حركة الرأي العام في الغرب وقواعد التأثير

الرأي العام (المحلي والخارجي) مصدر اهتمام خاص للناشطين في قضايا التحرر الوطني، نظرا لما يلعبه التأييد الأهلي من دور مركزي في مساندة النضال التحرري وتمكينه من تحقيق أهدافه في تقويض ركائز الاستعمار وتفكيك بُناه، وفي الصورة المقابلة ما يسببه فقدان هذا التأييد من خسائر، وانقلابه إلى سخط واستياء نتيجة سياسات خاطئة وأدوات منفّرة.

ونظرا للأهمية التي يحتلها الرأي العام، فقد سعت دول الهيمنة في الغالب إلى جعله في صدارة اهتماماتها، ليس من جهة الاستجابة لآماله وطموحاته، ولكن من زاوية التأثير عليه وتغذيته باستمرار بالمعلومات والأفكار التي تجعله مسانداً لبرامجها، وخاصة في مجال التحركات الخارجية.

وفي حالات الاحتلال والهيمنة، سعت الدول المستعمِرة إلى توظيف الرأي العام، سواء لديها، أو في المناطق المعنية بالنزاع لجهة تأييد خطط وبرامج الهيمنة، أو اتخاذ مواقف لا مبالية، وفي الحالتين، يمكن وصف الرأي العام الخارجي بعدم الفاعلية الإيجابية، التي تتيح للقوى المستعمَرة توظيف الكتلة البشرية التي تستند إليها قوة الصراع المهيمنة لصالح التحرر والاستقلال.

ويتيح استقراء التاريخ المعاصر، حيث بات مفهوم الرأي العام يأخذ شكلاً أكثر نضجاً ووضوحاً، الوقوف عند حالات مميزة، عندما أخفقت سياسات قوى الهيمنة في مواصلة عملية الإطباق على الرأي العام لديها، وعزله عن مؤثرات سياساتها الخارجية، حيث انتفض الرأي العام ليرغم حكوماته على تعديل خططها، والاستجابة لواقع يزول فيه الظلم والحيف الذي وقع على شعوب أخرى.

وتتجلى النماذج البيّنة في هذا المجال، في حالتي فيتنام وجنوب أفريقيا، حيث نجحت حركة الرأي العام الدؤوبة في الغرب ودول أخرى على إرغام الحكومة الأمريكية في نهاية المطاف على الانسحاب من فيتنام بالتزامن مع فاعلية المقاومة وصمود الشعب الفيتنامي.

وفي حالة جنوب أفريقيا فقد أدى نضال حركة التحرر للأغلبية السوداء، بالتعاضد مع مناصريها في العالم، إلى تحويل النظام العنصري إلى عبء أخلاقي وسياسي واقتصادي على مجمل النظام الغربي، واضطرار الأخير في نهاية المطاف إلى سحب مساندته للأقلية البيضاء، والإقرار بأحقية الأغلبية في الحرية وتقرير المصير.

ويبدو النضال التحرري في فلسطين، شبيهاً في تداخلاته مع القضايا الكبرى ذات الأثر الإنساني، والتي تتشابك فيها عوامل الضغط السياسية والاقتصادية والإعلامية، ويبدو الصراع حول الفوز بتأييد الرأي العام محتدما على الدوام بين الأطراف كافة، بما في ذلك استغلال أخطاء الخصم الميدانية أو السياسية لإحداث انعطافة في رأي الجمهور ضمن إقليم معين، أو في مناطق أوسع، سواء من جانب قوى التحرر الفلسطينية خدمة لبرنامجها الكفاحي، أو من جانب العدو المحتل، الذي يسعى إلى تسويغ احتلاله والتغطية على أعماله الوحشية بمنحها صفة "الدفاع المشروع عن النفس".


* الرأي العام وعوامل التأثير

أدى التطور التقني، والانتشار الواسع لوسائل الإعلام، ونشوء ما يعرف بـ"الإعلام الإلكتروني"، و"الإعلام الفضائي" إلى إحداث تغيير جوهري في مفهوم "الرأي العام"، المرتبط أساساً ببقعة جغرافية، والخاضع لمؤثرات ذات طبيعة مركزية.

لقد ساهمت ثورة الاتصال الحديثة في تحويل الرأي العام من كتل متناثرة، محدودة الاتصال وضعيفة التأثير التلازمي، إلى مجموعة خلايا مترابطة بعضها ببعض، وفتح قنوات اتصال سريعة وغير خاضعة لهيمنة النظم السياسية، وذات رقعة عالمية قادرة على الانسابية والنفاذ، وتفعيل أدائها في أكثر من بقعة جغرافية في آن معاً، كما تجلى ذلك في حركة الاحتجاج العالمية على العولمة ومنظمة التجارة العالمية، وفي الحركة الشعبية في ذكرى عيد العمال، حيث برزت موجة التحرك المدني في البلدان الرأسمالية بشكل خاص.

