نوهت أحداث 11-أيلول-2001 وما أعقبتها من حملات إعلامية غربية مكثّفة هدفت إلى تقديم صورة مشوهة عن العرب والمسلمين بضرورة تطوير القنوات الفضائية العربية، وتعزيز وظائفها الإعلامية المتعددة، في محاولة لاجتذاب المتلقين العرب، لاسيّما من فئتي المراهقين والشباب، ممن بدأوا بالانجذاب إلى الفضائيات الأجنبية الوافدة آنذاك، لما امتلكته من عناصر إثارة وجذب وتشويق، لدوافع منها ما يتعلق بتوافرها على فرص كبيرة لتعلم اللغات الأجنبية، والتقاط ألفاظ ومدلولات جديدة بالنسبة إليهم يتبادلونها في تجمعاتهم، أكثر من تلك المرتبطة بالحصول على مصادر أخرى للمعلومات والاطلاع على الرأي الآخر إزاء القضايا المهمة، وزاد من خطر تزايد هذا التعرض، النظرة السائدة بان اللغة الانكليزية أصبحت تعني أكثر من مجرد كونها اللغة أو الأدب.. وإنها ربما تعني للبعض: تنشئة أفضل وشخصية أكثر جاذبية.
وبدأت ملكيات القنوات الفضائية العربية بالتعدد، من ملكية رسمية للحكومة فقط، إلى ملكية خاصة بالأحزاب، والشخصيات الحكومية النافذة، ومن ثمّ ملكية خاصة للأفراد، من قبيل المستثمرين ورجال المال والأعمال وغيرهم.. ولان الهدف من الاتصال، هو الباعث الدافع للاتصال، نعتقد بإن ملكية القنوات الفضائية الخاصة للأفراد صارت تمثل للكثير منهم جزءاً من استكمال هيبة الأفراد – الملاّك – أنفسهم، لدوافع ذاتية، أو لتحقيق النفوذ الاجتماعي أو السياسي، لما لهذا النفوذ من أثر في المجتمعات العربية، وحيازة المنافع الاقتصادية والسياسية، عن طريق التقرب إلى أصحاب القرار في دولهم، أو جعلها حصانة لمواجهة أي منهم.. وهي بذلك ليس، بالضرورة، لأسباب موضوعية تتعلق بأخلاقيات الإعلام.
كما أرتبط تعدد القنوات الفضائية العربية الخاصة بنشأة المدن الإعلامية العربية وتطوّرها في الدول التي تسمح قوانينها بإطلاق القنوات الخاصة، مثل: مدينة الإنتاج الإعلامي في كل من دبي والقاهرة وعمّان، فضلاً عن التسهيلات الضخمة التي توفرها مدن البث الفضائي لأي مستثمر يرغب في الدخول في مجال الاستثمار الإعلام الفضائي، وقد بدأت هيئات التلفزيون المختلفة تتسابق فيما بينها لتحسين خدماتها الإنتاجية وإضافة المزيد من الخدمات في ظل الصراع الدولي المعاصر للاستحواذ على عقول الجماهير ومحاولة التأثير فيها وإشباع الاحتياجات المختلفة، وتمكّنت من أن تزاحم الفضائيات الحكومية في بعض الدول العربية، وان تفرض عليها تراجعاً نسبياً أو كلياً، يتمثل من حجم التعرض الذي تُقابل به هذه الفضائيات، على الرغم من تشكيك بعض الباحثين في دور ملكية الوسيلة الإعلامية في المجال الإعلامي العربي في توسيع حريات الإعلام، حين وجدوا: إن النتاج الإعلامي لا يختلف في نظم الملكية العامة (الحكومية) أو الخاصة، فكلاهما يهدف إلى ترويج الأفكار والمراكز، وتدعيم السلطة والوضع الراهن، مع اختلاف الرموز والأفكار في كلا النظامين، إلا اننا قد نختلف مع هذا الرأي لاسيما مع الحالة العراقية التي أنتجت عددا كبيراً من القنوات الفضائية الخاصة التي لم تهدف إلى تسويق أفكار وبرامج السلطة الحاكمة هنا.
