نظريات الصحافة وعلاقتها بالسلطة
في تفسير علاقة الصحافة، بالسلطة، في المجتمع، عبر التاريخ، ظهرت مجموعة من النظريات التي تفسر تطور الصحافة، ودورها في المجتمع، وعلاقتها بالسلطة الحاكمة، أو فلسفة الصحافة بشكل عام، ومن أبرز هذه النظريات:
1. نظرية السلطة، أو النظرية السلطوية Authoritarian
نشأت هذه النظرية في القرنين السادس عشر، والسابع عشر، في إنجلترا وتستند إلى فلسفة السلطة المطلقة للحاكم، أو لحكومته، أو لكلاهما معاً، ويظهر ذلك في نظريات أفلاطون، وأرسطو، وميكيافيلي، وهيجل. وغرضها الرئيسي هو حماية وتوطيد سياسة الحكومة، القابضة على زمام الحكم، وخدمة الدولة. ويعمل، في الصحف، ويصدرها، من يستطيع الحصول على ترخيص، من الحاكم، وتشرف الحكومة على الصحف، وتفرض الرقابة عليها. ويحظر، في إطار هذه النظرية، نقد الجهاز السياسي، والموظفين الرسميين. وملكية الصحف قد تكون خاصة أو عامة، وتكون أداة لترويج سياسات الحكومة ودعمها . وترى النظرية، أن الصفوة، التي تحكم الدولة، هي التي تملك أن توجه العامة، التي لا تعد مؤهلة، لاتخاذ القرارات السياسية. وأن الشخص، الذي يعمل بالصحافة، يكون عمله هذا، بمثابة امتياز خاص، يمنحه إياه القائد، لذلك فهو مدين بالالتزام للقائد وحكومته. وحرية وسائل الإعلام في ظل هذه النظرية تتحدد بالقدر الذي تسمح به القيادة الوطنية في أي وقت.
2. نظرية الحرية أو النظرية الليبرالية Libertarian
تعود هذه النظرية، بشكل أساسي، إلى عصر النهضة الأوروبية، وبالتحديد، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ بلور عدد من المفكرين الأوربيين، كثيراً من المبادئ، التي تحدت الأفكار السلطوية، التي سادت، حتى بداية عصر النهضة الأوروبية. وكان، من أبرزهم، المفكر الإنجليزي جون ميلتون، الذي كتب، عام 1664، يقول: "إن حرية النشر، بأي واسطة، ومن قبل أي شخص، مهما كان اتجاهه الفكري، حق من الحقوق الطبيعية، لجميع البشر، ولانستطيع أن نقلل من حرية النشر، بأي شكل، وتحت أي عذر".
أمَّا جون لوك، فقد عرّف الحرية بأنها "الحق في فعل، أي شيء، تسمح به القوانين". وكان لوك قد قَدَّم إلى البرلمان الإنجليزي، عام 1965، بياناً هاجم، فيه، تقييد حرية الصحافة، واضطر البرلمان، في ذلك الوقت، إلى إلغاء قانونه بفرض الرقابة الوقائية على الصحف.
لم يتحقق الانتصار الأول للنظرية الليبرالية، على النظرية السلطوية، أو نظرية السلطة إلاّ خلال القرن الثامن عشر، حين أصدر البرلمان البريطاني قراراً أكد على حظر أية رقابة مسبقة، على النشر، كما أباح، للأفراد، إصدار الصحف، من دون الحصول على ترخيص، من السلطة. وقد جاء هذا التعاون، نتيجة لأفكار المفكر الإنجليزي، بلاكستون، الذي أكد أن حرية الصحافة ضرورية، لوجود الدولة الحرة، وذلك يتطلب عدم وجود رقابة مسبقة، على النشر، ولكن يمكن أن يتعرض الصحفي للعقاب، بعد النشر، إذا تضمن هذا النشر جريمة، وكل إنسان حر أن ينشر ما يشاء، على الجمهور، ومنع ذلك يعد تدميراً لحرية الصحافـة.
جاء دستور الولايات المتحدة الأمريكية ليحظر، بشكل كامل، تدخل الدولة، في مجال حرية الصحافة، إذ نص على أنه يحظر على الكونجرس، أن يصدر أي قانون يقيد حرية التعبير والصحافة.
