الإعلام والديمقراطية.. هل يرتبطان؟؟
بقلم: ليو بوجارت
ترجمة: د. شهرت العالم
هل تخدم وسائل الإعلام، من حيث جوهرها، قضية الديمقراطية؟هل التطور المتسارع للتكنولوجيا المتقدمة في مجال الإتصال يشجع على نشر وتبادل المعلومات والأفكار بروح سمحة؟ إن الإجابة التقليدية السريعة عن هذين السؤالين هي: نعم، فنهوض النظرية الممارسة الديمقراطية يرتبط تاريخيا باختراع الطباعة، كما أن تنامي معرفة القراءة والكتابة قد أدى إلى نشر الأفكار التي ساهمت في هدم النظام السلطوي الذي تأسس منذ أمد بعيد، وتقويض شرعيته، فضلا عن نشر الأفكار التي أدت إلى توسيع مجال النقاش العالم، وهو ما أمرا جوهريا للحكومات التمثيلية.
إن نظرة متروية لكيفية عمل وسائل الإعلام في عالم اليوم تطرح أن الإعلام يظل عرضة للتلاعب- إما عن طريق السلطات السياسية التي تحركها الحماسة الإيديولوجية أو المصلحة الذاتية الفجة، أو عن طريق القوى الإقتصادية التي تحد من الموارد الإعلامية تنوعها ومصداقيتها، فوسائل الإعلام إذن ليست بالحتم أداة لصالح الديمقراطية.
ولكن يصعب تقديم تعريف للديمقراطية، فلا يوجد أي نظام سياسي يمكنه ادعاء امتلاك تصور لهذا المصطلح، وحتى إذا ما حدث، فمن غير المؤكد أننا نستطيع أن ندركها حين نراها. فالديمقراطية مطروحة كمثل أعلى، وعادة ما يجري تعريفها بما تتعارض معه بدلا من تعريفها كشكل إجرائي لنوع معين من الحكم، وتختلف، بطبيعة الحال، التنويعات المعاصرة للنموذج الديمقراطي اختلافا جذريا عن طرازها البدئي حيث كان بمقدور الأقلية من المواطنين التجمع للمناقشة، وتصل كلمات الخطباء الأفراد إلى الجميع، ومع ذلك، فهناك مدركات مهمة مشتركة بين كافة الأشكال الديمقراطية تتمثل في: النقاش المفتوح مع السماح للآراء الخلافية، واتخاذ القرارات على أساس التصويت الأمين ومن ثم تصبح قرارات مقبولة.
وعادة ما تعتبر الديمقراطية نتاجا لفكر حركة التنوير الغربية، ولكن هناك العديد من التساؤلات الجوهرية التي تدور حول الإرتباط القائم بين الإعلام والديمقراطية في العالم غير الصناعي.
إن القوة والتطور اللذين شهدتهما نظم الإتصال الجماهيري القومية إنما يعكس حالة التنمية الإقتصادية والتكنولوجية بأكملها، ونجد أن أنماط الإستهلاك الإعلامي والمشاركة السياسية في البلدان الغنية والديمقراطية وذات المستوى التعليمي لشعوبها تختلف بدرجة كبيرة طبقا لمختلف مستويات الدخل والطبقات الإجتماعية. وتعكس هذه الأنماط تكلفة وسائل الإعلام، كل على حده، كسلع استهلاكية تختلف عن بعضها بعض طبقا لمدى تعقد بنية المعلومات التي تقوم بتوزيعها، فضلا عن كمية الوقت والجهد الذي يتطلبه استخدامها.
وحتى في المجتمعات المفتوحة، فإن حواجز الفقر والأمية يمكن أن تؤدي إلى تفتيت خبرات الإعلام القومي، ففي غالبية الدول الفقيرة نجد أن الجماهير، التي تبحث عن موارد الرزق من أجل البقاء، تتعايش مع النخبة، التي يتمتع أعضاؤها بكثير من مزايا الحياة الجيدة في الغرب بما في ذلك سهولة الحصول على المعلومات. فالهند والبرازيل، على سبيل المثال، يتبعان العديد من الممارسات الديمقراطية مثل الإنتخابات الحرة وحرية التعبير.
