هل يعلنون وفاة الصحافة الحزبية والأيدلوجية؟
. عمرو الشوبكي**
ستظل علاقة "الصحف الحزبية" بالسياسة والصحافة ذات أبعاد متعددة، فهي من ناحية ظاهرة اختفت من كل المجتمعات الديمقراطية، وتراجعت في معظم بلدان الديمقراطية المقيدة، ولكننا نادرا ما طرحنا السؤال -في مصر مثلا- عن أسباب انهيار توزيع الصحف الحزبية مقارنة بما كان سائدا في السبعينيات، بسبب الخوف من الاتهام بالتحريض ضد أحزاب المعارضة وحرية الرأي والتعبير.
والحقيقة أن مسألة النظر إلى أسباب غياب الصحافة الحزبية عالميا وتراجعها مصريا يرجع لمجموعة من الأسباب لا علاقة لها أساسا بالقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير، ولا تعني مناقشتها تعميق هذه القيود بقدر ما تعني فهم مجموعة من التحولات السياسية التي شهدها العالم وانعكست على الصحافة كمهنة ورسالة.
الصحافة والسياسة: هموم عالمية
عرفت معظم بلدان العالم الديمقراطي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وطوال فترة الحرب الباردة صعودا كبيرا للصحف الحزبية، حاملة رسالة التبشير الأيديولوجي والفكري في وقت كان العالم فيه منقسما بين اشتراكيين ورأسماليين وبين حلفاء الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.
وقد انعكست أجواء الحرب الباردة وطبيعة المناخ السياسي الذي عرفته معظم المجتمعات الأوربية في انقسام سياسي واجتماعي حاد، في عصر تميز فيه خطاب كل تيار سياسي بأنه حامل لمشروع كلي يبشر فيه بمجتمع بديل للمجتمع القائم؛ فكانت الأحزاب الشيوعية لا تمثل فقط مجرد بديل سياسي لأحزاب اليمين الحاكمة في دول أوربا الغربية إنما كانت أساسا بديلا قيميا واجتماعيا وسياسيا للنظام الرأسمالي برمته.
وكانت أوربا حبلى بالمشاريع الأيديولوجية الكبرى التي كان كل منها قادرا على التعبئة والحشد بترديد نصوصها وأحلامها الواعدة دون الحاجة إلى امتلاك مهارات جزئية أو تفصيلية أخرى كالمهنية والديمقراطية الداخلية والإدارة الحديثة وغيرها. فكان يكفي الأحزاب الشيوعية أن تردد كتابات ماركس وشعارات لينين لكي تحشد خلفها ملايين من أبناء الطبقة العاملة، ولم تكن تحتاج إلى صحيفة تلتزم بقواعد مهنية حتى تحرض هؤلاء العمال، فقد كانوا على استعداد لشراء أي صحيفة حتى لو لم تمتلك أي تقاليد مهنية لمجرد أنها تطرح أحلام ثورة البروليتاريا القادمة ومساوئ النظام الرأسمالي المستغل.
ولعل التحول الذي شهدته المجتمعات الأوربية منذ نهاية الستينيات والذي تمثل في نجاح الليبرالية الغربية في دمج الأحزاب الشيوعية والتيارات الثورية واليسارية في النظام الرأسمالي القائم؛ هو ما جعل من الصعب عليها أن تستمر في طرح خطابها الكلي بصورة بعيدة عن تفصيلات الواقع، وتختزل خطابها الدعائي في الشعارات الأيديولوجية كما كان أثناء الحرب الباردة، فتحولت معظم الصحافة الأيديولوجية إلى صحافة يحكمها أولا "ضابط مهني" أشبه "بمصفاة" يهذب ويخفف من خياراتها الأيديولوجية عبر الاحتكام إلى القواعد المهنية.
دخول إجباري في عالم المهنية
ولعل تراجع قدرة هذه التيارات على التعبئة والحشد بالاعتماد على شعاراتها الأيديولوجية قد جعل من المحتم عليها أن تقدم ليس فقط صحافة قائمة على قدر من الاحترام المهني لكي تضمن النجاح، إنما أيضا أحزابا بها قدر كبير من الديمقراطية الداخلية والتنوع بحيث تحولت هذه القضايا -كالمهنية والإدارة الديمقراطية، والتجديد الداخلي وغيرها- إلى قيم أساسية في خطاب هذه الأحزاب بات من الصعب أن تخفيها شعاراتها الأيديولوجية البراقة كما جرى في عقود الحرب الباردة.
وقد أثرت هذه التحولات الجديدة على الجمهور المستقبل للرسالة الإعلامية؛ فلم يعد مستعدا لأن يعتبر المنشور السياسي صحيفة، وميز بين النشرة الداخلية أو المنشور الدعائي لحزبه، وبين الصحيفة التي يشتريها، وفرض بالتالي أو بالنتيجة طريقة جديدة للدمج بين السياسي والمهني، تجاوز بها صحافة الحرب الباردة وخلق تجربة جديدة في تاريخ الصحافة العالمية.
