة للبحث في
مشاكل الناس ومعالجتها، وتقديم التوعية الكافية حول كيفية تجنبها، أو
كيفية التعامل معها.
نموذج ظاهرة الطلاق: يقوم الإعلام المحلي (الصحافة
المكتوبة، الصحافة الرقمية، الإعلام المدرسي، الجمعيات...) بتناول ظاهرة
الطلاق داخل المجتمع، بالاستناد إلى الحالات المطروحة على المحكمة،
والإحصاءات المتوفرة لدى المصالح القضائية المختصة، إضافة إلى تصريحات
الأطراف المعنية (أصحاب الدعاوى، الضحايا، القضاة، المحامون...)، ثم بعد
ذلك يقوم الإعلام بدراسة موضوعية لهذه الظاهرة، والتنقيب عن أسبابها
الخفية والمعلنة، وعواقبها على الأطفال وعلى المجتمع، ثم يطرح مجموعة من
الحلول الممكنة، ويدعو إلى ثقافة الإصلاح، وتوعية الرأي العام بذلك،
بإشراك بعض الجمعيات والمصالح النسوية التي تمت بصلة ما إلى هذا الإشكال،
على أن تكون طرفا مباشرا وأساسا في هذا الإصلاح، دون إغفال دور الأئمة في
هذا المجال، بحيث يلتمس منهم هذا الإعلام التنموي التكثيف من خطبهم
ومواعظهم في هذا الصدد. وينطبق هذا كذلك على العديد من المعضلات
الاجتماعية، كالعنف المنزلي، واستغلال الأطفال، والهدر المدرسي، والتسول،
وتعاطي المخدرات، وغير ذلك.
البحث عن أسباب الخلل في الواقع
كما
هو معلوم لا يخلو أي مجتمع من نقص ما أو خلل في تركيبته البنيوية، أو
التسييرية، أو غيرهما، لذلك فوظيفة الإعلام التنموي هي البحث الحثيث عن
مكامن الخلل الذي يعتريه، سواء في بعده البيئي، أم التعليمي، أم
الاجتماعي، أم الثقافي، أم التنظيمي، وما إلى ذلك، فلا يكتفي الإعلام بوصف
المشكلة، وإنما مدعو إلى التنقيب في العوامل المؤدية إليها، ثم تقديم
الحلول الناجعة والممكنة لها.
نموذج عدم اشتغال المصابيح الكهربائية في
شارع معين: ففي هذه الحالة لا يكون دور الإعلام هو توصيف هذا العطب،
والكتابة عنه بأسلوب الفضح، كما كان سائدا في صحافة المعارضة التقليدية،
التي ربتنا على المعارضة من أجل المعارضة، وإنما يقتضي المقام من الصحافي
والإعلامي أن يحيط وصفا بهذه الحالة، وبشكل دقيق وموضوعي، بالكلمة
والصورة، ثم يتوجه إلى الجهات المسئولة والمعنية (مجلس بلدي، سلطات، شركة
كهرباء، مواطنون...)، ويسألها حول هذا المشكل بأسلوب موضوعي مبني على
الحوار البناء، ليكون طرفا مهما في تسوية ذلك الخلل، فهو بذلك الأسلوب يحث
الجهات المسئولة على خدمة المجتمع، أما أنه إذا ما سارع إلى نشر ذلك الخبر
دون التحقق منه ومساءلة الجهات المعنية، فإنه لا يخدم المجتمع في شيء،
بقدر ما يعرقل مشروع التنمية، بزرع الصراع بين الإعلام والدولة، بين
المثقفين والمسئولين، بين المواطنين والسلطات، كما أن أي مغالطة أو مزايدة
تعتري ذلك الخبر، قد تجعل المسئولين يضيقون الخناق على الإعلاميين، بل
ويعتقلونهم باسم القانون! ثم إن الإعلامي عندما يتوجه إلى الجهات المعنية،
عليه أن لا يتعامل معها بأسلوب انفعالي واحتجاجي، وإنما بأسلوب لبق
وتعاوني، إذا ما أراد أن يقدم إعلاما تنمويا، يشارك من خلاله في تنمية
واقعه وتطويره.
