اشكاليات الثقافة العربية في عصر العولمة : آليات وأزمات
- لا يزال مفهوم «العولمة» يثير جدلاً واسعاً ونقاشاً صاخباً بين المثقفين والمفكرين الاجتماعيين والاقتصاديين، بدءاً من تحديد المعنى، ومدى مشروعية الأطروحات في عالم اليوم المتسارع الخطى ، ومروراً بتحليل العولمة كظاهرة تحمل في طياتها أبعاداً متداخلة ذات تأثيرات متباينة على شتى بقاع العالم، وعلى الرغم من التناول الواسع النطاق الذي يجري في العالم وعلى كافة المستويات، إلا أن المفهوم ذاته ما زال يكتنفه الغموض عند البعض، والتشويش عند البعض الآخر، وربما يرجع ذلك في جانب كبير منه إلى التعامل مع تلك الظاهرة بقطع ويقين لا يتناسب وطبيعة تلك الظاهرة المدروسة، فإما أن نرفضها وننبذها بشكل كامل وإما أن يؤيدها ونهلل لها ونبشر بها في محافلنا ومجتمعاتنا، متناسين أن العولمة قد تحولت إلى قوة فاعلة في النظام الدولي المعاصر، بل أصبحت قوة فعلية مؤثرة في حياة البشر، وذلك على إثر التحولات الكبرى التي شهدها العالم أجمع منذ مطلع التسعينات، إذ حدث انقلاب هائل وثورة عارمة غيرت من ثوابت الفكر وتوجهاته واستراتيجيات التنمية والتخطيط على كافة المستويات، وأدى تفكك الاتحاد السوفيتي وإنهاء الحرب الباردة وظهور مقولات (نهاية التاريخ) و(صدام الحضارات) إلى تبلور شكل جديد لنظام دولي لم تتحدد ملامحه بعد، إلا أن ما لا شك فيه أنه «يمثل حركة متسارعة وقوة فاعلة ومؤثرة في العلاقات الدولية»، ولأجل تشخيص الواقع وأزماته كان لابد من تحليل ظاهرة العولمة، واكتناه ميكانزمات النظام الدولي الجديد، وهو ما حاول الكاتب النهوض بعبئه في هذا الكتاب فهو يصوغ الغاية من هذا الكتاب على صورة تساؤلات تطرح نفسها بقوة وخاصة في دول الجنوب الفقير «ما تأثير العولمة على أوضاع هذه الدول وعلى مستقبلها؟ أين التراث من عولمة الثقافة؟ ما أكثر تجليات العولمة وما هي تحدياتها التي تواجه الدول غير القادرة على المنافسة في ظل حضارة السوق؟ ما الدور الحقيقي الذي تقوم به الشركات العملاقة عابرة القوميات في عولمة اليوم؟ هل يبقى لفقراء العالم مكان على الخريطة الكوكبية الجديدة؟ أين الهوية الوطنية في ظل إعادة صياغة إنسان كوني؟ لماذا وكيف تصبح الثقافة الأمريكية هي الثقافة الكونية على مستوى العالم؟ ما مواطن القوة فيها وما مواطن الضعف في الثفافات الأخرى؟».
يضم الكتاب ست دراسات حول موضوع إشكاليات الثقافة العربية في زمن العولمة، ويبحث الكاتب في الدراسة الأولى ظاهرة العولمة وموقفها من الثقافة الوطنية انطلاقاً من رؤية نقدية فيعالج قضية معايشة الإنسان العربي المعاصر لعالمين متناقضين بحواملهما الثقافية غير المتكافئة «ثقافة تراثية مفعمة بالمواطنة الأصلية وأخرى عولمية تغريبية تسلبه الأولى وتدفعه نحو عصرنة فردية كوكبية مصطنعة». ولا يجد الكاتب بُداً من التساؤل حول ماهية العولمة في ظل نظام عالمي لم تتحدد ملامحه بعد، فيرى أن شعار «جيران في عالم واحد» هو شعار توثيقي لنظام جديد آخذ في التشكل ترتسم فيه معالم طريق يقود الدول إلى تخيل بنائي كقرية كونية صغيرة، فما العولمة إذن سوى نظام قديم في ثوب جديد أكثر إحكاماً «وبرغم أنه يبدو أن العولمة هي دعوة جديدة إلا أنها لا تختلف كثيراً من حيث سياستها وأهدافها وأيديولوجيات الداعين إليها عن السياسات التي ميزت البدايات الأولى للنظام الرأسمالي إبان مرحلة الثورة الصناعية». فالعولمة بهذا المعنى لا تعدو أن تكون عملية تاريخية تحكم تفاعلاتها مجموعة من القيم لدول عظمى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى بشتى الطرق لتسويق نموذجها الحضاري في الاقتصاد والسياسة والثقافة بمفرداتها المعروفة.
