أصبح الإعلام في عصرنا علماً له قواعد وأصول ولم تعد الممارسات العملية وحدها كافية للتقدم في مجالات الإعلام المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما وغيرها من وسائل الاتصال.
ولما كان عصرنا هو عصر التقدم والعلم الذي يحتم مسايرةٍ الأفكار العالمية في مختلف المجالات ،ويؤكد أن كل نهضته علمية لابد لها من الارتباط بالمستوى العالمي في الفكر.
إن دراسة الموضوعات المتخصصة في مجالات الإعلام على اختلافها وتعددها لابد وأن ترجع أولاً إلى معرفة الإنسان الذي تتعرض له وسائل الاتصال، ومعرفة هذا الإنسان هي دراسة الرأي العام ،وهذا بطبيعته يتطلب معرفة مدى تأثره بالدعاية والإعلام.
مفهوم الرأي العام
لإعطاء تصور واضح عن مفهوم الرأي العام ارتأينا أن نستعرض في البداية التطور التاريخي لهذا المفهوم من البداية إلى أن أصبح مصطلحاً شائع الاستعمال والتداول، فالأشياء توجد أولا ثم تعرض أسماءها،ومنها الرأي العام فهو قديم قدم البشرية، وإن كان كاصطلاح من مصطلحات العصر الحديث الذي تعددت فيه وسائل التعبير عن هذا الرأي العام من الصحيفة إلى الإذاعة إلى التلفزيون.
وعندما اكتشف الإنسان الكتابة وما رافقها من ظهور الحضارات زادت أهمية الرأي العام، فكان حكام (سومر) و (بابل) و(آشور) يقيمون للرأي العام وزناً لا بأس به، كما تكشف آثار مصر القديمة عن إدراك واضح للرأي العام وتكشف عن أساليب راقية للتأثير فيه وتوجيهه الوجهة المطلوبة مثل (تأليه) الفرعون وتقديس الكهان وتشييد المعابد وإقامة الأهرامات، ولم يكن هذا كله سوى أساليب متطورة للتأثير في الرأي العام.
وكانت المدن اليونانية القديمة أول من أعطى للرأي العام مجالاً واسعاً لتنظيم شؤون المجتمع.
لقد تحدث الرومان بعد ذلك عن (الآراء الشائعة) ووصلوا إلى مفهوم (صوت الجمهور أو (صوت الشعب) ،وإن الكلمات الإغريقية (casa pfeme nomos) واصطلاح (vxo populi) تدل على رأي المواطنين الراغبين في التأثير في الأمور العامة.
ثم جاءت الحضارة الإسلامية ومن خلال القواعد التي أرستها نستطيع القول، إنها قد اهتمت بالرأي العام وأعطته سلطات كبيرة تصل إلى حد معصية الحاكم والثورة عليه، إن هو خرج عن حدود سلطته المحددة له، وقد وضع الإسلام أصولا عامة منها (مبدأ الشورى) كما اعترف الإسلام بالحقوق والحريات كحق الملكية الفردية والجماعية. وأقام الإسلام حرية الرأي وحرية العقيدة وغير ذلك من الحريات الأخرى.
وابتداء من كتابات ميكيا فيلي (1469- 1527) حدث تطور معتبر في الكيفية التي تناول الفكر الفلسفي ما يسمى (بالرأي العام)، فقد اعتبره عنصراً يجب أن يؤخذ بالحسبان في عملية الصراع من أجل السلطة.
فيما كان روسو (1712- 1778) أول فيلسوف يستخدم تعبير الرأي العام ومن أهم كتابات روسو العديدة كتابه في العقد الاجتماعي، ويمكن اعتبار الفكرة الأساسية وراء العقد الاجتماعي هو موضوع الوحدة… وحدة البناء الاجتماعي وذلك بإخضاع المصالح الخاصة للإدارة العامة. فالحكومة دورها مساعد لأن الإدارة العامة هي مجموع إرادة الشعب الذي يضع القوانين والحكومة ما هي إلاالافراد الذين يقومون بتنفيذ القوانين، وواضح أن مفهوم إرادة الشعب يشير في المعنى العملي التطبيقي إلى جوهر الرأي العام في معناه المعاصر.