وتقوم أفكار الليبراليين، على أسس، أنه لابد من تقديم كل أنواع المعلومات، والأفكار للجمهور، وأن النقد الحر ضرورة، لتحقيق الرفاهية والتقدم، وأن الجماهير مجتمعة، أو أغلبيتها، تستطيع اتخاذ القرارات، التي تكون، دائماً، أقرب إلى الحقيقة، وهذه الثقة بالجماهير تجعلها قادرة، على انتخاب ممثليهم، وتوجيههم وتغييرهم، عندما يكون ذلك ضرورياً.
ويحدد المفكر الإعلامي السويدي، دينيس ماكويل، العناصر الرئيسية لنظرية الحرية، فيمـا يلي:
أ. إن النشر يجب أن يتحرر من أية رقابة مسبقة.
ب. إن مجال النشر والتوزيع يجب أن يكون مفتوحاً، لأي شخص، أو جماعة من دون الحصول على رخصة مسبقة من الحكومة.
ج. إن النقد الموجه، إلى أية حكومة، أو حزب سياسي، أو مسؤول رسمي، يجب ألاّ يكون محلاً للعقاب، حتى بعد النشر.
د. ألاّ يكون هناك أي نوع من الإكراه، أو الإلزام، بالنسبة للصحفي.
هـ. عدم وجود أي نوع من القيود، على جمع المعلومات، ونشرها، بالوسائل القانونية.
و. ألاّ يكون هناك أي قيد على تلقي أو إرسال المعلومات، عبر الحدود القومية.
ز. يجب أن يتمتع الصحفيون، بالاستقلال المهني، داخل مؤسساتهم الصحفية.
أسهمت النظرية الليبرالية، بشكل كبير، في تحرير الصحافة، من سيطرة الدولة، فأنهت وجود الكثير، من القيود، التي تفرضها السلطة على الصحافة، واستطاعت دول الشمال (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) أن تتمتع، خلال القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، بقدر كبير، من التعددية، والتنوع، في مجال الصحافة، واستطاعت الصحافة أن تدير، في هذه المجتمعات، مناقشة حرة بين، كافة الاتجاهات السياسية، وأن تنقل هذه المناقشات، إلى الجماهير، وهو ما أسهم في تقدم هذه المجتمعات، وزيادة حيويتها.
ولكن أوضاع الصحافة، في أوروبا، وأمريكا، خلال النصف الثاني، من القرن العشرين، ابتعدت بشكل كبير، عن تلك الأفكار الليبرالية، فتناقصت تعددية الصحف وقل تنوعها، وقلت بالتالي قدرتها على القيام بوظائفها، في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة، في المجتمع، ونقلها للجماهير.
وقد لعب تزايد الاتجاه، إلى الاحتكار، والتركيز في ملكية الصحافة، دوراً أساسياً في تعريض هذه النظرية للنقد، من كافة الاتجاهات السياسية. وبرزت رؤية أخرى، حتى من جانب المؤمنين بهذه النظرية تقول: "إن حرية الصحافة وحرية التعبير، لا يمكن ضمانها، إلاّ في حالة ما يكون إنتاج الأفكار وتوزيعها، بعيداً عن السيطرة الرأسمالية من ناحية، والسيطرة البيروقراطية السياسية، من ناحية أخرى".
3. نظرية المسؤولية الاجتماعية Social Responsibility
بدأت المراجعات النقدية للنظرية الليبرالية للصحافة، ابتداء من العقد الثاني، من القرن العشرين، ولكنها بلغت ذروتها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما تشكلت لجنة حرية الصحافة من اثني عشر أستاذاً أكاديمياً، يرأسهم البروفيسير روبرت هوتشنز. وضمت، بين أعضائها أبرز نقاد الصحافة الأمريكية مثل وليم ديفرز وتيودور بترسون.
أجرت اللجنة دراستها على الصحافة الأمريكية، بتمويل من مجلة تايم الأمريكية، ودائرة المعارف البريطانية، وقدمت تقريرها، في كتاب أعدته اللجنة كاملة، عام 1947، بعنوان: " صحافة حرة مسؤولة".
ولقيت دعوة اللجنة إلى صحافة حرة ومسؤولة، صدى داخل الولايات المتحدة وخارجها، في بلدان أوروبا، وعلى رأسها المملكة المتحدة فتشكلت اللجنة الملكية الأولى للصحافة، عام 1949، ودعت إلى التزام العاملين، في الصحافة، بمسؤوليتهم الاجتماعيـة، وتشكيل مجلس للصحافة.