وعلى الرغم من ذيوع مفهوم العولمة وانتشار تداوله بين المثقفين إلا أن الغموض لا يزال يكتنف هذا المفهوم في الخطابات المعاصرة بحيث تعجز تلك الأخيرة عن صياغة فهم دقيق لما يعنيه ذاك المفهوم كعملية ثلاثية الأبعاد والمستويات (اقتصادية وسياسية وثقافية).
بيد أن قراءة وتحليلاً متأنياً لأدبيات الفكر المعاصر سوف يقودنا إلى الاعتقاد بأن العولمة ما هي إلا تعبير عن «أزمات وتناقضات يمر بها النظام الرأسمالي ذاته (أزمة في الداخل) وأزمة الشعور بفقدان الذات المركزية داخل المركز الرأسمالي ذاته وبهذا المعنى فهي صياغة جديدة لإعادة المركزية الرأسمالية في ثوب جديد أو مستحدث، ومحاولة لنشر حضارة السوق المعولمة، وهي بذلك تعبر عن سيادة نمط التشيؤ حيث العمل على تحويل كل شيء إلى سلعة متداولة في السوق لصالح قوى حرة جديدة عابرة للقوميات».
وفي سبيل تحقيق أهدافها لا تتوانى العولمة عن استخدام آليات (ميكانزمات) معينة لتعميق توجهاتها وتأثيراتها في العالم، كربط العولمة بحركة تداول راس المال الاقتصادي وإزاحة العملية السياسية في المجتمعات التقليدية لصالح الفئات الأقدر على توجيه مسارات الإنتاج والمال والتجارة والاستثمار لصالحها، وربط أجزاء العالم على الرغم من تباعدها وانفصالها بروابط عدة حتى تحول العالم إلى قرية كونية صغيرة، وبلورة ثقافة عالمية تتسم بسمات خاصة تستفيد منها الفئات المسيطرة على العمليات الاقتصادية والسياسية والإعلامية، والعمل على تراجع دور الثقافة الوطنية التقليدية في مواجهة ثقافتها وذلك بالاعتماد على التقنيات الحديثة وبخاصة في مجال تدفق المعلومات، على طريق تشكيل قيادة عالمية تستحوذ النفوذ والقوة وتكون قادرة على توجيه عمليات التحول الاجتماعي المطلوبة.
وفي ظل صراعها مع الهوية الوطنية تسعى العولمة إلى تكريس الثقافة الاستهلاكية وترسيخها في ظل آليات الهيمنة العالمية إذ تحولت تلك الثقافة إلى آلية فاعلة لتشويه البنى التقليدية وتغريب الإنسان وعزله عن قضاياه وإدخال الضعف لديه والتشكيك في جميع قناعاته الوطنية والقومية والأيديولوجية والدينية وذلك بهدف إخضاعه نهائياً للقوى والنخب المسيطرة على القرية الكونية وإضعاف روح النقد والمقاومة عنده حتى يستسلم نهائياً إلى واقع الإحباط فيقبل الخضوع لهذه القوى أو التصالح معها».
فللعولمة تجليات متعددة متشابكة الأبعاد والمستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتأثيراتها الثقافية هي الأخطر حيث يتم فرض ثقافة خارجية ليست وليدة تفاعلات بين الحضارات والمذاهب المتباينة.