الحضور المستمر للإعلام
ويتم هذا الحضور في
مختلف الأنشطة المقررة التي تقوم بها مصالح السلطة المحلية وهيئات المجتمع
المدني، بل وعلى الإعلام أن يكون طرفا مهما في تلك الأنشطة، ليس لتغطية
الحدث فحسب، وإنما لمساءلة الجهات المعنية، وتقديم الملاحظات الجادة، على
هذا الأساس على منظمي تلك الأنشطة أن يخبروا وسائل الإعلام المحلية بذلك،
في مقابل ذلك، يتوجب على الإعلاميين المحليين الانفتاح على مكونات الدولة
وهيئات المجتمع المدني، بأسلوب جاد، يرتكز على التعاون والتفاعل والإصغاء
والنقد البناء.
نموذج الاجتماع الدوري للمجلس البلدي: إذ يتحتم على
المجلس البلدي أن يخبر بذلك الحدث وسائل الإعلام المحلية، دون تمييز أو
استثناء، بل ويستدعيها لحضور الاجتماع، كما على وسائل الإعلام أن لا تؤدي
دور الند والفاضح، ولا تمارس النقد المعارض والهدام، وإنما أن تصغي بتمعن،
وتطرح الأسئلة العميقة والجادة، وتغطي الحدث بشكل موضوعي ودقيق وبعيد عن
المغالطات والمزايدات والانفعالات. فرب سؤال وجيه يطرحه إعلامي ناشئ على
أعضاء المجلس البلدي، قد يكون سبب لمشروع متميز وناجح، خير من ألف مقترح
أو خطة عمل يطرحها المجتمعون كلهم!
أهمية الإعلام التربوي
يعد
الإعلام المدرسي والتربوي مكونا رئيسا في الإعلام التنموي، وهو لا يعني
فقط المجلات الورقية والحائطية التي تصدرها المؤسسة التعليمية، ولا
المواقع الرقمية الخاصة بالأطفال، ولا الرسائل الإخبارية الموجهة إلى
الآباء والأمهات، وإنما هو أكبر من ذلك كله، إنه التوعية المتدرجة للطفل
بقيمة الإعلام في حياته، فالوعي هو أس التربية، أما المعارف والمعلومات
فيلتقطها الطفل ويستوعبها بالتكرار والحفظ، أما الخبرات واستخدام الأدوات
فيكتسبها بالممارسة والتمرن. ويساهم الإعلام (إلى جانب المعلم، البيت،
المحيط...)، بقسط وافر في زرع ذلك الوعي وتشكيله، وتظل الشاشة، في يوم
الناس هذا، أهم وسيلة ينجذب إليها الطفل؛ تقدم له الصورة والحركة والكلمة
والأغنية واللعبة والتسلية... غير أنها تحرمه من أهم شيء، وهو الحنان
والدفء الأسروي، الذي كانت تقدمه الوسيلة الإعلامية التقليدية له، والتي
هي الجدة، التي كانت بمثابة الشاشة؛ تحضن أحفادها بدفء، وتشرع في تلقينهم
تجارب الحياة ومعارفها، لكنه باجتياح الشاشة لواقعنا المحلي، تم إقصاء
الجدة وعزلها، وأصبح أطفالنا مدمنين على الصورة والشاشة، التي زرعت فيهم
سلوكات غير سوية، كالانعزال، والعنف، والأنانية، وعدم التركيز، وغير ذلك.
وهذا لا يعني أن هذا المعطى الإعلامي/الشاشة ذو تأثير سلبي على الطفل،
فوجوده اليوم صار أمرا لازما، لا يمكن الاستغناء عنه، لوظائفه المتعددة،
كالتعليم والإخبار والترفيه، وما إلى ذلك، إلا أن إفراط الطفل في الإقبال
عليه، قد تترتب عنه نتائج عكسية، لذلك ينبغي أن تكون علاقة الطفل بالشاشة
موجهة ومراقبة. "وعلى الرغم من دور التلفزيون في النمو الاجتماعي والثقافي
للطفل، فإنه قد يؤدي إلى نتيجة عكسية وينمي لدى الطفل شخصية ضعيفة منفصلة
عن مجتمعها إذا ما ركز على عرض قيم وثقافات أخرى تؤثر على ذاتية الطفل
الاجتماعية والثقافية".(17)
على هذا الأساس، يتحتم على المدرسة أن
تؤدي دورا رياديا في توعية الطفل بقيمة الإعلام، ليس نظريا فحسب، وإنما
ميدانيا كذلك، عبر إشراكه في مختلف الممارسات الإعلامية، عن طريق تنظيم
ورشات إعلامية، تتضمن مجلات وجرائد ورقية ورقمية، مسرحيات، إذاعة الطفل،
رسم كاريكاتوري، معرض الصور الفوتوغرافية، إعلاميات، ونحو ذلك.
