يثير موضوع حرية الصحافة تساؤلات وإشكاليات عديدة عند أهل المهنة والمهتمين بشؤونها والدارسين والباحثين في علاقة السلطة بوسائل الإعلام. فالموضوع له تداعيات كبيرة وانعكاسات جمّة على المجتمع المدني والرأي العام والنظام السياسي والتشريعي والتنظيمي في البلاد.
فممارسة الصحافة تعترضها مشكلات وعراقيل وتصفيات جسدية واغتيالات وغيرها من المضايقات التي يتعرّض لها الصحافيون في مختلف دول العالم، ما جعل مهنة المتاعب تتحول إلى مهنة الموت. مراجعة الذات وتقييم الوضع في الوطن العربي يستوقفنا عند أوضاع الصحافي وما آلت إليه الممارسة الإعلامية، وهل تغيّرت الأحوال والظروف وهل تحسنت أوضاع حرية الصحافة بعد الوعود بالحرية والديمقراطية وتحسين قوانين وتشريعات المهنة والقائمين بالاتصال؟ أم بقيت على حالها أم أنها زادت سوءا وتدهورا. من دون أدنى شك، العالم العربي بحاجة إلى إعلام حر قوي وفعال وبحاجة إلى صحافيين أكفاء ومؤهلين للقيام بدورهم الاستراتيجي في المجتمع على أحسن وجه. هذا يعني أن المؤسسة الإعلامية والصحافي بحاجة إلى مناخ ديمقراطي وإلى قوانين شفافة وواضحة تحمي المهنة والصحافيين من المتطفلين والانتهازيين الذين يستعملون المنابر الإعلامية للتستر على الحقائق ونشر المعلومات المغلوطة والمضللة والمزيفة لفبركة الحقيقة حسب مصالحهم وأهدافهم.
# فلماذا لا تكون المؤسسة الإعلامية في الوطن العربي مؤسسة مسؤولة وحرة وفاعلة تساهم في البناء من خلال الكشف عن الحقائق وتوفير منابر للرأي والرأي الآخر. لماذا لا تُعطى المؤسسة الإعلامية الإمكانات اللازمة حتى تلعب دورها الاستراتيجي والفعال في المجتمع، لماذا يُنظر دائما للمؤسسة الإعلامية على أنها خطر ومصدر مشاكل عديدة ومتنوعة للسلطة؟ لماذا لا يحظى الصحافي بالثقة ولا يعطى الوسائل والظروف اللازمة لتأدية رسالته على أحسن ما يرام ويقوم بمهمة الإعلام والإخبار والتحقيق والكشف عن المساوئ والسلبيات والأمراض الاجتماعية بمختلف أنواعها وأشكالها ومهما كان صاحبها ومصدرها بكل حرية ومسؤولية وشجاعة. والغريب في الأمر أن في الكثير من الدول العربية نجد القادة وكبار السياسيين وأصحاب السلطة والنفوذ يتغنون بحرية الصحافة ويطالبون بالحاجة الماسة إليها ويؤكدون على دورها الاستراتيجي في المجتمع وهم من الأوائل الذين يعملون على تكميم ومضايقة المؤسسات الإعلامية والسيطرة عليها بمختلف الطرق والوسائل والأساليب والآليات بما فيها التشريعات والقوانين الردعية.
# تعتبر حرية الصحافة والديمقراطية وجهان لعملة واحدة، فلا نظام ديمقراطي بدون منظومة إعلامية قوية وفاعلة ومشاركة في الحياة السياسية وعملية اتخاذ القرار. وأهم العراقيل التي تقف حاجزا أمام حرية الصحافة في معظم الدول العربية والدول النامية القوانين الجائرة والصارمة التي تحد من إبداع الصحافي ومن عطائه، أضف إلى ذلك أن معظم قوانين النشر والمطبوعات وتشريعات الصحافة تفرض على القائم بالاتصال ممارسة الرقابة الذاتية أو الحذف الذاتي وهكذا تصبح الآلة الإعلامية عالة على المجتمع بدلا من أن تكون عنصرا فعالا تسهم في محاربة الآفات الاجتماعية وتشارك في تنوير الرأي العام وإشراكه في الحسم في القضايا المهمة والعديدة في المجتمع وهكذا تصبح المؤسسة الإعلامية حبيسة مكبلة في يد القلة الحاكمة التي تجعل منها المنظُر لشرعيتها ولقراراتها وسياساتها سواء كانت صائبة أم خاطئة، والمشرع لبقائها واستمرارها.. حرية الصحافة ترتبط كذلك بالكثير من المعطيات والمستلزمات التي يجب أن تتوفر في المجتمع ومن هذه المستلزمات فلسفة ونظرة السلطة والمجتمع لوسائل الإعلام، كذلك النضج السياسي والممارسة السياسية لدى الشعب، وكذلك وجود الجمعيات السياسية القوية وجماعات الضغط والمجتمع المدني والجمعيات بمختلف أنواعها وأشكالها.
# تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية أساسا في أن الأخيرة تقوم أساسا على الاتصال السياسي وحرية التعبير والفكر وصناعة الرأي العام التي تقوم على التدفق الحر للآراء والمعلومات والمعطيات، الأمر الذي لا يتحقق إلا بوجود إعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق. فالأطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة إلى وسائط إعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة...الخ. إن أي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجعا في الديمقراطية وتاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة. فالأنظمة السياسية الدكتاتورية أو السلطوية لا يمكنها أن تفرز إلا صحافة بدون طعم ولا ذوق ولا هوية؛ صحافة تكون بعيدة كل البعد عن الشارع وعن واقع الجماهير العريضة في المجتمع. ونفس الشيء يمكن قوله عن تلك الأنظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الأنظمة تكون دائما أحادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويموّلها ويسيطر عليها.
# إلى متى تبقى قوانين النشر والمطبوعات وقوانين الإعلام في الوطن العربي جائرة ومستبدة؟ إلى متى تبقى هذه القوانين والتشريعات قوانين عقوبات وإجراءات تعسفية ضد الصحافي الذي لا حول ولا قوة له؟ فهذه القوانين كان من المفروض أن تنظر في الجهات التي تحتكر الكلمة والصوت والصورة للاستغلال والتزييف والتملق والتهميش وتعاقبها، هذه القوانين كان من المفروض أن تضع الخطوط الحمراء التي لا يجب أن تتجاوزها السلطة السياسية والمالية للتحكم والتلاعب بالمؤسسات الإعلامية كما تشاء ووفق مصالحها وأهدافها.
# مازالت السلطة في الدول العربية تنظر إلى المنظومة الإعلامية والمؤسسة الإعلامية على أنها أداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم. فشلت السلطة في الوطن العربي في بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعّال ومجتمع مدني ديناميكي يمكّن المواطن من المشاركة في العمل السياسي وصناعة القرار. وكنتيجة لهذا الفشل، عجزت السلطة في عملية بناء نظام إعلامي إيجابي وفعال؛ نظام إعلامي يؤمن بالاتصال الأفقي ويعمل على إشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام إعلامي همّه الوحيد هو كشف الأخطاء والعيوب وتقديم الحقيقة للرأي العام وليس التلميع والتملق والتنظير للسلطة السياسية والمالية. بالعكس نلاحظ أن السلطة قد كرست نظاما إعلاميا سلبيا ومفعولا به. وما دام أن ثقافة الرقابة والرقابة الذاتية مازالت سائدة ومنتشرة في ربوع الوطن العربي، فلا مجال للكلام عن حرية الصحافة وعن السلطة الرابعة.
# يحتاج النظام الإعلامي العربي الراهن إلى نظرة نقدية جادة مع نفسه كما يحتاج إلى مراجعة مع الذات وهذا للوقوف على السلبيات والتعلم من الأخطاء والهفوات السابقة للانطلاق بخطى قوية وإيجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الإعلام وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق والتنظير وإنما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والإبداع والاختلاف في الرأي ومنبرا لسوق حرة للأفكار. تحديات الألفية الثالثة كبيرة وجسيمة وتتطلب إعلاما قويا وصناعات إعلامية وثقافية قوية وفاعلة سواء على المستوى المحلي أو الدولي، فحرية الصحافة هي أساس كل الحريات في المجتمع، وهي حجر الأساس لأي بناء ديمقراطي في المجتمع. لقد حان الوقت للتخلص من ثقافة الرقابة وكذلك رقابة الثقافة، لأن الرقابة الجائرة والتعسفية تعني بكل بساطة قتل الإبداع والتفكير والاختلاف في الرأي