غير أن كسب الرأي العام من ناحية التأييد والتعاطف لا يعتبر من الأمور المسلم بها في نطاق الصراعات الطويلة المدى، كما أنه غير مرتبط حتمياً بالجهة التي ترى أن الحق يقف إلى جانبها، لأن عملية صناعة الرأي العام، وصياغته وقولبته وفق أنماط محددة تخضع لآليات ومراحل متعددة، تجعل عملية العثور على "الحق الواضح والجلي" صعبة وعسيرة، خاصة لأولئك الواقفين على أطراف الصراعات، حيث تنتج القولبة في الغالب دعاة ينبثقون من داخل جبهة الخصم يتبنون ما يودّ الطرف المهيمن الإفصاح عنه وتحقيقه.

ومن هنا فإن معركة كسب الرأي العام، تتطلب توفر عناصر أساسية، من زاوية أرضية الصراع، والأدوات المستخدمة فيه، ويمكن التأشير عليها بالآتي:

*أن تتصف القضية التي يتم تبنيها بالعدل من زاوية المفهوم الإنساني، وأن تحتوي على عناصر التعبير عن هذا المفهوم، مثل سقوط ضحايا مدنيين للعنف، ووجود لاجئين في أوضاع مزرية، وتحكّمِ مجموعة بشرية بمجموعة أخرى وحرمانها من الحقوق المدنية والسياسية وفي مقدمتها حق تقرير المصير، إضافة إلى التهجير القسري، وما ينتج عن الاحتلال الاستيطاني من آثار مناقضة لمفهوم الحرية والعدالة وحق الحياة الآمنة والحرة كما بلورتها منظومة القوانين الأممية المعاصرة، بحيث باتت تحكم إيقاع ما يمكن وصفه بـ "المجتمع الدولي".

*توفر خطاب سياسي ذكي وانسيابي، قادر على معالجة الأخطاء بالسرعة الممكنة، وتفادي المضي في سياسات قد تلحق ضرراً استراتيجياً بالأداء العام للقضية المركزية التي يتم تبنيها، وبالتالي فإن عناصر هذا الخطاب يجب أن تكون محل دراسة وتمحيص بشكل متواصل بما ينسجم مع تفاعلات الواقع الدولي. ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال تقديم تنازلات في البرنامج السياسي المركزي لجهة الاحتفاظ بتأييد الرأي العام، لأن تقديم التنازلات لا يعتبر مؤشرا لكسب الرأي العام بقدر ما هو دليل على عدم القدرة في إنجاز ذلك والرضوخ لضغوط الخصم الذي يفترض أنه نجح في تحقيق انحياز المجتمع المدني لصالحه في صورة ترغم الطرف الآخر على تقديم تنازلات.

*توفر إعلام فاعل ومؤثر، يتمتع بقدرات كافية على التحرك الإيجابي والتفاعلي في ميادين متعددة، وتتوفر لديه أساليب وأشكال متنوعة من النواحي الفنية والمهنية، ويحظى بقدر واسع من حرية المناورة في الساحات التي ينشط فيها، ويتيح الإعلام غير الحكومي، والقريب من نبض الإنسان مجالاً خصباً للتأثير على حركة المجموعات البشرية وتوظيفها في اتجاهات مؤثرة وفاعلة، كما لوحظ في التصعيد الذي شهدته الانتفاضة الفلسطينية خلال عدوان "السور الواقي" بين آذار (مارس)، وأيار (مايو) 2002، حيث أوجد الأداء الإعلامي نوعا من التنسيق في الحركة، والتناظر في الأساليب لدى الشعوب العربية رغم التباينات الجغرافية والسياسية.

* وجود قوى منظمة بشكل فعال ومُحكم تتولى التعامل مع الرأي العام على اختلاف أطيافه، وتتوفر على قدرات كافية ثقافية وفكرية وبشرية ومادية تتيح لها إمكانية الاستمرار والتطوير في أساليبها وأدواتها، ولا بد لتلك القوى من أن تحسن اختيار مفردات خطابها الموجه، وتدقق في توقيت تحركاتها، ولا تركن إلى النجاحات التي يمكن أن تحققها، بقدر ما تبدي اهتماماً بالتحديات التي تواجهها، والانكسارات التي قد تصيبها، لأن من شأن الخصم الانقضاض على الخطأ وتحويله إلى فشل ذريع ومن ثم الإفادة منه في تقويض قدرات الطرف المقابل وشلّه.