ونص تقرير لجنة حرية الصحافة، لعام 1947، على أن صناعة الإعلام، في الولايات المتحدة، يجب أن تستمر، في يد القطاع الخاص، واضعة في اعتبارها، المصلحة العامة، ووضعت اللجنة مجموعة تصورات، حول وظائف الصحافة، في المجتمع الحديث، وعدد من التوصيات للحكومة، والمؤسسات.
فمن حيث وظائف وسائل الإعلام، في المجتمع المعاصر، رأت اللجنة أن الصحافة يجب أن تقوم بالوظائف التالية:
أ. تقديم تقرير صادق وشامل وذكي، عن الأحداث اليومية.
ب. أن تعمل كمنبر لتبادل التعليق، والنقد.
ج. أن تقدم صورة للجماعات المتنوعة التي يتكون منها المجتمع.
د. أن تبرز أهداف المجتمع، وقيمه، وتوضحهما.
هـ. أن توفر معلومات كاملة عما يجري يومياً.
وأوصت لجنة حرية الصحافة الحكومة، بتطبيق الضمانات الدستورية، لحرية الصحافة، وأن تعمل على تسهيل ظهور وسائل إعلام جديدة، واستمرار المنافسة، بين الوسائل القائمة، كما طالبت اللجنة بإلغاء التشريع، الذي يحظر، على الأفراد، مساندة إجراء تغييرات ثورية، على المؤسسات القائمة؛ لأن هذا التشريع يهدد المناقشات السياسية والاقتصادية.
وأوصت اللجنة المؤسسات الإعلامية بتقديم خدمة، تتسم بالتنوع، والكم الملائم لاحتياجات الجماهير، فضلاً عن زيادة مراكز الدراسة الأكاديمية، والبحث والنشر، في مجال الإعلام، وإنشاء هيئة جديدة مستقلة، لتقييم أداء الصحافة لعملها، وتقديم تقرير سنوي حول هذا الأداء. كما أوصت اللجنة العاملين، بمجال الإعلام، بالنقد المتبادل، وأن يقبلوا مسؤوليتهم كناقل عام للمعلومات والمناقشة.
كما قدم أستاذ أمريكي، هو كيرتس مونتجري، في كتابه "مسؤولية رفع المعايير"، رؤية جديدة للمسؤولية، تقول إنه، إذا قامت الصحافة بإعلام الناس، والمحافظة على خصوصيتهم، ومراعاة قيمهم، فهذه نصف المسؤولية، ولكن النصف الآخر هو بيان مسؤولية الجماهير، تجاه المادة المذاعة، التي هي بدورها تجاه أنفسهم، إذ يجب، على الجمهور، ألاّ يتعامل مع ما يقدم، من خلال الصحافة والتليفزيون، على أنه وجبة، كتلك التي يشتريها من السوبر ماركت، بل عليه أن يدرك الوقائع، ولا يتقبلها كما يقرأها أو يسمعها، بل يزن الأفكار، التي تتفق، أو تختلف، مع ميوله ويضع افتراضاته الأساسية محلاً للنقاش.
ويساوي روبرت راي، في كتابه "مسؤولية الجرائد"، بين المسؤولية الاجتماعية، وصدق الأخبار والحيدة، لأنها أساس حق القراء في المعرفة، ثم المناقشة الديموقراطية الحقة، في المجتمع، والتي تسهم في تطويره.
ويلخص دينيس ماكويل المبادئ الأساسية، لنظرية المسؤولية الاجتماعية، في الجوانب التالية:
أ. إن الصحافة، وكذلك وسائل الإعلام الأخرى، يجب أن تقبل، وأن تنفذ التزامات معينة، تجاه المجتمع.
ب. يمكن تنفيذ هذه الالتزامات، من خلال الالتزام بالمعايير المهنية، لنقل المعلومات، مثل الحقيقة والدقة، والموضوعية والتوازن.
ج. لتنفيذ هذه الالتزامات يجب أن تنظم الصحافة نفسها بشكل ذاتي.
د. إن الصحافة يجب أن تتجنب نشر ما يمكن أن يؤدي إلى الجريمة، والعنف والفوضى الاجتماعية، أو توجيه أية إهانات إلى الأقليات.