الإعلام والسلطة
تمّت مناقشة مختلف القضايا التي تتعلق بواقع القنوات الفضائية العربية الخاصة وحقيقة دورها في المحافظة على القيّم المختلفة المستمدة من الأصالة والمعاصرة، والتطور التاريخي والراهن للفضائيات العربية في العقدين الماضيين، والبحث في المعايير الأخلاقية والسياسية والثقافية والمهنية التي تحكم عمل هذه الفضائيات، والمضامين البرامجية، وعلاقة الفضائيات العربية بالجماهير، والتأثيرات المحتملة، وادراكات شرائح المجتمع جميعها للدور الذي تؤديه الفضائيات في الجوانب المختلفة، في مناسبات ومؤتمرات عدة، وتمت التوصية في سبيل مواجهة الخلل الذي عانت منه القنوات الفضائية الخاصة بضرورة تبني عدداً من الإجراءات، ومنها: ضرورة تحمل الفضائية العربية الخاصة مسؤوليتها في بناء الشخصية العربية، والدعوة إلى المساهمة في التصدي للمشكلات الحيوية التي تعيق عمل التنمية في المجتمعات العربية، وتحمل الفضائيات مسؤولياتها لإنتاج أغان وأناشيد تخاطب الشرائح المختلفة من الأطفال والمراهقين والشباب تتماشى مع القيّم الدينية والاجتماعية والثقافية والتراث العربي، والدعوة إلى ترشيد إنشاء قنوات فضائية عربية جديدة، ووضع ضوابط مهنية وأخلاقية لها، والعمل على طرح القضايا القومية العربية على رأس أولوياتها، بما يسهم في تكوين ما اطلقت عليه (الوعي العربي المستنير) وخلق رأي عام عربي مشترك، مع ضرورة نشر مفاهيم التربية الإعلامية لدى مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة لتعليم اختيار المضمون الإعلامي المناسب.
لقد أخذت الكثير من دول العالم، في الشرق والغرب، تهتم بموضوع علاقة الإعلام بالدولة، للدرجة التي شكلت فيها علاقة القنوات الفضائية العربية الخاصة بالنظم السياسية الحاكمة مثار جدل كبير في غضون السنوات الأخيرة، من منطلق حدده البعض في إن إنتاج الخطاب الإعلامي وتحديد مضامينه يتأثر بالقوى والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما يتأثر بالحقائق الاجتماعية الراسخة في وجدان الجمهور، وبتنظيم العمل في وسائل الإعلام، وبالبنية الثقافية والفكرية والقائم والاتصال واتجاهاته، وان الأبحاث تؤكد على إن عملية إنتاج محتوى الخطاب الإعلامي ونشره وإذاعته وظيفة مكرسة لدعم المراكز والأفكار والقوى السائدة وتثبيت الوضع الراهن، وهذا ما يؤكد تبعية وسائل الإعلام لهذه المراكز والقوى المسيطرة والمهيمنة على المجتمع.
ملاحقة حكومية
وفي هذا الإطار.. أعتمد مجلس وزراء الإعلام العرب في 2008م وثيقة تكمن أهميتها في أنها تؤسس لمنظومة رقابية جديدة لما أسماه مرحلة (الفوضى الإعلامية الفضائية)، وتمكن أصحاب القرار السياسي من وضع الضوابط التي يتعين احترامها والتقيد بها، عند إعداد البرامج أو بثها أو إعادة بثها في المنطقة العربية.. وفي مقابل نقد الأداء الذي وجه إلى عدد من الفضائيات، وصفت وثيقة مجلس وزراء الإعلام العرب والمتعلقة بمبادئ (تنظيم البث والاستقبال الإذاعي والتلفزيوني عبر الفضاء في المنطقة العربية)، بأنها أكثر الوثائق إثارة للجدل في تاريخه، وقد جوبهت بانتقادات بعدها تراجعاً غير مقبول للممارسات الإعلامية، وعودة إلى زمن الرقيب، والى كبت حريات الفكر والتعبير.
