اي ثقافة نريد في عصر العولمة؟
شفيق العبادي
سؤال ارى اننا تأخرنا كثيرا في طرحه, لكن لم يفت الوقت للتعاطي معه , وقبل الولوج الى فضاء السؤال يجمل بنا أن نسلط الضوء على مصطلح (العولمة) والذي شاع في ادبيات أواخر القرن العشرين حتى اضحى من أقوى الخطابات المعاصرة , وكأنه البوابة التي تمد ذراعيها لاحتضان القرن القادم طابعة ملامحه ببصماته الخاصة .
فالمصطلح باعتقادي ما هو الا عملة ذات وجهين اما احد هذين الوجهين فهو النتيجة الطبيعية لهذه الثورة المعلوماتية ومن ابرز وجوهها الجانب الاعلامي الذي استحال بواسطته العالم بأكمله الى قرية كونية صغيرة , مما استتبع ذلك اعادة ترتيب الاوراق على مائدة المجتمع الانساني من عملية وثائقية وسياسية واقتصادية , ومن اهم هذه الاوراق الورقة الاقتصادية بصفتها (الجوكر) الذي يستطيع تحريك كافة الاوراق الاخرى وهي الوجه الآخر لتلك العملة .
فبعد حسم الصراع بين الاشتراكية ممثلة في الاتحاد السوفيتي السابق والرأسمالية ممثلة في الولايات المتحدة , والذي اعاق مواصلة الصعود الرأسمالي لفترة متخذا نوعا من المهادنة مراعاة للظروف الموضوعية بعد حسم هذا الصراع , وإخلاء الساحة لصالح الاخيرة كان لزاما عليها تلميع وجهها القبيح لاتاحة الفرصة لمزيد من الهيمنة من خلال منظومة الشركات العابرة للقارات والتي توجد النسبة العظمى منها في الولايات المتحدة وذلك عن طريق تغليف مصطلح العولمة بطبقة من الشوكولاته الثقافية لسهولة ابتلاعها (نظرا لحساسية البعد الثقافي واهميته لدى الشعوب) , ولكي لا تقع في شراك هذا الفخ المنصوب (الفخ الثقافي) يجدر بنا سوق بعض الملاحظات لكشف ماهية هذا المصطلح , ومعرفة الوتر الذي يعزف عليه وذلك لوضعه في حجمه الحقيقي :
اولا : أي ثقافة افرزها (عصر العولمة) غير الثقافة التي حلم بها كيسنجر يوما ما , وهي سيطرة الشاشات الفضية , والتي تعتبر النافذة الارحب لعالم هوليود بكل ما يحمله من عنف , وجنس , وفن رخيص وسطحي وغير ذلك من الثقافة الاستهلاكية .
ثانيا : ذلك التزامن الغريب بين عصر العولمة وبين مختلف الاتفاقيات التجارية , والمفترض منها ارساء آليات لتكامل الاقتصاد العالمي (هذا ما يشاع ظاهريا) لا ان تصبح بعض الدول اللاعب الاوحد في الملعب الاقتصادي نظرا لما تملكه من امكانيات على حساب باقي الدول الاخرى .
ثالثا : طابع الصراع الدائر بين عالم الكبار ( والذي يهدف منه حسم المواقع في زمان العولمة ليس الا ) وهو طابع تجاري بحت تشرف عليه وتغذيه شركات تجارية (ازمة الموز بين الولايات المتحدة والدول الاوروبية على سبيل المثال ) .
رابعا : تنامي الخلل الحادث في المعادلة الاجتماعية , ومن اهم محصلاته زيادة قطاع المهمشين والمحرومين وسبب ذلك اقتصادي بحت .
خامسا : وهو الاهم مواصفات الثوب الذي يراد تفصيله ليتلائم ومكانة العولمة , والمحاكة خيوطه من نسيج ثقافي وهو عينه الثوب الذي أريد له أن يستر جسد الثقافة الانسانية كافة يوما , ومن ثم نعيه عن طريق انتحار أو موت مفاهيمه واحدا تلو الآخر .
فمن موت الفلسفة الى موت الموروث الى موت التاريخ الى موت الميتافيزيقيا , الى موت الايديولوجيا , الى باقي الموتات الاخرى , وسيزول استغرابنا قطعا في هذه الموتات المفاجئة حينما نعلم أن الرأسمالية كانت وراء تمويل الكثير من البحوث العلمية والانسانية بغية الوصول الى هذه النتيجة , وقطف ثمار جهودها الدؤوبة , باستحالة الانسان بعددها الى مجرد ورقة تتأرجح في مهب الريح من ثم اختصاره في مصطلح العولمة كونها الوريث الشرعي للثقافة المحرومة , والممثلة الحقيقية لثقافة القرن الواحد والعشرين , والايديولوجيا التي ستنتظم في مسبحتها شعوب العالم !!
وبعد هذا الاستعراض المقتضب وتعرية هذا المصطلح المراوغ فأي ثقافة نريد ؟
أعتقد أنني اجبت ضمنا على هذا السؤال , ولكن باختصار نريد ثقافة ترى بعيني زرقاء اليمامة , وتقرأ ما خلف الاسطر , وتضع الامور في حجمها المناسب بعيدا عن كل الاصوات التي لا هم لها سوى المزايدة , والتطبيل بوعي أو بدون وعي , ثقافة تميز بين السراب وهدير الماء , ثقافة تمنح في جذورها الضاربة في عمق التاريخ , وتعتز بهويتها وتؤكد عليها ولا باس بعدها من الانفتاح على مختلف الثقافات والتيارات للتأثر والتاثير , ثقافة تنبع من إنسانية الانسان , لا من صنمية الآلة.
واخيرا ثقافة متسامحة مرنة تستوعب كل الاصوات والالوان , وكل الاجتهادات , لكي لا ينطبق علينا ( ما أشبه الليلة بالبارحة ) ولكي لانقع في فخ العولمة .