كما تتسم مؤسساتهما الإعلامية بدرجة عالية من التطور، ومع ذلك فنفاذها إلى مختلف قطاعات السكان يفتقد التوازن إلى حد كبير. ولذا، فإن أية إجابة عن التساؤل المطروح في شأن ما إذا كانت وسائل الإعلام تخدم الديمقراطية، ينبغي تحديدها: عن أي علام نتحدث، وبين أي قطاعات من الجمهور؟
واليوم، لا يوجد أي نظام إعلامي قومي مغلق بإحكام، فإذا كانت الأطباق الفضائية التي تعمل عبر الأقمار الصناعية تتعرض للخطر، والمقالات المنشورة في المجالات الإخبارية المستوردة تتعرض بشكل انتقائي للإختصار أو لحجب أجزاء منها، والصور تتعرض للحذف، والأفلام الأجنبية تتعرض للمنع أو لحذف أجزاء منها، والخدمات السلكية واللاسلكية تتعرض للرقابة، فإن الكلمات، مع ذلك، تجد طريقها بشكل أو آخر، ولكن لا يحدث ذلك بصورة كلية. فعلى سبيل المثال، قامت الصين بمنع نشر أية أخبر عن هبوط رجال الفضاء الأمريكيين على سطح القمر، وقد سألت أخيرا أحد القادة الصحفيين الصينيين حول هذه الأخبار، وكيف ومتى تسربت في نهاية المطاف، وقد أجاب قائلا: "أوه! هل هبط الأمريكيون على سطح القمر؟ أعتقد أنهم كانوا الروس!".
الإعلام والسوق
هل النظام الإعلامي الواقع تحت سيطرة السوق يتسم بأهمية جوهرية لخدمة العملية الديمقراطية؟ إن الخيارات الإعلامية تتطلب ركيزة اقتصادية، ولا يمكن للسوق الإعلامية أن توجد إلا في ظل اقتصاد مزدهر.
ويصعب، في واقع الأمر، تصور إمكانية أن يجيز اقتصاد دولة، خاضع لسيطرة صارمة، ذلك النوع من التحديات السياسية التي تمثلها الصحافة المستقلة، على أية حال، فنحن لسنا بحاجة القول إن وضع الإقتصاد الذي لا يرتكز إلى السوق ليس هو ذلك الوضع الذي تحتشد فيه ألوف غفيرة تتطابق ملابسها وتلوح بكتب حمراء صغيرة. لقد استطاعت السويد وإسرائيل، وهما أمتان تشتمل اقتصاداتهما على عنصر اشتراكي قوي التعايش مع الصحافة الحرة. إن مثال إذاعة "بي. بي. سي" يمكن تقديمه دائما إلى الآخرين لتوضيح أن الصحافة المهنية، في ظل أطر عمل صحيحة، يمكنها المحافظة على استقلالها الذاتي في داخل ما يظل، بشكل أساسي، مؤسسة حكومية.
الإمكانات الديمقراطية
وإذا كان بمقدور قوى السوق توسيع أو تقليص الإمكانات الديمقراطية للإعلام، فالشيء نفسه يصدق بالنسبة للمعايير والممارسات المهنية للصحفيين. فبالتأكيد لا يمكن إلقاء اللوم على الإعلام إذا ما حدث انخفاض في معدلات التصويت بالولايات المتحدة، أو إذا ما أصاب الجمهور حالة فقدان جماعي للذاكرة في شأن أسماء المسؤولين البارزين، أو غذا ما أصيبت الذاكرة بحالة مروعة من عدم الوضوح في الجغرافيا، أو إذا ما حدثت حالة من التشوش أو اللامبالاة الكاملة في شأن القضايا العامة التي يثار حولها كثير من الجدل. ومع كل هذا، فقد أخفق الإعلام بوضوح في التعويض عن نواحي القصور التي تشوب شخصيتنا القومية ونظامنا التعليمي.
