فكرة العولمة بالمنطق الذي يتحقق هو منطق سوق كبير تسافر فيه البضائع ويهدد الجميع: الفرنسي والألماني والعربي الخ. كلنا يشعر بأنه مهدد بإجتياح قيم ونماذج وقوالب ثقافية وحضارية لا تعبر عنه. إذاً التهديد قائم. لكن الأساسي في الموضوع أن نعرف إلى أي مدى تستطيع الثقافة مقاومة هذا التهديد.
لنتكلم عن الهوية! الهوية أمام تحدي من هذا النوع تشبه الصَدفة التي تغلق على نفسها عندما تشعر بنوع من الإجتياح لنماذج جديدة من خارجها. العرب يشعرون بذلك أكثر من غيرهم، لكن الفرنسي يشعر أيضا بإقتحام الهامبرغر ومحلات الأكل السريع، لتحل مكان المطاعم، هذا مثال على تهديد الهوية إذ أن االمطبخ الفرنسي هو جزء من الهوية الفرنسية. هناك بالتأكيد تهديد للهوية، فالعولمة تطمس كل الهويات وتحولها لنموذج واحد. حيث يستهلك الجميع نفس البضائع، يلبسون نفس الأزياء ويفكرون بنفس الطريقة.
لاحظنا من خلال الأطروحات المختلفة في المؤتمر أن تهديد العولمة يختلف من مكان لآخر، بينما الألماني يتكلم عن وجوب تطبيق نظام حصص في الإذاعات بما يخص لغة الأغاني التي تبث، بهدف المحافظة على جزء من الثقافة الألمانية، طرحت أنت اليوم أن العولمة قادمة لمسح الهوية، وبالتالي تشعر بأن العولمة تهدد وجود الهوية التي تنتمي إليها؟
أبو صعب: الكلام عن نظام الحصص جاء في سياق الحديث عن منظمة التجارة العالمية التي تعقد إتفاقيات ثنائية بين الدول تُلزَم بموجبها كل دولة بعدم دعم أي قطاع إنتاجي في البلد المعني. هدف ذلك تحقيق المنافسة بين الدول الموقعة.
الميثاق الذي يُعمل عليه الآن في اليونسكو بمشاركة 130 دولة يطالب بإستثناء الثقافة من هذه الإتفاقيات التجارية. أي عدم إعتبار الثقافة سلعة. وإسمه التنوع الثقافي CULTURELL DIVERSITY، في هذا السياق جرى الحديث عن نظام الحصص.
ومن هنا تكلم وزير الثقافة الألماني السابق، عن كيفية حماية الثقافة الوطنية أمام إجتياح البضاعة القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية لأن قدرة الأخيرة على صناعة النجوم وترويج الأغنية والسلعة الثقافية تفوق قدرة الجميع.
والسؤال هنا: لأي مدى يحق لكل دولة أن تحمي ثقافتها الوطنية، وعدم إعتبار الثقافة سلعة كباقي السلع. منظمة التجارة العالمية تطالب بالمنافسة المطلقة دون أن يكون للدولة الحق بالسماح أو بمنع دخول البضائع. كلٌ يأتي ببضائعه إلى السوق والمستهلك يشتري ما يريد. هذا هو المنطق الليبرالي، وهناك سعي لإستثناء الثقافة.
لكن ألا ترى معي أن هناك فرق بين الأوروبي والعربي، الأوروبي يتحدث من موقع الند، فرنسا تفرض نظام الحصص على الأغاني وتنجح في سوق البوب العالمي، بينما لا يتعامل العربي من موقع الند بل من موقع الثقافة الأضعف التي تواجه خطر مسحها من الوجود؟
أبو صعب: الثقافة العربية مهددة قبل العولمة بكثير، إنهيار الأوهام التي تطلعت إليها الأنظمة السياسية منذ الإستقلال والمستمرة منذ أكثر من نصف قرن: الحرية-الإشتراكية-تحرير فلسطين إنهارت فجأة. المواطن العربي والحركات السياسية العربية قلقة وتشعر بنفسها عريانة، علاوة على ذلك هناك عمل منهجي على طمس الهوية العربية بكل أبعادها في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، فقبل أن تصل إلى العولمة، الثقافة العربية مهددة بالمسح.
