. إحاطاته وتأثيراته، لذا فهو رأي يخشى من أبعاد إرادته وفاعلية نتائجه، وبالذات لدى الأنظمة السياسية التي تناوئ مصالح مجتمعاتها، وضمن هذا المعنى فالرأي العام ليس رأياً عابراً يفتش عن المساومة، لأجل تحقيق مكسب ما، إذ غالباً ما تستند مكنوناته لتبلورات الضمير حول هذه المسألة أو تلك. وتاريخية الرأي العام هي التي حفظت ومنذ أجيال بعيدة حقوق شخصيات، كاد غبار الدهور أن يطمر حلمها واملها..
والرأي العام قديم قدم أول مماحكة وقعت بين الإنسان وأخيه الإنسان، لذلك يلاحظ في بعض البلاد، المتوفرة فيها إمكانية استنطاق الناس لاستحصال رأيهم بأساليب عادية حول أمر مجتمعي ما، أن يكلفوا بعض الموظفيـــن المتخصصين للوقوف حول ما يمكن الوقوف على الانطباعات عنه، ويتم ذلك سواء عن طريق ملء استمارات الاستفتاء، أو بطاقات الاستبيان، فالكل متفقون هناك أن الرأي العام أمر قائم بحد ذاته، وهو الرأي الأرجح والمقبول والمؤيد بين أفراد أي مجتمع، والرأي العام رغم حمله للهموم الكبرى للناس وبأمانة مشهودة، فإن إطلاق تسمية (الرأي العام) يجيء من حيث ميزة معناه، وشمولية مقصده، ودقة الاستدلال عليه، كونه رأيا لصيقا بالناس العفويين الطيبين، وسمي بالرأي العام تمييزاً عن الرأي الخاص ـ الفردي ـ.
والرأي العام.. تستجمع فيه بجلاء كل آراء الجماعة المختلفة في مستويات مشارب أفرادها بالنسبة للثقافة والاجتماع والسياسة.. وتصل حدود التمسك بإعلامية الرأي العام، إثر ظهور النتائج المستحصلة من إجراء استبيان أو استفتاء ما، إلى اعتمادها في المجالات المحددة لها، ولما كان الرأي العام ظاهرة غير مصرح بها على أغلبية الأحـــوال، وتتلمس فيه ميول وأخلاق وأحكام المجتمع المعني، فيلاحظ أن الرأي العام كمفهوم فإنه يرسم القرار الأفضل الممكن اتخاذه لحالات مطلوبة، وطبيعي فهناك عازل نفسي كبير بين ما يتمثله الرأي العام الإيجابي، وما يمثله رأي الغوغاء السلبي، رغم المشابهة بكونهما يحملان معاً صفة التجمع السريع والتفرق الأسرع في ظرف زماني ومكاني معينين. ومعروف أن للرأي العام قوة تأثير فاعلة، لدى كل مجتمع بنفس القدر الذي يشكل فيه من ناحية مقابلة سلطة غير منظورة على السلطات، والقادة السياسيون يأخذون تأثير دور الرأي العام في بلدانهم باعتبارات حذرة.
تشكيل النوع للرأي العام
لو.. تم النظر بحياد مستوعب إلى نشاطات ما تقدمه وسائل الأعلام المحلية في أي بلد.. من أخبار وتعليقات ومتابعات هي في الأساس ليست محط أي اهتمام من قبل الجمهور المتلقي للإعلام، لاستبان فعلاً عند المتابعين القلة، أنها نشاطات تستهدف أكثر من مجال للتأثير السلبي على نفسية مواطنيها، أي أن التأثير المطلوب على الرأي العام يساهم في عملية تشكيل النوع للبنة الإعلام الشفهي المتداول، بحيث يمكّن في نهاية الأمر بتحقيق التحكم بالرأي العام، عبر إشغال وإلهاء الجمهور بنتاجات إعلامية خالية من أي مضامين حقيقية. وبمعنى آخر فإن هناك تأثيرا إعلاميا متبادلا ترسم تقاطع خطوطه التعاملات الإيجابية، والرأي العام ذو السمة الخفية يقدم دفعات ضغوطه من لمس الآخرين لوجوده كي يرتفع الإعلام الرسمي في أي بلد لمستوى مـــصداقية الأحداث وليس التمويه عليها، ولما كان الرأي العام رغم نفس شعبيته في أي بلد ولكن لا يمثله إلا القطاع الواعي والعادل بين القطاعات العريضة للجمهور. وبذا فإن الرأي العام هنا هو إعلام شفهي عقلاني، وليس إعلاما لاستعراض العضلات من وراء الميكروفونات، أو إعلاما يجعل من رؤوس خونة السياسة أبطالاً على وريقات الصحف الصفراء.