وفي فقرات حماية مصالح الدولة وسيادتها الوطنية.. فعلى الرغم من أن نصوص احترام سلطة الدولة كانت قليلة العدد مقارنة بالمعايير الأخلاقية، التي تضمنتها الوثيقة، إلا أنها كانت الأكثر استقطاباً لردود الفعل والانتقادات الصادرة عن الأطراف العربية والدولية، لاسيّما ما يتعلق منها بحق الدول العربية في وضع قوانين رقابية جديدة.. وتدعو مجموعة من البنود إلى التزام هيئات البث وإعادة البث الفضائي بعدد من الضوابط ومنها عدم التأثير سلباً على السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العام والآداب العامة: (البند الرابع، الفقرة الخامسة)، وحماية المصالح العليا للدول العربية وللوطن العربي: (البند الخامس، الفقرة الأولى)، والالتزام باحترام مبدأ السيادة الوطنية لكل دولة على أراضيها، بما يُتيح لكل دولة من الدول أعضاء الجامعة العربية الحق في فرض ما تراه من قوانين ولوائح أكثر تفصيلاً: (البند الخامس، الفقرة الثانية)، والامتناع عن بث ما يتعارض مع توجهات التضامن العربي: (البند السابع، الفقرة الثالثة)، احترام كرامة الدول والشعوب وسيادتها الوطنية وعدم تناول قادتها أو رموزها الوطنية والدينية بالتجريح: (البند السابع، الفقرة الرابعة).
في مقابل ذلك.. رفضت منظمات دولية تلك الوثيقة، وعدتها تراجعاً في حريات الإعلام، ورأى الاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ) إن الوثيقة التي أعتمدها وزراء الإعلام العرب ترمي إلى تمكين الدول من التحكم في القنوات التلفزيونية الفضائية الموجودة على ترابها، وإلى (تليين الإعلام المستقل)، ودعت إلى تشجيع وسائل الإعلام على اعتماد مبادئ توجيهية تراعي أخلاقيات التغطية الإخبارية، فيما عدّت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) الوثيقة أنها تستهدف القنوات الخاصة التي تنقد الحكومات العربية.. فيما وجد اتحاد الإذاعات العربية إن وثيقة تنظيم البث الفضائي العربي نصّت بوضوح على احترام حرية التعبير، ولا يمكن اعتبارها وثيقة تقيد المادة الإخبارية... وهي من هذا المنطلق تنظم الفضاء الإعلامي العربي على أسس سليمة أخلاقياً ومهنياً وكما هو معمول به في جميع مناطق العالم..... وان طروحات هذه الوثيقة ليست جديدة وإنما هي امتداد لميثاق الشرف الإعلامي العربي لسنة 1981م، الذي تمّ تدعيمه عندما دخل الإعلام العربي حقبة الفضائيات بميثاق الشرف الإعلامي في 2002م.
ان دراسة تلك التطورات التي واكبت تطور القنوات الفضائية الخاصة في المجال الاعلامي العربي يدفعنا الى الاستنتاج بان طرح مسألة حدود حرية الإعلام الفضائي في المنطقة العربية لم يكن بمعزل عن طروحات مشابهة أطلقت على مستوى العالم -وان كانت أكثر تشدداً عند العرب- حين أدرجت على جدول أعمال منظمات دولية عدة، وقد ضاعف من أهمية النقاش حول تلك الحريات التطور الذي شهدته شبكات الاتصال في الترابط بين الأمم المختلفة، وطرح المسألة الأساسية المتعلقة بإزالة طابع الإقليمية عن الاتصال، وبذلك صارت الرهانات التي تطرحها التقنيات الحديثة معبرة جداً من وجهة نظر بعض المنادين بوضع ضوابط جديدة لعمل الإعلام الفضائي عموماً، لاسيّما إنها تتعلق في إحدى جوانبها بمسائل الأمن والمحافظة على المصالح الاقتصادية وحماية الحريات الفردية... ولهذا الغرض فقد وضعت تدريجياً نصوصاً قانونية دولية تساعد على سد الثغرات التي خلفتها النصوص القانونية المعمول بها قبل انتشار التقنيات الحديثة... وهي تبقى بحاجة إلى الدرس والبحث، ولاسيّما إن التقنيات الحديثة في مجال الاتصال مهيأة أكثر من غيرها لمخالفة النصوص القانونية النافذة بفعل تطورها المتزايد