تركي الحمد
هناك حقائق سياسية واجتماعية نابعة من واقع الحياة,كلنا نعرفها في أعماقنا ولكننا نتجاهلها ونسلك على النقيض منها في غالب الأحوال,وذلك في المجال السياسي والاجتماعي بطبيعة الحال.
من هذه الحقائق البسيطة,أنه ليس هناك نظام سياسي معيب كله أو كامل كله,فالأنظمة السياسية تتأرجح بين نقطة الصفر ونقطة المئة,إذا أردنا قياس ذلك كماً,بعضها يقترب من نقطة الصفر فيكون العيب والنقصان الأكثر طغياناً على آلياته وبالتالي حركته,والبعض الآخر يقترب أكثر من نقطة المئة فتكون الحيوية الأكثر طغياناً على آلياته وحركته,ولكن في كل الأحوال ليس هناك نظام سياسي كله صفر أو كله مئة.
جملة القول هنا هي أن النظام الذي يتجاوز نقطة الخمسين,أو نقطة الوسط ,تغلب عليه الحيوية والانتعاش,والعكس صحيح.
وعندما نقول "الأفضل" و"الأسوأ" أو الكمال والنقصان في هذا المجال ,فإن المسألة ليست مطلقة وكمية بحتة,وإن كنا نلجأ الى القياس الكمي بشكل مطلق ونموذجي.
فالحسن والسوء مسألتان نسبيتان تتحددان من خلال العلاقةبين السياسة والمجتمع,أو البناء السياسي والبناء الاجتماعي ,والعلاقة بينهما في لحظة زمنية معينة ونقطة مكانية محددة,بحيث قد يكون "الأفضل" في هذه اللحظة وتلك النقطة هو الأسوأ في لحظة أخرى أو نقطة أخرى,أو في كلتا الحالتين معاً,والعكس صحيح,وفي كل اللحظات وكل النقاط,يبقى التعميم السابق صحيحاً,وهو أن أي نظام سياسي هو مزيج من المثالب والمزايا وفق معادلات مختلفة تأخذ صيغتها النهائية في إطار الزمان والمكان.
ومن الحقائق البسيطة أيضاً ,أن الاجماع المطلق في أمر من الأمور أو شأن من الشؤون ,هو من المستحيلات ولانقول الصعوبات,إلا في حالة من حالتين ,الحالة الأولى أن يكون المجمع عليه أمراً علمياً قابلاً للإثبات والدحض العلميين بحيث لايماري في هذه المسألة إلا محب للجدل أوصاحب منهج مخالف لما أجمع عليه أهل مثل هذه الحرفة,وذلك مثل قولنا إن الارض تدور حول الشمس.
والنتيجة المنطقية لمثل هذه الحقائق البسيطة,هي أن "المعارضة" وعدم الاتفاق هما ديدن الحياة ومحرض الحركة فيها.
ولكن أن تكون النتيجة منطقية,أو حتى من حقائق الحياة البسيطة,فإن ذلك لايعني الأخذ بها عملياً,وهذه هي إحدى إشكاليات الإنسان على هذه الأرض.
فمجرد حقائق بسيطة,يمكن الوصول اليها بمجهود منطقي بسيط,ومع ذلك فإن الانسان على هذه الارض يحتاج الى سنوات وسنوات من الصراع والعناد والدمارليقربها في نهاية المطاف برغم كونها في متناوله من البداية وفق عقلانية بسيطة معينة.
ولكن يبدو أن الانسان بطبعه غير عقلاني,ولايقبل بالعقلانية إلا حين يتبدى له أن وجوده نفسه في خطر ومن ثم يقبل مالابد من قبوله,وإن كان هذا المقبول لاحقاً موجوداً منذ البدء في صورة عقلية معينة,ولكن نرجع ونقول: هذا هو الانسان,ولعل أبرز مثال على النقطة السابقة, هو النظر الى تاريخ نشوء الديموقراطية وسيادتها,بصفتها النتاج التاريخي للحقيقتين السابقتين,بالاضافة الى عوامل أخرى.
فالديموقراطية السياسية هي نتاج للنسبية المعرفية من ناحية,ولاستحالة الاجماع من ناحية اخرى,ولذلك ظهرت ومن ثم انتشرت,وفق تطور تاريخي معين,بوصفها أفضل حل "علمي" ممكن لمسألة الاختلاف والتعددية الطبيعية.
فإذا كان أي قرار يحتاج الى الإجماع لاتخاذه,فإنه لن يتخذ إطلاقاً,وإذا فرض مثل هذا القرار فإنه سوف يولد حزازات وغضاضات قد تدفع المجتمع الى مالا تحمد عقباه,لأن القرار,أي قرار,لابد من أن يكون لصالح هذا البعض في بعض الأحيان وذاك البعض أحياناًأخرى,ولكنه لا يمكن أن يكون فيصالح الكل في الوقت والمكان نفسيهما.
ونتيجة مثل هذه المعضلات,ظهرت الديموقراطية,بعد معاناة تاريخية طويلة,بوصفها حلاً عملياً ممكناً يحاول أن يحتوي هذه المتناقضات ويتجاوزها من خلال قاعدة الديموقراطية الذهبية المتمثلة في "حكم الأكثرية وحقوق الأقلية" والتي وإن لم تكن حلا مثالياً مطلقاً,إلا انها شكلت حلا عملياً مثالياً بقدر مايمكن ان يسمح بذلك المثال.
إذاً,المعارضة وعدم الاتفاق من المسائل الخلقية في طبيعة البشر, وذلك لأنهما منبثقان من بداهة التعددية بين البشر أفراداً وجماعات ومجتمعات.
وعندما نقول المعارضة وعدم الاتفاق,فإن ذلك لايعني أن البشر أعداء بعضهم بعضاً,وأنه لاقيام للبعض إلابفناء البعض الآخر,ولابقاء لـ "الأنا" إلا بفناء الآخر.
جوهرة تلمسان