* الإفادة من القوى كافة التي تحيط بنواة القضية المركزية، سواء كانت جزءاً من الصراع، أم تقف على تخومه وتبدي تفاعلاً معه، نظراً لأن عملية مخاطبة الرأي العام والاقتراب منه، تفترض توظيف كامل الإمكانيات المتاحة واستغلال المساحات التي تتوفر للحركة الحرة وغير المقيدة ، فإن انخراط مزيد من القوى المنظمة ضمن الجبهة المساندة للقضية، وتأهيل كوادر تلك القوى وتدريبها على التعاطي مع الرأي العام، يعتبر مكسبا استراتيجيا يتوفر على مخزون مستقبلي يمكن توظيفه في حالات اشتداد الصراع، ولجوء الخصم إلى استخدام أدوات إضافية.
الرأي العام في الغرب .. واقع وقراءة

تعنى كثير من النظم السياسية وحركات التحرر الوطنية برصد مواقف الرأي العام في الغرب، ومحاولات التأثير عليه، وقد برز ذلك جلياً في العقود الخمسة الأخيرة، حينما أمسك العالم الغربي بدفّة التغيير على الصعيد الدولي، وأتاحت له قوته الاقتصادية ونفوذه العسكري فرض هيمنته الثقافية ونموذجه المؤطر للدولة الحديثة غير الخاضعة للخصوصيات المجتمعية، وتحولت مستويات الهيمنة إلى نموذج أكثر عسفاً مع انهيار نظام القطبية الثنائية عقب حرب الخليج الثانية (1991) وإمساك الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي.

لقد تركت التحولات الكبرى على صعيد النظام الغربي (الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) في العقود الأخيرة شعوراً لدى قطاع واسع من العالم المتأثر ضمناً بسياسات الهيمنة تقديراً بأهمية مخاطبة الرأي العام لدى تلك المنظومة ومحاولة التأثير عليه، وصولا إلى التأثير على نظامه السياسي، الذي يعتبر الأكثر قدرة وحيوية في فن التعامل مع الرأي العام لديه، والنجاح الذي تحقق على مدى زمني طويل في إقامة جدار عازل بين الجمهور الغربي ومسائل السياسة الخارجية، إلى درجة أصبحت فيها ثقافة الإنسان الغربي عن أجزاء العالم الأخرى تبدو مضحكة ومثيرة للدهشة في آن معاً.

قد يكون مدعاة للغرابة مشاهدة مواطن غربي يُسأل في لقاء عام أو برنامج تلفزيوني عن موقع بلد آخر في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، أو عن اسم عاصمة ما، أو زعيم دولة، فيقدم إجابة تجعل أعين سامعه تلتصق بأعلى رأسه، إذ تنم الإجابة عن جهل مطبق بالجغرافيا، أو التاريخ، أو حتى الحاضر، ومما يزيد من الدهشة أن يصل حدود "التحجيم الثقافي" إلى مستوى انتقاء المعلومات ضمن نطاق الساحة التي يعيش فيها المواطن الغربي وإعادة صياغتها وتركيبها بشكل يؤدي إلى دفع الاهتمامات الشخصية نحو أهداف محددة لا تتسم في الغالب بطابع سياسي أو ذي صلة بالخارج.

وربما يدور التساؤل هنا عن الجهات التي تتحمل مسؤولية ذلك، والأسباب التي تدفعها، سعياً نحو فهم أفضل لطبيعتها وتحديد وسائل التعامل معها، ضمن الفكرة الأوسع التي طرحت أساساً وصولاً إلى مخاطبة هذا القطاع من الرأي العام والتأثير عليه.

تبدو حالة الرأي العام في الغرب متشابكة بعض الشيء، إذ تتنازعها عوامل ومعطيات عديدة، وتتنافس في التأثير عليها مجموعات واسعة من القوى والهيئات، تمتد على مساحة واسعة من التنوع الاقتصادي والثقافي والسياسي والديني، وإذا ما أخذ بعين الاعتبار الطبيعة المعقدة للحياة الرأسمالية وتكاليفها الضاغطة، وغزارة المعلومات التي يتم دفعها، وصعوبة التأثير على الرأي العام من لدن مجموعات النفوذ الصغيرة، فإن الحاجة تبدو ماسة لجهد جماعي ومنظم وذي طبيعة متنامية يضع في اعتباره عاملي الزمن والخبرة المتراكمة، سعياً إلى حضور بارز في المساحة الذهنية لدى الرأي العام الغربي.

إن من أبرز ما يميز الرأي العام في الغرب في مستهل القرن الجديد، تنوعه الثقافي، وليبراليته الفكرية، وتوفر مساحة من حرية التعبير والتنظم، وتمكن مؤسسات المجتمع المدني من النفاذ إليه، وابتكار أساليب ووسائل خلاقة في التعامل مع الأحداث والتعبير عن المواقف إزاءها، وتنامي قدرة التأثير على مواقف المستوى السياسي، ووجود منظومة قانونية تحفظ قدراً وافياً من الحريات الشخصية والعامة.