لكل مرحلة همومها، والمرحلة التي نعيشها وهي مرحلة الانفتاح والعودة للديمقراطية لها هموم لا تقل عن هموم المرحلة التي سبقتها. الفارق. ان هذه المرحلة اتاحت المجال اعلاميا للفعاليات الاهلية والصحافة ووسائل الاعلام وتنظيمات المجتمع المدني واصحاب الرأي للمشاركة بآرائهم في القضايا العامة الى جانب الرأي الرسمي .
وهناك قضايا عامة يشتد ويحتدم فيها الحوار أحيانا ومنها قضايا الامن والسلم الاجتماعي والوحدة الوطنية، وكذلك التعريض بالثوابت الوطنية وإثارة النعرات والفتن بتوظيف الاختلافات الجهوية او العرقية او الدينية لاغراض سياسية.
ومن القضايا الخلافية قضية السلام، والمسائل الفرعية المترتبة على الصراع العربي الاسرائيلي، ومنها قضية اللاجئين والتوطين والتطبيع وغيرها..
.. فعندما تسيس هذه القضايا بهدف افتراض وطنية وغيرة طيف سياسي وتخوين طيف سياسي آخر، او اتهام جهة ما او الغمز من موقف سياسي يتحول الامر الى تجاذب واشتباك سياسي حاد يلقي بآثاره السلبية على المجتمع ويؤدي الى حالة من الشك والريبة وعدم الثقة في الموقف العام للدولة.
جهات عديدة، افراد، وقوى سياسية ونخب واصحاب قراءات سياسية مختلفة، ساهمو عن قصد او غير قصد في عملية تشكيك بالموقف العام حتى زعم البعض أن الاردن قد تخلى عن القضية الفلسطينية وانه ضالع في تصفيتها لان حل الدولتين برأيهم يفرط بالحقوق والسيادة..
وهذه رؤية جديرة بالنقاش الهادئ فسندها الوحيد ما تطلقه اسرائيل من بالونات ومزاعم تمثل الحد الاعلى للمطامع والمطالب الاسرائيلية التي هدفها اعاقة عملية السلام .
والحقيقة ان اصحاب هذه القراءات حاولوا اغراقنا في فرضيات لم تتبلور بعد، وقد نسجوا حول هذه الفرضيات مخاوف مبالغ فيها، طالت القضية والحل والحقوق، وطالت الموقف الاردني والفلسطيني وذهبت بعيدا لاثارة مخاوف عند الفلسطينيين في الاردن بأن قضيتهم وحقوق اللاجئين برسم التصفية كما اثارت مخاوف عند الاردنيين بأن التوطين هو الحل وان الوطن البديل هو المحصلة، وساعد في ذلك الصمت الرسمي بانتظار اعلان خطة السلام الاميركية .
والفراغ اساس الخلل في الاعلام وغياب الحقائق يؤدي لملء الفراغ بالاجتهادات وانصاف الحقائق والمخاوف، وتسييس المخاوف وتوظيف النكايات السياسية والحزبية والشخصية تحت مظلة الهم العام.
وهنا كان من السهل تصوير الدولة بأنها مترددة وخائفة وغائبة وقلقة وغير قادرة على الرد على الاتهام، وان ما يجري في مطابخ السياسة الدولية يسير باتجاه تمرير الحلول على حساب الاردن وكيانه وشعبه.
والمحصلة افتعال معركة وهمية في ساحتنا الاردنية صورت الامر وكأن الاردن يخوض صراعا حادا حول قضايا مصيرية تهدد القضية الفلسطينية والنظام الاردني، بينما المعركة الحقيقية لم تكن الا في اذهان من ابتدعوها ونقلوا قلقهم الى وسائل الاعلام والمجتمع، لأن الموقف الاردني كما اوضحه جلالة الملك بشكل حاسم فوق الشبهات، ومتمسك بحق العودة ورفض الحلول المنقوصة ورفض التوطين ورفض كل ما يمس بأمن وسلامة وحقوق الاردن.
يعكس الاعلام عادة ما يدور في ساحته من حوارات وقد نجحت بعض النخب المسيسة افرادا واحزاب رغم محدودية حجمها، في استخدام بعض قنوات الاعلام الاردني، كمضخات اعلامية لطروحاتها.
ولا بد من أن نقر ان هناك قوى سياسية صغيرة الحجم في ساحتنا الاردنية بعضها فقد مرجعياته في الساحة العربية، الا ان صوتها الاعلامي ما زال عاليا ولها مضخمات صوت في ساحة الاعلام تصورها بأكبر من حجمها، حتى يخال للمراقب لساحتنا من بعيد أنها القوى التي تقود الشارع في بلدنا.
هذه القوى تستغل عادة الفراغ الذي تتركه الدولة عندما تحجم عن تناول الحقائق فتبدو هذه القوى وكأنها قائدة الرأي العام، ويخدم موقفها مضخمات اخرى خارج البلاد، كالفضائيات التي تجد في الاختلافات السياسية في ساحتنا صيدا ثمينا للمس باوضاع بلدنا .
كما يخدم موقف هؤلاء فوضى مدونات الانترنت التي تعكس نشراتها الاخبارية مساهمات الناس الذين تأثروا بما يطرح وحصيلة عدم التزام هذه المدونات بشروط المهنية الصحيحة التي تلزم الصحافة بالدقة والتأكد من مصادر الاخبار وعدم نشر أي خبر لجهة مجهولة، ومنع الاستغلال الشخصي من افراد يستغلون المدونات تحت اسماء مزورة مما يؤدي الى المس بالاشخاص والمؤسسات.
فعندما يختفي المسيء وراء وسائل الاعلام، يلقى اللوم عادة على الاعلام ويتم التجاوز عن المجهولين الذين يستغلون الاعلام لاغراضهم.
في مرحلة الانفتاح الاعلامي الراهنة، لم يعد من السهل ضبط وسائل الاعلام كما كان يحدث في السابق، والعلاج يكمن في وضع الاعلام ووسائله الجديدة والقديمة رسمية وغير رسمية في حالة حوار متواصل، حول القضايا العامة، لتوضيح الموقف العام وتقريب وجهات النظر وتبديد المخاوف.
من الخطير ان يترك الاعلام تحت رحمة قوى قادرة على استغلاله متى شاءت، خاصة وان بعض هذه القوى تعول على الاعلام لتضخيم حجم حضورها في الساحة الاردنية.
والحل لا يكمن في التشريعات المقيدة للحرية الصحفية وانما في الضوابط المهنية الملزمة التي تفرض على وسائل الاعلام والقائمين عليها في المدونات وغيرها احترام قواعد المهنة الصحفية وضوابطها واخلاقياتها، بحيث تصبح قواعد المهنة الصحفية والاعلامية شبكة الامان لوسائل الاعلام والمجتمع في آن معا والضمانة التي تمنع الاختراق والاستغلال وتمنع استخدام وسائل الاعلام لغير اغراضه المشروعة مما يربك المجتمع او يعبئه بشكل خاطئ.