رقمنة الإعلام المحلي
ويقصد
بهذه الرقمنة تأهيل الأشكال الإعلامية المحلية لتواكب التحولات الجديدة،
التي أحدثتها الثورة الرقمية في وسائل نقل المعلومة والتواصل والإعلان
وتبادل الخبرات والانفتاح على التجارب الوطنية والدولية، ويتوجب على مختلف
المؤسسات العمومية والخصوصية، من مصالح الدولة، ومكونات المجتمع المدني،
ومؤسسات التعليم، وأبناك، وشركات... أن تخوض هذه التجربة، التي أصبحت من
مستلزمات المرحلة الراهنة. لاسيما وأن ذلك أصبح لا يتطلب إمكانات مادية
هائلة، إذ أنه يمكن أن تكتفي في البداية بتجربة المدونات والمنتديات
المجانية، فتعرف بمكونات المجتمع المحلي، على مختلف مستوياته.
إن حضور
واقعنا المحلي على صعيد الشبكة العنكبوتية يظل محتشما وخجولا، ولا يمثل
بتاتا القيمة البشرية والعمرانية والمؤسسية والثقافية للمنطقة، التي
يقطنها عشرات الآلاف من الناس، وتتضمن مختلف المؤسسات الحكومية والتعليمية
والجمعوية والبنكية والدينية والرياضية والخدماتية، وغير ذلك، ومقبلة على
تحديات هائلة، ولا تملك إلا بضعة مواقع إلكترونية هزيلة معدودة على أصابع
اليد الواحدة!
إن التركيز على المكون الرقمي في تنمية الواقع، أصبح
أمرا لازما ينبغي للجميع، سلطة ومنتخبين ومجتمعا مدنيا ومواطنين، التفكير
فيه بجدية واستراتيجية وبعد نظر، لأن الإنترنت أصبح الوسيلة الأهم للتواصل
السريع والبليغ، خصوصا وأنه اكتسح أغلب البيوت، فأصبح في متناول المرأة
والطفل والمثقف... والجميع.
لذلك كله، أكرر الدعوة إلى استثمار هذا
المكون، والشروع في الرقمنة التدريجية لمختلف مؤسسات المجتمع، لأنه من
خلال هذه الوسيلة تتحقق العديد من المكاسب، كالتواصل، والتثقيف، والتعريف،
وتبادل الخبرات، وهكذا دواليك.
دعم الإعلام المحلي
بناء على ما
سلف، إن مطلب الرقمنة يتأتى، إما بشكل فوري عن طريق استثمار بعض الإمكانات
الرقمية المجانية المتاحة، وهذا حل آني ومؤقت، وإما بشكل منهجي ومخطط،
ويقتضي المزيد من الجهد والتضحية، لذلك فالحاجة إلى دعمه خصوصا المادي
واردة، حتى يتحقق النهوض بالإعلام المحلي، ونقدم أنموذجا متميزا على صعيد
المنطقة التي ننتمي إليها. ثم إن أغلب الإعلاميين والصحافيين الشباب
المحليين، الذي يتجشمون هذا العبء الثقيل، لا يعملون، أو أنهم يمارسون
مهنا بعيدة كل البعد عن ميدان الإعلام، أو أن دخلهم لا يسمح لهم بالإسهام
المادي في تأهيل الإعلام المحلي وتطويره، فهم في مسيس الحاجة إلى مختلف
الأدوات التي تساعدهم على أداء خدمتهم الإعلامية التطوعية، كالكتب
والجرائد والكاميرات والبطاريات وتعويضات النقل، وغيرها، ولم لا في
المستقبل تعويضات على الخدمات الإعلامية التي يقدمونها.