حين يقال عولمة يقصد أمركة في الواقع، ثقافة الكوكا كولا والماكدونالد هي التي تُعمم ويتعين علينا مواجهة هذه العولمة. اليوم وبسبب قنوات التوزيع والإنترنت والقرية الكونية، تملك الولايات المتحدة الأمريكية الوسائل كي تفرض نموذج معين بقوتها الإنتاجية، يأخذه الجيل الجديد بسرعة.
أليس هذا تقليل من دور الجيل الجديد وإين دور الثقافة المحلية؟
أبو صعب: لا أريد أن أفرض شيئا على الجيل الجديد، ولا على أي مواطن أو مستهلك، اريد أن أترك له الخيار، لكن في المدرسة والتربية والإعلام المرئي والمسموع يجب أن أقول له هذه هي هويتك، تعرف عليها واعتز بها وأضف اليها ما تريد. بالعكس الواثق من نفسه يستطيع أن يواجه العواصف العاتية والموج العالي. لكن الضعيف الهش المتمسك بجزء صغير من التراث كما تفعل الأصولية السياسية والفكرية، تقلبه أية موجة.
المقاومة الأساسية تكون ببناء الذات بدون أي عصبية لكن بثقة. حينئذ بإمكانك حين تُجتاح من أن تواجه. قنوات التوزيع لديهم قوية وتنشر الحقائق ضدك كما تريد خذ الCNN مثلاً، كل الناس تراها، بإمكانك متابعتها في أصغر قرية في مصر أو الجزائر، هذا الإقتحام بما يترافق مع سلع وأفكار وقيم ونماذج وصور يستطيع أن يمسح الهوية طبعاً.
وتصبح عندها لا أحد. الكل يشبه بعضه البعض التايلاندي والهولندي الخ. الكل يستهلك الهمبرغر والكوكاكولا لا غير. هذا ضد تطور البشرية وضد سعادتها. ما هذه العولمة التي لا تحمل معها تطورا بل تشد بنا إلى الوراء.
نلاحظ أن الأوروبي بهذا الخصوص ينظر إلى تراثه ليؤسس وليبني عليه المستقبل بينما العربي بالشكل العام ينظر للماضي ليرى فيه مستقبله بمعنى يريد إستنساخ هذا الماضي. كيف سيخرج العرب من هذه الدوامة لاسيما وأنك تحدثت عن فشل العرب في تحقيق الحداثة العربية؟
أبو صعب: صحيح! الإلتجاء للماضي هو نتاج العجز عن مواجهة اللحظة وعن النظر للأمام. المشروع المستقبلي غائب. لا سيما ونحن مجردون، أي لا نملك الأدوات الكافية لا في الإقتصاد ولا التكنولوجيا ولا الإستراتيجية العسكرية. عندما تفتقد للرؤية تصبح أمام العجز عن مواجهة اللحظة، وعن النظر والتخطيط للمستقبل وعن البناء.
الحل بالنسبة لنا هو أن ننتج مشروعنا: ماذا نريد من التعليم ومن الإقتصاد والإعلام و... و... و. يجب أن نجد لنا مكانا بين الأمم. هنا لا يصبح الماضي ملجأ بل مصدرا من مصادر القوة. لا نملك اليوم من يخترع أو يطور أي شيء وهنا أتكلم عن العلوم الصرفة، لذا نعود للفارابي ولإبن رشد الذي ترجم الفلسفة الهيلينة والإغريقية للعربية ليعاد ترجمتها من العربية إلى اللغات الأوروبية.
