وبالمقدرة على تجاوز ما هو راهن وليس بمدى ارتباطه بالواقع أو ببنائه الفكري لقد عبر الكثير من الباحثين (5) عن خشيتهم من التأثير السلبي لهذه السرعة على دقة الأخبار وموضوعيتها وخوفهم من تأثيرها على الجمهور .بدل الوقوف على ما يجرى وتفاعلاته في الساحة العسكرية والسياسية تدافعت العديد من القنوات التلفزيونية التي غطت " أحداث أفغانستان" إلى القفز على الواقع الشحيح بمعلوماته في محاولة استشفاف المستقبل عبر الأسئلة التي توجه إلى المراسلين الصحفيين و الخبراء، والتي نذكر منها ما يلي: كيف سيكون رد الفعل ؟ وما هي توقعاتكم بخصوص...؟ كيف ترون الوضع بعد...؟
إن خطر السرعة تكمن في نظرنا في مستويين، وهما:
1- جميع المهنيين والمختصين يدركون جيدا أن الأخبار هي مواد شديدة التلف وأن حياة قيمتها الإخبارية قصيرة جدا. إن إيديولوجية تقديس السرعة يختصر أكثر عمر الأخبار وذلك من خلال فرض المعادلة التالية التي لم تثبت صحتها: سرعة تدفق الأخبار تساوي ارتفاع إيقاع استهلاكها. الإمعان في هذه الفرضية يدفعنا إلى طرح المستوى الثاني من هذه الإشكالية.
2- إن سرعة تدفق الأخبار طرح مشكلا جديدا على البشرية لخصه الباحث الكندي " بسكال لابونت" فيما يلي (6) : ( ظلت التكنولوجية منذ 300 ألف سنة وسيلة لدعم الثقافة وتطويرها (...) لكن منذ منتصف القرن العشرين هناك شيء ما تغير لقد بدأنا ننتج بسرعة أكثر من طاقتنا على الهضم. لم يحدث هذا من قبل أبدا. النتيجة أننا نبلع أكثر فأكثر الإعلام وبسرعة متزايدة). نعتقد أن الإشكال الذي طرح منذ التسعينيات من القرن الماضي ليس محصورا في عدم المقدرة على هضم الإعلام الذي يصلنا بل يتعداه إلى عدم القدرة على بلع كل الأخبار المنتجة، أي متابعة إيقاع تدفق الأخبار بالسرعة التي تبعث على " الدوخة"، وهذا رغم محركات البحث عن المواقع في شبكة الانترنيت، ورغم وجود "مغربلات الأخبار والمعطيات في شبكة الانترنيت. ربما ستتضح خطورة السرعة في نقل الإعلام وتداوله من خلال الفرضية الثامنة.
الفرضية الثامنة: التغيير في طبيعة الإعلام
لقد تغير مفهوم الإعلام وطبيعته في عصر العولمة حيث لم يعد مرتبطا بمخرجات وسائل الاتصال الجماهيري بل أصبح شديد الالتصاق بالمعلومات: المالية، والعلمية، والتكنولوجية، والطبية، والرياضية، والثقافية، والاجتماعية. بمعنى أن الإعلام لم يعد حكرا على المؤسسات الإعلامية الكلاسيكية حيث دخل متعاملون جدد في مجال إنتاج الإعلام، وتخزينه، وتوزيعه، لم تكن لهم علاقة سابقة بوسائل الإعلام الكلاسيكية. لقد أنجر عن هذا التغيير أمرين أساسيين: إن القيمة التبادلية للإعلام تسعى لتطغى على قيمته الاستخدامية في ظل تحول البنية الاقتصادية للمؤسسة المنتجة للإعلام والقائمة على الطلب وليس على العرض، أي خلافا للمنطق الذي كان يستند إليه اقتصاد وسائل الإعلام في منتصف القرن الماضي والقائم على مبدأ العرض. كما أصبح الإعلام والمعلومات مادة لتراكم رأسمال في عصر العولمة.
إن عدد المنتمين لحقل الإعلام والاتصال في تزايد مستمر حيث تجاوز رجال الصحافة والعلاقات العامة. لقد انظم إليهم جيش من الفنيين والخبراء والمختصين في تجميع المعلومات وفي تخزينها، و حفظها، وبثها، وإعادة إنتاجها. وهذا ما يطرح قضايا أخلاقية وأدبية وقانونية في ممارسة الإعلام والاتصال بدأت تشكل هاجسا أساسيا لدى لسلطات العمومية وسط رجال القضاء ولدى الجمعيات المهنية.
الفرضية التاسعة: الحقيقة والحرية في مجال الإعلام
كان الاعتقاد السائد في القرن الماضي يتمثل في أن حرية الصحافة تساوي الحقيقة، وتعزز الحق في الإعلام والاتصال، لكن التحولات التي عاشها عالم الإعلام والاتصال في عصر العولمة تدعونا لمراجعة هذا الاعتقاد. فحرية الإعلام لم تعد بريئة من عمليات التضليل والتعتيم والتحايل على الحقيقة. إن الأمر لا يقتصر على بعض الحالات التي وصفت بأنها تجاوزات أخلاقية ومهنية وسياسية في تغطية بعض الأحداث، مثل أحداث تميشورا برومانيا. لقد أصبح هذا التضليل جزءا أساسيا مكونا لبعض المفاهيم والمصطلحات الإعلامية التي تكتسي طابعا تقنيا على الصعيد النظري وتعطي مشروعية لممارسة الإعلامية التي تقف في الحد الفاصل بين الحقيقة والزيف، مثل: To Make in the Media و تعطي " للواقع الإعلامي" بعدا أخرا يتمثل في إعادة ترتيب عناصر الحدث بغية إخراجها إعلاميا ( 7) .إن السمة التي تميز الإعلام في عصر العولمة هو هلامية الحاجز بين الواقع والخيال على الصعيد المفهومي أو الواقعي وذلك من خلال استشراء الصور الافتراضية أو الاعتبارية و المونتاج الرقمي للصور التلفزيونية وتأثيث التواصل البصري بالصور الرقمية التي أقل ما يقل عنها أنها لا تملك نسخة أصلية لها. فهي صورة ونسخة عن الصورة في الوقت ذاته.