هـ. إن الصحافة يجب أن تكون متعددة، وتعكس تنوع الآراء، وتلتزم بحق الرد.
و. إن للمجتمع حقاً، على الصحافة، فيأن تلتزم بمعايير رفيعة، في أدائها لوظائفها.
ز. إن التدخل العام يمكن أن يكون مبرراً لتحقيق المصلحة العامة.
ويلاحظ أن هذه النظرية قد طرحت بعض الحلول، التي تتمثل، في تنظيم مهنة الصحافة، من خلال إصدار مواثيق شرف مهنية، لحماية حرية التحرير الصحفي، والممارسة الصحفية، وإصدار قوانين للحد من الاحتكار، وإنشاء مجالس للصحافة، وإنشاء نظام لتقديم إعانات للصحف.
ولكن مجمل الأفكار، التي طرحتها هذه النظرية، لم تكتمل أمامها، فرصة التنفيذ، بشكل تام، فقد نظر الصحفيون الأمريكيون إلى هذه الأفكار على أنها تمثل اتجاهاً، نحو الاشتراكية، وخطراً على حرية الصحافة، كما قوبلت هذه الأفكار بمعارضة عنيفة، من مجموعات ملاك الصحف. ومع ذلك، يمكن القول أن نظرية المسؤولية الاجتماعية قد حققت بعض النتائج الإيجابية، في بعض دول أوروبا، مثل السويد، التي واجهت حظر سيطرة الاحتكارات، على صحافتها، بإنشاء نظام لتقديم إعانات حكومية للصحف، بهدف المحافظة على التنوع الصحفي، مما أدى، خلال حقبة الستينات، إلى المحافظة على بقاء كثير، من الصحف الصغيرة، في السويد.
لقيت فكرة تقديم معونات للصحف، رفضاً شديداً، في بريطانيا وغيرها، من دول أوروبا خوفاً من استغلال الحكومات لها، في التدخل، في شؤون الصحافة. كما صدرت قوانين للحد من الاحتكار، والتركيز، في ملكية الصحافة، في بريطانيا وفرنسا لكنها لم تستطع أن توقف تزايد معدل التركيز، والاحتكار أو تحافظ على بقاء الصحف الصغيرة.
4. النظرية الشيوعية Communist
شهد الربع الأول، من القرن العشرين، ميلاد نظرية الصحافة الشيوعية. والتي يُعدّ كارل ماركس الأب الروحي لها، النظرية متأثراً بفلسفة زميله الألماني، جورج هيجل. وترتكز هذه النظرية على أن وظائف وسائل الإعلام، في المجتمع الشيوعي، هي نفسها وظائف الجهاز الحاكم، أي دعم بقاء وتوسع النظام الاشتراكي، وأن هذه الوسائل يجب أن توجد، لنشر السياسة الاشتراكية، وليس لها أن تبحث عن الحقيقة. وفي ظل هذه النظرية، فإن وسائل الإعلام الجماهيرية تعد أدوات للحكومة، وجزءاً، لا يتجزأ، من الدولة، والدولة تملك وتقوم بتشغيل هذه الوسائل، والحزب الشيوعي هو الذي يقوم بالتوجيه، وتسمح النظرية الشيوعية بالنقد الذاتي (مثل الحديث عن الفشل في تحقيق الأهداف الشيوعية).
تفترض النظرية الشيوعية، أن الجماهير أضعف، وأجهل من أن تحاط علماً، بكل ما تقوم به الحكومة، ووسائل الإعلام يجب أن تعمل دائماً من أجل الأفضل، والأفضل، عادة، هو ما تقوله القيادة ويتفق، بطبيعة الحال، مع خط النظرية الماركسية، ومن ثم، فإن كل ما تفعله وسائل الإعلام كي تدعم، وتساهم في، إنجاح الشيوعية، يعد أخلاقياً، في حين، أن كل ما تفعله لعرقلة الإنجاز الشيوعي، يعد غير أخلاقي.
استخدمت النظرية الشيوعية مفردات كثيرة للدعاية، أكثر منها، للتنظير العلمي، كشعارات تكافؤ الفرص، والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم الثقافي ورفع الاستغلال عن طبقات الشعب العامل. وبانهيار الشيوعية، وسقوط الاتحاد السوفيتي، عام 1989، على يد الرئيس السوفيتي، ميخائيل جورباتشوف، تهاوت النظرية الشيوعية، في الإعلام.