في القرن الثامن عشر المسمى بـ (عصر التنوير) جاءت الثورة الأمريكية وبعدها الفرنسية كأبرز حدثين يعبران عن دور وقوة الرأي العام.
ثم جاء القرن التاسع عشر الملىء بالأحداث والتغيرات حيث قامت الثورة الصناعية، وتطورت الكشوفات العلمية واختراع وسائل الاتصال الجديدة حتى أصبح الرأي العام ذو سطوة وسلطان كبير، كان من نتائجه مطالبة العمال بوضع التشريعات التي تضمن حقوقهم ومصالحهم.
وشهدت نهاية القرن التاسع عشر كتابات (جوستاف لوبون) العالم الاجتماعي الذي كان أحد الأوائل الذين أدركوا فكرة (الجمهور) و (التكتل) الشعبي، وتأثيرها في العمل السياسي.
وأخيراً جاء القرن العشرين فتوج انتصارات الرأي العام بمزيد من الانتصارات ذلك أن ظهور الراديو والتلفزيون والسينما قد جعل هذا القرن قرن الرأي العام، وكان للحرب العالمية الأولى التي شهدها هذا القرن أثرهام في تدعيم الرأي العام فظهور الدراسات النفسية في القارة الجديدة بعد هذه الحرب التي ركزت على دراسة السلوك، قادت إلى اكتشاف أن أصل السلوك ما هو إلا بعض صور التهيؤ للعمل وأطلقت عليه مفهوم (المواقف) أو (الاتجاهات) وهذا المفهوم ليس إلا الرأي العام في جوهره، أو القاعدة التي يقوم عليها الرأي العام.
ومنذ بداية الثلاثينات بدأ ما يسمى بأبحاث قياس الرأي العام حيث تقوم هذه الأبحاث بقياس المواقف وردود الأفعال على القضايا والموضوعات التي تشهدها الحياة السياسية والاجتماعية. إن الأحداث الضخمة التي شهدها القرن العشرين والتي هزت الوجدان العالمي بأسره بدءاً من الحرب العالمية الأولى (1929-1932) والحرب العالمية الثانية، قد أثرت بهذا الشكل أو ذاك بالرأي العام وبدوره في الحياة السياسية الوطنية والدولية ،وأصبح للرأي العام دور كبير في صياغة الأحداث وفي توجيهها وبات أصحاب القرار السياسي يضعونه في حساباتهم سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا به.
ولتوضيح مفهوم الرأي العام ذهب بعض الباحثين إلى تفسير معنى كلمتي (الرأي) و (العام) المكونة لمصطلح الرأي العام وإننا نلجأ إلى الطريقتين معاً لتوضيح هذا المفهوم ودلالته.
فهناك من وصف الرأي العام كعاطفة إزاء موضوع معين التي يرحب بها أكثر أعضاء الجماعة اطلاعاً وذكاء، ثم لا تلبث هذه العاطفة أن تنتشر وتعتنق من قبل معظم الأشخاص الذين تتكون منهم جماعة متعلمة ذات مشاعر سوية تعيش في دولة متمدنة ومتحضرة.
فيما أعتبر آخرون أن كل ما يمكن أن يحث على عملية التفكير والإعراب عن ذلك حول قضايا المصلحة العامة يدخل في تكوين الرأي العام، وبالتالي يمثل الرأي الأكثر فعالية لأكبر عدد ممكن من المواطنين الواعين.
والرأي العام إنما يصبح ذا معنى، حين يكون متعلقاً بموقف يتخذه أفراد كثيرون يعبرون أو يمكن مناشدتهم للتعبير من خلاله عن أنفسهم في شكل تحبيذ أو تأييد أو بالعكس في شكل رفض ومعارضة لحالة محددة، أو شخص معين بالذات، أو اقتراح محدد ذي أهمية واسعة النطاق، بشرط ان يكون هذا متمتعاً بقدر كبير من القوة العددية والشدة بحيث يسمح باحتمال اتخاذ إجراء مباشر أو غير مباشر إزاء الهدف المقصود.
ويؤكد العلماء على هذه الطبيعة المائعة للرأي العام، فهو قوة حقيقية شأنها شأن الريح، له ضغط لا تراه ولكنه ذو ثقل عظيم، وهو كالريح لا تمسك بها ولكنك تحني لها الرأس متطبعاً.