إن بإمكان وسائل الإعلام أن تدعم الديمقراطية من خلال المعلومات والأفكار فقط، ولكننا نجد أن الجزء الأساسي لمضمون ما تقدمه وسائل الإعلام- وخاصة الإعلام السمعي البصري- مكرسا للتسلية والترفيه. وهو ما لا يمكن تصنيفه باعتباره غير سياسي، إنه ضد سياسي، ذلك أنه يحرف انتباه الجمهور ووقته بعيدا عن شؤون العالم الواقعي، والتي تموج حتما بالدلالات السياسية.
وبينما الصور المرئية يمكن أن تنقل خبرات التقمص الشعوري وتستحضرها بشكل أكثر حيوية عن الكلمات، فإن النص المطبوع لا يمكن تجاوز قدرته الفائقة على إثارة السخط وتحريك الفكر والنقاش، وكلها أمور تتسم بأهمية جوهرية بالنسبة للعملية الديمقراطية إن التقلص المطرد في مجال المنافسة بين الصحف بالولايات المتحدة، وما ينجم عنه جزئيا من تآكل في أعداد قراء الصحف، لم يكن يعني سوى تقليص الإنفتاح علا صراع الأفكار وعلى وجهات النظر المختلفة حول الأحداث المحلية. وقد أسفر ذلك عن تبعات جدية في شأن اهتمام المواطنين بالحكومة، طالما أن الأخبار المحلية التي يعرضها التلفزيون أو تبثها الإذاعة تنشغل بأنباء الجرائم البسيطة والكوارث التي لا تعد ولا تحصى، وبالكاد ما تتناول القضايا المدنية الفعلية.
نحن لا نعرف، على سبيل المثال، كيف تصور نتائج محاولة حكومة تحاول كسب شعبية مستندة إلى جمهور من الناخبين، من جذب على الدوام لمشاهدة سلسلة من البرامج المنفصلة فارغة المضمون... هذا يعني صرف الإنتباه الشعبي عن مداومة الإهتمام بالقضايا العامة...
إنني أميل لأن أسأل نفسي ما إذا كان، على ضوء التعقد التقني لجميع القضايا العامة الكبرى تقريبا، من الممكن بالفعل أن يشكل جمهور الناخبين رأيا عاما ذا دلالة... ففي غضون ذلك نضبت الرطانة المألوفة في السياسة، ولا يمكنها البدء في خوض المنافسة الحيوية، ذات الإهتمام الإنساني، مع تلك العروض الضخمة لعمليات الاغتيال والحب والموت والمغامرات الظافرة التي تقدمها الدعاية الجدية المعدة لهذا الغرض. ولذلك، فمرة أخرى، تميل إدارة الأمور نحو الإرتكان إلى طبقة حاكمة، طبقة لا تتوارث وبلا ألقاب، ومع ذلك تجري طاعتها واتباعها.
لقد أخذ النظام الإعلامي يتسم، باضطراد، بطابع دولي من زاوية مداه والسيطرة عليه، مع تدفق هائل من الغرب إلى الشرق (أو من الشمال إلى الجنوب، وهو الإستخدام اللغوي المفضل في عصرنا هذا). إن طلبات الجمهور التي لا تنضب من أجل اختيارات أكبر هي التي تغذي هذا الإتجاه، وهو ما أجبر السلطات المسؤولة عن الإذاعة بالدولة على إتاحة المجال لقنوات جديدة، مع التخلي عن الإحتكارات الإذاعية التابعة للدولة، مما يفسح المجال للملكية الخاصة، ويمكن أن تؤدي هذه المسألة، على نحو ضئيل، إلى تيسير انتشار القيم الديمقراطية، وفي الوقت نفسه تجسد سريعا سمات الصفات القومية الأصلية.