وقد أدى هذا المناخ إلى ميلاد مساحات جديدة للابتكار داخل كثير من الصحف الأوربية الكبرى، فانفصلت كثير من الصحف الحزبية والأيديولوجية عن أحزابها، وظهرت مساحة جديدة للتفاعل بين المهني والسياسي لا تقوم على ملكية الحزب أو التنظيم للصحيفة، وانتقلت الصحف من حالة "لسان حال" إلى وضع "المعبرة عن".
ومثلت تجربة صحيفةLIBERATION الفرنسية نموذجا لهذه النوعية من التحولات، فقد انتقلت مما يقرب من المنشور السياسي الثوري عقب صدروها بعد مظاهرات 1968 الطلابية إلى صحيفة لها أسلوبها المهني الخاص والمتميز والمستمد في الحقيقة من عملية تفاعل بين موقفها السياسي والقواعد المهنية، وقدمت بالتالي أو بالنتيجة عملية ابتكار حقيقية تكمن في تلك المساحة التي نسجتها بين توجهها السياسي وبين القواعد والتقاليد المهنية، وبالتالي حين يتحدث البعض عن هذه الصحيفة الآن، فهو لا يتحدث عن منشور سياسي كما كان منذ أكثر من ثلاثة عقود، إنما عن صحيفة تحترم مجموعة من القواعد المهنية، وفي نفس الوقت لا نستطيع أيضا أن نتجاهل أنها صحيفة يسارية أو ذات ميول يسارية.
نفس الأمر وفي ظل سياق مختلف ينسحب على الجارديان البريطانية التي تصنف بهذا المعنى أنها صحيفة يسارية، وهناك صحيفة "الفيجارو" اليمينية في فرنسا، وهي كلها صحف لا علاقة لها بصحافة المنشورات الحزبية والسياسية التي يمكن أن نجدها في أي مكان آخر في العالم العربي.
وهناك "مدرسة الوسط" في الصحافة العالمية، وأبرزها صحيفة اللوموند الفرنسية، والحقيقة أن المعنى المهني لكلمة وسط في الصحافة العالمية وخاصة الفرنسية -في حال ما إذا أخذنا صحيفة اللوموند نموذجا- هو دفاعها على القيم الأساسية للمجتمع، فنجدها "تنتفض" حين تجد القيم الأساسية للنظام الجمهوري وللمجتمع الفرنسي كالعلمانية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان مهددة.
وهنا سنجد أن "مانشيتات" صحيفة اللوموند كانت في كثير من الأحيان عبارة عن استدعاء أو دفاع عن قيم المجتمع الأساسية، بل إن الأمر امتد إلى الدفاع عن قيم عالمية كالديمقراطية ومواجهة العنصرية والاحتلال في أي بقعة من العالم.
والحقيقة أن مواقف الصحيفة من الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أو الأمريكي في العراق كانت إيجابية للغاية ومتسقة مع قيمها ومع رسالتها السياسية والمهنية.
وتميل هذه المدرسة إلى عدم الإثارة في عرض الأخبار، ومعالجة مختلف القضايا باعتدال، سواء كانت في الرياضة أو الموضة أو السياسة، كما أن الصحيفة تحرص إجمالا على ألا تكون رد فعل عاطفيا للحدث فتحرص على قراءته بصورة موضوعية وهادئة على ضوء فهم لسياقه الأعم.
أما آخر تجارب الصحف الحزبية في أوربا فكانت تجربة صحيفة "اللومانيتية" -"الإنسانية"- التي كانت لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي، وأصبحت منذ ما يقرب عقدا من الزمان مجرد صحيفة يسارية وليست لسان حال الحزب لتنهي بذلك تجربة آخر صحيفة حزبية مثلت لسان حال آخر حزب شيوعي تقليدي في أوربا.
الصحف الحزبية في مصر: أزمة صحافة أم مجتمع
إذا تحدثنا عن مصر كنموذج عربي فسنشير إلى أن الصحافة الحزبية بدأت فيها منذ أن بدأ الرئيس أنور السادات تجربة تأسيس نظام سياسي على التعددية الحزبية، فأعطى الحق للأحزاب المصرية القانونية في أن تصدر صحفا تعبر عنها، ثم شهدت البلاد منذ عقد الثمانينيات صدور صحف أخرى مستقلة كثير منها يحمل تراخيص قانونية من خارج الحدود.
أما الصحف القومية المملوكة للدولة فقد عبرت عمليا عن الخطاب الرسمي حتى لو كتب فيها كتاب معارضون، أو ظهرت فيها مقالات مخالفة لبعض السياسات الرسمية، كما عبرت الصحف الحزبية عن توجهات أحزابها السياسية، فظهرت صحيفة الوفد كلسان حال لحزب الوفد، والأهالي كلسان حال حزب التجمع، والعربي كلسان حال الحزب الناصري. أما الصحف المستقلة فمن الصعب وضع معظمها داخل قالب "سياسي" بعينه ربما باستثناء الأسبوع ومؤخرا نهضة مصر والمصري اليوم، فقد بقي أغلبها أقرب للصحف التابلويد البعيدة عن أي تقسيم سياسي.