اليوم الوضع يختلف ليس لدينا إبن رشد ولا إبن سينا ولا فارابي. لذا فإن بناء المشروع والعمل عليه هي مسؤولية كل فرد أو جماعة أو حزب أو قطر. نستمد من الماضي ما نحتاجه من الروافد ومن سائر الحضارات وحتى من العدو. إذا كانت تقنيته ناجعة فلما لا نستخدمها؟ هذا يتطلب إنفتاح ونحن في حالة تقوقع، نحن شعوب مهزومة خسرت الكثير وإستُنزفت من قبل أنظمتها ومن قبل عدوها من قبل الإستعمار الذي ما زال راهن.
ذكرت في مداخلتك أن النخبة تتحمل مسؤولية الثقافة. أين دور المثقفين في العالم العربي في وضع أسس البرنامج الذي تتحدث عنه؟
أبو صعب: للأسف الجواب سلبي. هناك أفراد موجودة وتحمل مشاريع ثقافية وتعمل على الجانب الثقافي. هناك مبدعون وكتّاب ومترجمون ومفكرون وهلم جر، لكنهم معزولون كلٌ في بيئته وكيانه القطري والإعلام لا يفتح لهم حيّز. الأصوات التي نسمعها هي الأصوات الطاغية، حين تصرخ يسمعك الجميع لكن حين تهمس، فلا يسمعك أحد.
اليوم الضجة الطاغية تغطي على أصوات المبدعين. لكن هذا ليس قدراً محتماً بل قابل للتغير. الصوت الصافي في الفن والأدب والمسرح والسينما يُسمع. فيلم لمخرج جيد يُشاهد في أي بلد عربي أوأي مكان من العالم. هذا يكفي كبذرة مثلاً. الطبيعة خصبة، لكن يجب أن نبذر.
الطبيعة يحددها اليوم الإعلام، أي حدث ثقافي أو من أي نوع كان، لا يكون موجودا إن لم يجد صداه في الإعلام. الإعلام يشكل جزءا أساسيا من السوق. من أين تستمد تفاؤلك وانت تعمل في الحقل الإعلامي؟
أبو صعب: قصدت التفاؤل بالمعنى المطلق، إذا نظرنا للوضع العربي لا يمكن إلا أن نكون متشائمين، لكني أراهن على مبدء الحياة، هذه قوتها، تنبعث من رمادها وخرابها وتعود للبناء، لكن لا يجب أن نكون كثيري التفاؤل، لأن هناك حضارات تنقرض. اللغة العربية مهددة، الحضارة العربية مهددة. الرهان على خصوبة الطبيعة وقدرتها على إعادة إنتاج ذاتها هو جزء من تشجيع أنفسنا كي نقوى على العمل.
الإعلام هو الطامة الكبرى في اللحظة العربية، ليس عيباً أن يكون تجارياً، لا نستطيع أن نقول الإعلام رسالة والربح ممنوع. والإعلام رسالة يجب أن تقول الحقيقة، الإعلام العربي لا يقول الحقيقة، الإعلام العربي يجب أن يعرف أن رهانه على نهضة بالمعنى الحضاري. إذا فتح نقاش يهم الجيل الجديد، إذا طرح القضايا الراهنة: التعليم والتربية والثقافة والإقتصاد والسياسة والدين، ذلك يجلب أيضا الربح. يجلب الكسب المادي وفي نفس الوقت ينعش البيئة والحضارة.
الإعلام يصيغ نقاشات جريئة، سأتكلم عن نجاح المحطة اللبنانية للإرسال LBC، يمكنك أن تحمل مشروعا إعلاميا، وتراهن على نهضة معينة، حتى أصحاب الأموال والرأسمال والشركات، لأن الإنحطاط يجلب الربح لسنوات قصيرة ومن ثم يُفقد البلد قوتها الحية، يغرق البلد ولا يعود هناك أرباح فيغرقوا معه. هذا الفكر الرأسمالي البناء، الذي يقول: أريد أن أستثمر في هذه الأرض، إذاً يجب أن أعمل على خصوبتها، فأستطيع أن أربح منها لسنوات طوال وأن أورثها لمن بعدي.