إن مواد الترفيه المستوردة تحمل بين طياتها رسالة سياسية بقدر ما تمثل تعرضا لمختلف القيم وأنماط السلوك ومستويات المعيشة. إن أكثر عناصرها للتمزق تبرز في تصويرها للعلاقات الإنسانية، وخاصة للعلاقات بين الرجال والنساء. ونجد أن مقاومة الأفلام وبرامج التلفزيون الأجنبية، في البلدان غير الصناعية، عادة ما تتخذ شكل الإعتراض الأخلاقي على الجوانب المثيرة للشهوات، ولكن جميع هذه الشكاوي تخفي الشعور بعدم الراحة إزاء القوى الأكثر عمقا وإثارة للقلق التي تحركها هذه العروض.
لقد أدت استطلاعات الرأي، بطبيعة الحال، إلى إثارة حساسية كل فرد في مجال الحياة السياسية تجاه التحولات التي تطرأ على المزاج الشعبي والوعي الجماهيري إزاء القضايا المهمة.
ولكن كان لقياسات الرأي العام تأثير ضار على المرشحين السياسيين الذين يسيرون وفقا لتعاليم بحوث السوق بدلا من اتباعهم للخيارات السياسية التي يضعونها بعين الإعتبار طبقا لما تمليه ضمائرهم. لقد جعلت وسائل الإعلام من قياسات الرأي العام موضوعا للترفيه التافه، فقد تحولت تغطية الحملات الإنتخابية إلى محاولة اقتفاء الآثار لمعرفة من الذي يحتل الموقع المتقدم، مبتعدة عن تقديم تقارير حول نقاط المناقشة الأساسية المطروحة.
أقلية غير تمثيلية من الناخبين الذين اختاروا أنفسهم، يمكن أن تصبح بديلا عن النقاشات والإنعكاسات الفكرية التي يجب أن تسبق، عن حق، إصدار أي قرار تشريعي أو تنفيذي في ظل نظام سياسي ديمقراطي.
شبكة الإنترنت
وفي مجتمع متعطش بلا حدود للبرامج الترفيهية، فإن قياسات الرأي العام تعد عنصرا واحدا فقط من تلك المجموعة المركبة من المؤثرات التي تستحضرها وسائل الإعلام للتأثير في عملية تشكيل السياسات العامة. هل سيميل، مرة أخرى، التوازن القائم بين الترفيه والمعلومات؟ إن الخدمات الإلكترونية للبيانات تفي بوعدها بجعل موارد المعرفة الموسوعية في متناول الجيل الجديد من الأمريكيين الذين يعرفون كيفية استخدام الحاسب الإلكتروني (الكمبيوتر). لقد تنامت شبكة الإنترنت بمعدلات متضاعفة. ويتحدث أنصارها عن بروز نوع جديد من الإحساس بالمجتمع، إذ أخذت تتشكل وتتضاعف مجموعات ذات مصالح ترتبط ببعضها بعض عن طريق الكمبيوتر، وأخذت تتولد بين أفرادها أفكار وروابط شعورية مشتركة.
إنهم يعتقدو أن شبكة الإنترنت، مع إمكانية النفاذ خلالها إلى أي شكل من أشكال المعرفة المتخصصة، تمثل شكلا جديدا من الديمقراطية التي تحقق المساواة بين الناس. وفي مواجهة الرؤية المتفائلة القائلة بإمكانية تحقيق الإرتباط بين البشر عن طريق شبكة المعلومات، هناك سيناريو آخر لأمة تنقسم انقساما حادا بين من يملكون المعلومات ومن لا يملكونها، هذا مع زيادة اتساع الفجوة الإجتماعية من خلال التفاوت في مدى التمكن من التكنولوجيا وتسير النفاذ إلى المعرفة.