وتطرح الدراسة الثانية قضية أمية المثقف العربي: الإبداع وأزمة الفكر السوسيولوجي، وإذا كان من الصعوبة بمكان تحديد مصطلح الثقافة والمراد منه، فإن مرد ذلك يرجع إلى محاولة المثقفين وضع خصائص ورسم سمات أغلبها مثالية لخصائص ذواتهم في سياق تحديدهم لمفهوم الثقافة والمثقف والمفترض أن تتمحور إسهامات المثقفين والباحثين حول «تحديد الدور الذي يقوم به هذا المثقف في مجتمعه وإن السؤال الذي يجب أن يهتم به من يبحثون في هذا الشأن هو: هل كان إنسان يقوم بدور المثقف». فأزمة الفكر العربي هي «تعبير عن أزمة تشوه اجتماعي كانت لها آثار كبرى في تكديس التخلف في هذا الجزء المهمش من العالم والمجتمع العربي بلا جدال جزء منه» وعليه فإن الاهتمام المتزايد بقضايا الثقافة العربية المعاصرة والمثقف العربي هو أشبه ما يكون بعملية «استعادة للذات المفقودة في إطار الكل الاجتماعي».
وكي نستطيع فهم قضايا الثقافة والوقوف على خصائص المثقف الاجتماعي العربي وأميته المعاصرة، لابد من الربط بين البناء الاجتماعي والنسق المعرفي فنقوم بتحليل خصائص المجتمع العربي وإشكاليات البنى الاجتماعية والثقافية المتناقضة على مستوى الواقع البنائي للمجتمعات العربية، وهو ما صنفه الكاتب في ثلاث مجموعات، بالإضافة إلى مستوى الوعي بقضايا المجتمعات العربية وإشكالياتها، والتي من أهمها إشكالية العلاقة بين المثقف والجماهير وحالة الغياب والانفصال شبه التام بينهما، وإشكالية العلاقة بين الثقافة والسياسة أو المثقف والوالي حيث يلاحظ «تأرجح المواقف الأيديولوجية للمثقفين ورجال الفكر الاجتماعي العربي من النظم الاجتماعية السياسية في هذه المنطقة» في نزعة براغماتية فاضحة، وهناك إشكالية العلاقة بين الاستقلال الوطني والتبعية الاقتصادية، وتباين مواقف المثقفين تبعاً لتباين أدوارهم وهذا التأرجح في مواقفهم يشير إلى أن «هناك شيئاً أصاب الوعي اسمه التشوه الفكري الاجتماعي مما أدى إلى فقدان ما يسمى بالوعي الجمعي».
وفي كل تلك الحالات نجد الفكر العربي منعزلاً عن واقعه أو متقوقعاً داخل ذاته يجتر ثقافته الموروثة أو يترجم ثقافة غيره.
ويرى الكاتب أن أزمة العلم السوسيولوجي في المجتمع العربي تتلخص في عدم قدرة المتخصصين في هذا المجال على التخلص من تلك الرابطة التي تجمع بين الباحث والنشأة الأكاديمية للعلم الاجتماعي، فنشأة هذا العلم في الغرب مرتبطة بالظروف التاريخية والمصالح الطبقية والصراعات الأيديولوجية التي حكمت الغرب إبان نشوئه، ولعل من أبرز ملامح هذه الأزمة على «مستوى العلاقة الجدلية بين أزمة البناء وأزمة العقل العربي» تتمثل في إشكاليات نظرية، إذ يتعاطى الباحثون أطراً فكرية تقليدية إلى حد كبير، وأخرى أيديولوجية تتمثل في انتماء المتخصصين في هذا المجال إلى الاتجاهات المثالية المحافظة فضلاً عن إشكالية منهجية تكمن في «تبني المنهج التسطيحي في علم الاجتماع بدءاً من اختيار موضوعات تقليدية ومروراً بمداخل منهجية غير واقعية». وبالتالي فإن الدعوة إلى إنشاء مدرسة عربية في علم الاجتماع لا تعدو أن تكون ردة فعل تجاه الأزمات التي تواجهها الثقافة العربية، وبالذات أزمة الأمية في هذا العلم وذلك في سياق استعادة الذات العربية المفقودة.