والحقيقة أن هناك رأيا سائدا داخل الأوساط الصحفية المصرية يعتبر أن الصحافة مهنة يجب أن تحكمها فقط التقاليد والقواعد المهنية وليس أي توجه أيديولوجي، وهذا الرأي صحيح، ولكنه لا يتعارض مع القول بأن كثيرا من الصحف الكبرى في العالم حكمها كما ذكرنا من قبل ميل -أو حساسية ما- نحو توجه سياسي بعينه -وليس حزبيا- انعكس على طريقتها في المعالجة الصحفية والمهنية، وليس في ترديد شعارات سياسية بعينها، كما يحدث بالنسبة للصحف الحزبية في مصر، أو "المدرسة البعثية" في الصحافة العربية.
وهنا يصبح التساؤل مشروعا هل يمكن القول بأن هناك صحفا يسارية أو يمينية أو إسلامية لديها "حساسيتها" السياسية، وتعاطفها الفكري مع اتجاه بعينه، ولكنها في نفس الوقت تحرص على ترجمة هذا التوجه في طريقة معينة في المعالجة المهنية، أي هل يمكن أن نقول مثلا إن المدرسة اليسارية قد تميزت أجندتها المهنية بصفات خاصة تميزها عن الصحف اليمينية مثلا؟.. الإجابة بالتأكيد ستكون بنعم، ولكن هذا التميز يختلف عن التميز الذي تقدمه الصحافة الحزبية، والتي تقدم صحافة أقرب للمنشور السياسي نتيجة لكونها تعبر عن توجه أيديولوجي محدد يرسمه الحزب الذي يملكها.
المراوحة بين "المهنية" و"النضالية"!
والحقيقة أن المعادلة المصرية في هذا المجال أصيبت بحالة من الفوضى وعدم الوضوح، فلاعتبارات كثيرة ظلت الصحف الحزبية أقرب إلى النشرات الأيديولوجية تعبر عن خط الحزب وفي أحيان كثيرة عن زعيمه، وصارت تصريحات القائد الحزبي تأخذ مساحة في بعض الأحيان أكبر بكثير من المساحة التي يأخذها رئيس الجمهورية في الصحف القومية، وتعيش كثير منها حالة بعيدة عن التقاليد المهنية باعتبارها صحافة "مناضلة"، وبقاؤها يعد مظهرا من مظاهر الديمقراطية، فأخفت الواجهة السياسية كثيرا من الأخطاء المهنية، وتجاوزات ملاكها الحزبيين بحق الصحيفة والصحفيين معا.
ورغم كل هذه المثالب المحيطة بطبيعة الصحف الحزبية فإن "وجودها المتراجع" في مصر سيظل قائما نتيجة القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير، وإن اختفاءها أو تحولها إلى صورة أقرب للنشرات الحزبية الداخلية لن يتم إلا في ظل نظام ديمقراطي كامل، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن بعض هذه الصحف قد نجح في خلق جمهور خاص به، يتجاوز جمهوره الحزبي كما حدث بالنسبة لصحيفة العربي التي تعرضت بجرأة نادرة لقضايا بدت كأنها من المقدسات التي لا تمس، كمعالجة قضية توريث السلطة، ومحاربة الفساد وغيرها.
ومع ذلك فإن الحديث عن "تجاوز" ظاهرة الصحافة الحزبية في مصر لا يفترض إلغاؤها بقرار إداري أو سلطوي، بل يعني في الحقيقة أن تطور المناخ الديمقراطي وحرية الرأي والتعبير وتجديد خطاب الأحزاب الرئيسية سيؤدي إلى ظهور مستويين من هذه الصحافة: الأولى هي تلك الصحافة المعبرة عن قيم توجه سياسي بعينه -وليس حزبيا- كأن تكون هناك صحيفة معبرة مثلا عن قيم اليسار وليس بالضرورة أن تكون هي لسان حزب التجمع، أو أي حزب يساري آخر، والثاني استمرار الصحف أو النشرات الحزبية تعبر عن أحزابها، ولكن سيظل من المعروف سلفا أنها صحافة أيديولوجية من حقها التواجد، ولكن ليس من حقها أن تندهش وراء أسباب تراجع توزيعها مقارنة بما ساد في السبعينيات ومقارنة بالفرص المتاحة أمام صحف تنطلق بالأساس من قواعد مهنية تمثل الأساس التي تبني عليها حساسيتها أو ميولها نحو قيم يسارية أو إسلامية أو ليبرالية.
والحقيقة أن هذا الابتكار ما زال غائبا عن الصحافة المصرية والمتمثل في قدرتها على خلق مجال مهني للصحافة السياسية يتجاوز انتماءها الحزبي الضيق، ويجعلنا نرى صحفا تعبر عن اليسار وعن الناصريين وعن اليمين الوفدي وغير الوفدي وعن التيار الإسلامي دون أن تكون مجرد لسان حال للحزب أو التيار الذي تعبر عنه.