وفعل.. آفاق الرأي العام المستند لفهم أشمل لعلميات التجاذب الإعلامي وما تؤديه من دور في تكوين وتطوير الرأي العام، يجعل المسألة الإعلامية في حضور وتصاعد دائمين، ولعل من غرار هذا مثلاً ممكن التذكير به على سبيل التوضيح، كم هو مخيف الرأي العام حين يمسك بخيوط حقائق السلوكيات المخابراتية السلبية، ففي يوم 13 تموز 1987م هددت الحكومة البريطانية بواسطة وسائل أعلامها المرئية والمسموعة والمقروءة، بأنها مصممة على تقاضي صحيفة (صنداي تايمز) المحلية البريطانية، بسبب ما نشرته من معلومات ضمها كتاب.. (مصيدة الجواسيس) الذي كان قد طبع ووزع في الولايات المتحدة الأميركية قبيل ذلك، وكانت بريطانيا قد منعت من دخوله إلى أراضيها، وهو كتاب قام بتأليفه المخابراتي البريطاني المتقاعد (بيتر رايت)، والذي فضح فيه كيف تتجسس بريطانيا ليس على البلدان النامية.. بل تجاوزت بــــذلك حتى على بلدان غربية من حلفاءها الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، التابع للجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة كـفرنسا، فقد كشف الكتاب في جانب منه عن التقنيات الفنية التي اعتمدت في وضع أجهزة تنصت داخل السفارة الفرنسية بلندن، خلال الفترة المحصورة بين سنة 1960 ـ 1963م.
الرأي العام ذخيرة للتاريخ
الرأي العام.. كقيمة لم تعرف بعد كل مناقبها، فلولا الرأي العام لما كان قد عرفت الجوانب المشرقة من التاريخ العربي والإسلامي والعالمي، ولما كان قد تم التعرف على أبطال التاريخ الحقيقيين، فالرأي العام الذي يراكم آراؤه وانطباعاته وأحكامه على الوقائع والأشخاص من جيل إلى جيل، هو الذي حفظ تراث الثورات العظيمة وتفاصيلها، وكان دائماً هناك سر إلهي يحرك شرائح من الناس كي لا ينسوا حقيقة ما حدث، كما كانت هناك دوماً قوة معنوية تتصدى لمحاولات التجاهل أو التشويه، إذ بقيت مساحات الرأي العام أكبر من الرقع الأرضية التي يتحرك عليها مناوئيه. وهذه الصلة القوية بين الرأي العام والتاريخ، هي التي جعلت الأخير يعتمد في حفظ ذخيرته لدى أناسه. صحيح أن جهودا إعلامية كبيرة قد ضاعت أو ضيّعت في العصر الراهن، لكن من المقر أن هناك تفهماً يفيد أن السياسة السلبية تقف وراء كل حالة مخفقة، فهناك حصار أعلامي داخل المادة الإعلامية المعروضة ذاتها أحياناً، خصوصاً وأن تمييز الخبر الإعلامي المصداق عن الخبر المفتعل هي عملية مرهقة على المواطنين العاديين، الذين يصعب عليهم متابعة الأمور الإعلامية المتوالية أول بأول.
وإذا.. كان اصطياد الخبر الإعلامي الممكن أن يتداوله الرأي العام هو مدار الغاية التي لا يصرح بها عادة، فإن الممارسة السياسية اللامحقة تأتي دائماً لتفضح كل شيء من حيث ما أرادت التستر عليه بالأمس. ومن خلال هذا الخضم الإعلامي المتلاطم تبقى صورة التاريخ بكل عنفوانه وميزان عدله، من بين كل الصور الأكثر لمعاناً في سماء الحقيقة، فمنذ زهاء أكثر من عقد من السنين، كان الكاتب الصحفي الألماني (جنتر فارلاف) قد أصدر كتابه المعنون (العقل التركي).. بعد أن كلفه ذلك إلى مجازفة التنكر في ارتداء زي عامل تركي، ولاستئناس كامل دوره ليبدو عاملاً حقيقياً فقد عاش بين جموع العمال الأتراك المتواجدين في ألمانيا الغربية.. لأشهر غير قليلة، بحيث استطاع أن يعيش تفاصيل حياتهم المأساوية، حتى كاد أن يصبح حقيقة كواحد منهم، وكان ذلك شعوره الشخصي دون أية رتوش. والكتاب في خلاصته جاء ليمثل إدانة صارخة من داخل المجتمع الألماني ضد العنصرية الألمانية الجديدة المعادية للمسلمين والعرب، وحول معيبة نقطة العنصرية المعشعشة في العقل الألماني المتعصب، أفلح (فارلاف) في فضحها، حين استشهد في كتابه.. بحادثة ذهابه إلى إحدى الكنائس الألمانية معرباً عن رغبته لتغيير دينه، كي يتزوج من فتاة ألمانية.. وطبعاً كان ذلك مجرد ادعاء منه، فما كان من مسؤول الكنيسة إلا ورفض طلبه رفضاً قاطعاً وبوجه متجهم.
الرأي العام في منظور الحكومات
بالنظر.. لميزة التفرد التي يتصف بها الرأي العام جراء قبوعه بين خلايا العقول، والإدراك تماماً من صعوبة الاستدلال على تقويماته للوقائع.. المعاشة، والتيقن أيضاً من صعوبة عملية انتزاع اعترافات كاملة لما يفكر به الناس حتى أثناء ظروف القمع والفجائع، لذلك فإن هذا السياج المحيط والمحصن للرأي العام جعل من الحكومات تشعر بتهيب منه وإن وراءها عيونا وآذانا تلاحقها وتسجل عليها النقاط والمآخذ، ولعل هذا ما دعا أكثر الحكام قساوة وجلافة عبر كل مراحل التاريخ، أن يفسحوا المجال الضئيل لخط الرجعة وانتمائهم الاجتماعي