إن رفع سقف حرية الإعلام لا يؤدي بالضرورة إلى رفع سقف ممارسة الحق في الإعلام. الكثير من المهتمين بتطورات تكنولوجية الاتصال التي زادت في كمية الأخبار والمعلومات يؤكدون على أن أكبر خطر يداهم ممارسة الإعلام يتمثل في غياب أو تغييب المصدر. هذا الأمر لا يشجع الحق في الإعلام بتاتا بل يميعه لأنه يسمح بالتأكيد عمليا على الحق في التضليل: فهل يمكن الجزم بأن الجمهور يتمتع فعلا بحقه في الإعلام في مطلع الألفية الحالية إذا كان لا يعرف مصدر الأخبار، ومنتج المواد الإعلامية أو أنه لا يملك الأدوات التي تسمح له بمعرفة ذلك.
كانت الحجة المستخدمة لإثبات غياب الحرية منذ العشرينيات من القرن الماضي تتمثل في حرمان الجمهور من حرية الاختيار. فلا حرية بدون اختيار الجمهور الواعي ما يشاهد وما يقرأه وما يستمع إليه. وقد تصدى الباحث الأمريكي هربرت شيلر في كتابه" The Mind Managers " سنة 1974 لتفكيك ما يسميها بأسطورة " الاختيار". لكن اتضح بأن الاختيار، بصرف النظر عن تباين وجهات النظر حوله، لا قيمة له إذا لم تعرف من يقول ماذا حقيقة.
الفرضية العاشرة: التفاوت بين الممارسة الإعلامية والتشريعات القانونية.
إن ممارسة الإعلام في عصر العولمة قد أحدث تغييرا واضحا في الآليات والمصادر التي كانت تقوم في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين بمراقبة المضامين الإعلامية المتداولة وقلصت من هامشها. فخلال هذه الفترة كانت الأداة التشريعية تتزامن مع الممارسة وفي بعض الأحيان تسبقها من باب الوقاية لقد أصبحت الأداة التشريعية تلهث للحاق بالممارسة الإعلامية قصد تقنينها. لقد أصبح بإمكان أي شخص أن يصدر صحيفة في شبكة الانترنيت بدون الالتزام بقوانين النشر سواء تلك التي تنص على التصريح أو الترخيص، بل أن هذه القوانين أصبحت عتيقة أو قليلة الجدوى. كما أصبح بإمكان أي شخص أن يبث برامج إذاعية عبر شبكة الانترنيت أو يؤسس دار لنشر الكتب الإلكترونية والأغنية عبر الشبكة وغيرها. إن رجال القضاء مازالوا يفكرون في الطرق المسدودة التي وصلت إليها الممارسة الإعلامية في مجال الضمان القانوني لحق الرد في شبكة الانترنيت، والمقاضاة في مجال الجرائم الناجمة عن النشر وجنحه.
*كلية العلوم السياسية والإعلامية- جامعة الجزائر
وكل ذلك حسب رأي الكاتب في المصدر المذكور نصاً ودون تعليق .
المصدر:e3lami.com
................................................
المراجع:
- لقد كتب هذا الاقتصادي في سنة 1865 ما يلي :
( إن سهول أمريكا الشمالية هي حقولنا للقمح، وشيكاغو وأوديسا هي مخزن حبوبنا، وكندا ودول البلطيق هي مستوطناتنا للخشب، إن أستراليا ترعى أغنامنا، بينما ترعى الأرجنتين وغرب أمريكا عجولنا، وفضة البيرو وذهب أستراليا وجنوب إفريقيا يتكدس في بريطانيا. يقوم الهنود والصينيين بزراعة الشاي لنا، بينما ينمو بننا وسكرنا وتوابلنا في الهندين. إسبانيا وفرنسا هما مزارع كرومنا، وكل مناطق البحر الأبيض المتوسط هي مزرعة أشجارنا المثمرة. إن قطننا الذي كان يزرع في جنوب أمريكا أصبح ينمو حاليا في عدة مناطق من العالم) نقلا عن:
Roger Charland : La mondialisation idéologie de fin de millénaire, HERMES volume 1,2 automne1998
- دانيل بونيو: الاتصال ضد الإعلام، ترجمة نصر الدين لعياضي، وسائل الاتصال الجماهيري والمجتمع: أراء ورؤى، دار القصبة، الجزائر 1999 ص 35
- مرجع سابق، ص 4
- نصر الدين لعياضي: مساءلة الإعلام، المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر 1991، ص 76
- أنظر على سبيل المثال :
Philipe Breton : la dictature de la communication, Ed
6- Pascal Lapointe : Peut-on se noyer dans une mer d information ? la presse- Montréal 23-juillet 1997
- أنظر: نصر الدين لعياضي، وسائل الاتصال الجماهيري والثقافة، القاعدة والاستثناء، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة 2001 ص 168