ولا يتحقق هذا الدعم إلا بواسطة تضافر جهود مختلف المكونات التي يتشكل منها واقعنا المحلي، مثل:
•
مساهمة الجماعات الحضرية والقروية: وذلك عندما تتحقق لها الموارد المادية
الكافية، أو أنها توجه بعض الموارد المخصصة للمجتمع المدني في هذا
المضمار، وتفرض على المستفيدين منها رقمنة أنشطتهم وإسهاماتهم، إذ ينبغي
لكل جهة تتلقى الدعم أن تفتح واجهة إلكترونية خاصة بها، وتخدم من خلالها
الواقع المحلي.
• مساهمة المؤسسات البنكية والوكالات الخدماتية: إذ
تساهم هذه الجهة في تمويل وسائل الإعلام المحلية، وتقديم يد العون إلى
الصحافيين والإعلاميين، في شكل تعويضات مادية مقابل خدمة الإشهار مثلا.
•
مساهمة المحسنين: إذ يلاحظ أن هذه الفئة غالبا ما تساهم فيما هو ديني محض
فحسب، فقد آن الأوان لتغيير هذه العقلية، وتوزيع مساعداتهم المادية بشكل
شمولي، يشمل ما هو ثقافي واجتماعي وإعلامي، فالمجتمع لا يصلح فقط بالخطب
والوعظ، وإنما بالخدمات التي يقدمها المجتمع المدني عامة كذلك، كالتوعية،
والتعليم، والحملات البيئية والصحية، وغير ذلك.
الهوامش:
لقد
تناول العديد من الدارسين قضية الإعلام، فحاولوا تحديد مفهوم مصطلح
الإعلام، وإليكم بعض التعريفات التي تسنى لنا الاطلاع عليها: يقول د. جمال
العطيفي أن الإعلام هو "إحاطة الرأي العام علما بما يجري من أمور وحوادث
سواء في الشؤون الداخلية، أم في الخارجية"، يرى د. إبراهيم إمام أن
الإعلام هو "نشر الأخبار والمعلومات والآراء على الجماهير"، ويرى د. د.
يوسف قاسم أن الإعلام هو "تزويد الناس بالأخبار الصادقة والمعلومات
الصحيحة والحقائق الثابتة التي تساعد الناس على تكوين رأي صائب في واقعة
معينة"، ينظر كتاب: مسئولية الإعلام الإسلامي في ظل النظام العالمي
الجديد، د. رشدي شحاتة أبو زيد، دار الفكر العربي – القاهرة، ط 1/1419هـ -
1999م، ص 22
2 المتلاعبون بالعقول، هربرت أ. شيللر، ترجمة عبد السلام
رضوان، الإصدار الثاني، عالم المعرفة، 243/ذو القعدة 1419 – مارس 1999،
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب – الكويت، ص 7
3 السيطرة على الإعلام، نعوم تشومسكي، ترجمة أميمة عبد اللطيف، اتصالات سبو، ط1/2005، ص 15
4 الحرب الحضارية الأولى، المهدي المنجرة، المركز الثقافي العربي، ط8/2005، ص 388
5 المصدر نفسه، ص 389
6 معجم المصطلحات الحديثة، د. سمير سعيد حجازي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1/2005، ص 263
7 التنمية في عالم متغير، د. إبراهيم العيسوي، ص 13
8 المصدر نفسه، ص 14
9 المصدر نفسه، ص 17
10 دراسات في الإعلام والتنمية العربية، صلاح أبو أصبع، دبي، مؤسسة البيان 1989، ص 168
11 من كلمة لكوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، المصدر: موقع التنمية المستدامة الرقمي:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] 12
التنمية في الإسلام مفاهيم مناهج وتطبيقات، د. إبراهيم العسل، المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، ط1/1416 – 1996، ص 63
13 الإسراء، آية 17
14 التنمية في الإسلام مفاهيم مناهج وتطبيقات، ص 64
15 ينظر مقال: الإعلام التنموي للأستاذ إسلام عبد العزيز،
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]16 دراسات في الإعلام والتنمية العربية، ص 408
17 الطفل والإعلام، د. عبد اللطيف كدائي، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس – الرباط ، ع 33، يوليوز 2006، ص 51