وتتناول الدراسة الثالثة سجالاً حول ماهية المثقف في المجتمعات العربية ودوره الطليعي، وأزمة التشوه البنائي والفكري الراهن وذلك من خلال استعراض أوضاع المجتمعات العربية والإشكاليات المطروحة، ومن أهمها التبعية الاقتصادية وتشوه الفكر وازدواجيته في النظام العالمي الراهن أو ماأسماه بالتعايش الفارق، وصولاً إلى إمكانية صياغة أيديولوجية واضحة واضعاً في اعتباره أبعاد التاريخ العربي وظروف تكونه وتأتي الدراسة الرابعة حول إشكالية الثقافة العربية ممثلة بأزمة النقد الذاتي لتنطلق من مسلمة مفادها تغافل المثقف العربي عن نقد ذاته وتوجيهه لسهام النقد نحو الآخر، وتحليل تلك الفرضية على أساس أنها تشكل خطوة على طريق فهم العلاقة بين الثابت والمتحول في بنية الفكر العربي ومنهجيته، فتحاول البحث في أعماق الذات للوصول إلى إجابات مقنعة حول العلاقة بين الأنا والآخر وأثرها في تكون الثنائيات المتداولة والاغتراب ومستقبل الثقافة في عصر الليبرالية الجديدة وتعالج الدراسة الخامسة إشكالية التناقض بين الباحث ومجتمعه من خلال بيان تناقضات الواقع واغتراب الفكر، ودور المثقف والمتخصص الاجتماعي في تكوين الفكر المنهجي وتدعيمه من أجل مواجهة تحديات العولمة.
ويختم الكاتب أبحاثه بدراسة ميدانية عن فقراء مصر في عصر العولمة متخذاً نماذج من الريف والحضر، إذ يناقش أزمة التفاوت المعيشي دولياً وبين الشرائح الاجتماعية على المستوى المحلي، ويطرح بعض الملاحظات المحورية حول ظاهرة الفقر في العالم وأبعاده ومظاهره من خلال استعراض الموجهات النظرية لدراسة الظاهرة، فهو يرأى وجود اتجاهين لتفسير ظاهرة الفقر، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، أما الاتجاه الذاتي فقد صنفه إلى ثلاثة مداخل، أحدها مدخل إعادة إنتاج الفقر وتبناه أوسكار لويس، وهو ما عبر عنه بثقافة الفقر، حيث يرجع تفسير هذه الظاهرة إلى عوامل فكرية ذاتية يتسم بها الفقراء أنفسهم فهم انعزاليون وغير راغبين بالمشاركة في الحياة العامة ويشعرون بالدونية، واللامبالاة، وتتواصل هذه الثقافة في رأي لويس بين الأجيال من خلال إعادة إنتاج الفقر، وثاني هذا المداخل مدخل التخفيف من حدة الفقر: استراتيجيات التعايش، إذ يقول بقدرة الفقراء على التخفيف من حدة الفقر من خلال بدائل ثقافية يفرزونها في محاولة للبقاء والمحافظة على حياتهم، وثالثها: مدخل قمة الفقراء والذي يدعو أصحابه من خلال مؤسسات ومنظمات دولية إلى معالجة مشاكل الفقراء وعولمة الاهتمام بهم، فيما يسقطون في فخ التمجيد للنظام الرأسمالي والدعوة إلى نشره في أنحاء العالم، أما الاتجاه الموضوعي فإنه يعاند الفكر المحافظ «وينطلق من فلسفة نقدية تطورت من الكلاسيكية على يد كارل ماركس ومرت بمراحل مختلفة منها الماركسية المحدثة ومدرسة فرانكفورت وصولاً إلى مدرسة التبعية المعاندة لمدرسة التحديث».
ولعلنا ختاماً نتفق مع الكاتب في النتيجة التي توصل إليها ألا وهي أن المخرج الحقيقي من الأزمة التي تعانيها الثقافة العربية والفكر الاجتماعي العربي يكمن في تخطي «الفجوة الحضارية المستمرة والمتزايدة بين إعادة التقدم في البؤر الرأسمالية وإعادة التخلف وتكريسه في المحيطات التابعة، وما لم نتخط محنة التخلف ستظل ثقافة المجتمع العربي تابعة منطوية تحت لواء الثقافة «الأم» وسيظل مستوى الوعي الثقافي في مراحله الأدنى من الأمية».
وذلك من خلال استعمال بعض الآليات التي تفيد في وضع الثقافة في خدمة التغيير نحو المشروع العربي والوحدة الفكرية وتعميق التيارات القائمة وإثراؤها بالمعرفة العلمية وبلورة القدرة على نقد الذات وبالتالي فهم أن الصراع الثقافي جزء لا يتجزأ من الابتكار والتجديد. فالعولمة هي عملية غسيل حقيقية للأدمغة كما يرى مارتن ولف، وكوكبنا يخضع لضغط عنيف تفرزه قوتان عظيمتان هما العولمة والتفكك على حد تعبير بطرس غالي.