برنامج Starakademie عاد بربح 180 مليون دولار على LBC في العام الماضي، إذا قدمت المحطة برنامجا عن المسرح والمسرحيين العرب لن يشاهده الكثيرون ولن يدر عليها هذه الكمية من الأرباح، لكن من ربح 180 مليون دولار بإمكانه أن يقدم برنامجا ثقافيا. ليكن Starakademie، لن نطالب بمنعه، نحن مع الحرية والديمقراطية، لكن الإعلام مسؤول أن يقدم إلى جانب ذلك برنامجا أدبيا وآخرا سياسيا هادئ.
إلى أي مدى ترى إمكانية التأثير على الإعلام؟
أبو صعب: الحلول فردية، كما هو الحال دائما في لحظات الأزمة والفترات التوتاليتارية، يظهر فرد يلعب لعبته. هناك مذيعون ومنتجو برامج متميزون عن غيرهم. أنا مع بناء شبكات موازية. مجلة زوايا مثلا توزع 15000 عدد في الوطن العربي بجهود أفراد متطوعين. يجب خلق شبكات تبعا لحساسية معينة لمشروع معين مع أشخاص في مواقعهم في المؤسسات الإعلامية، ينشطوا، يحاولوا ان يلعبوا دورا ما، وهذا الدور يمكن أن يكبر وأن يفتح لنفسه باباً.
الناحية الثانية هي الشراكة مع أوروبا. أقصد شراكة بين طرفين متكافئين، وليس بين طرف قوي وغني ومتعالِ وآخر ضعيف وفقير ويقبل بكل شيء. هناك أنواع شراكة ممكنة مع الإتحاد الأوروبي وبعض الدول الأوروبية ومع جمعيات مستقلة أهلية في الغرب، تساعد في العمل على تنمية إعلام بديل وبرامج بديلة، تكون أقل كثافة من موجة الإعلام الإستهلاكي السائدة، لكن بالإمكان أن تلعب دورها وتخلق جيلا. أنا أتكلم هنا عن جيل كامل ولن يحصل هذا في وقت قصير، لكن إذا وضعت اللبنة الأساس ستجد جيلا قادرا على الوقوف.
حين تتحدث عن شراكة متكافئة مع أوروبا، ما الذي تريده أوروبا القوية مقابل المساعدة التي تقدمها للطرف الأضعف وكيف يكون التكافؤ؟
أبو صعب: اليوم يعيش العالم على سفينة واحدة، إذا ثقبت من جهة ستغرق بمجملها. أوروبا تعلمت من موجة الإرهاب ومن الضربات على مركز التجارة العالمي وغيره، فهم الغرب أنه لن يستطع البقاء بعيداً عن العالم العربي، يستغل نفطه ويستعمل جماعة مسلحة لمحاربة الإتحاد السوفيتي، هذه الجماعة إنقلبت عليه بعد زوال السوفييت. فهم الغرب أن بناء نمو متكافئ وطويل الأمد لا بد أن يدر الفائدة عليه. إذا حين يبنى وطن متكافئ، حضاري وفيه توازن يعود بالنفع أيضا على أوروبا.
هناك مؤسسات في هولندا والمانيا وفرنسا الخ. تمول على قاعدة الإحترام والتكافؤ. بإمكان العربي أن ينتقي إن لم يكن مسحوقاً متكالباً على التمويل إنطلاقا من مبادئه، إن توافقت معها يقبل وإن لم تتوافق يرفض.
في النهاية نحن في أسفل الموجة ولا يمكن أن نغرق أكثر من ذلك، يجب أن نعاود الصعود. هناك عدة مشاريع للصعود، منها الأصولي والقومي والنهضوي ألخ. ليست كلها صحيحة لكن يجب أن نعمل على إنبعاث جديد.