تعتبر اللغة أهم لاختراعات الاجتماعية التي تميز بها الإنسان عن الأحياء التي تقاسمه الوجود ، فقد كانت وسيلة إلى كل ما أنجزه من تراث وأبدعه ويبدعه من حضارة ، وبها تمايزت وتعارفت المجتمعات البشرية ، وتتعاظم وظيفة اللغة يوماً بعد يوم مع التقدم البشري ، وفي الحضارة المعاصرة ، حضارة الثورة العلمية والتكنولوجية حضارة الاتصال والمواصلات والفضائيات والانترنيت والفاكس والأقمار الصناعية ، يفوق دور اللغة كل دور جوهري كان لها ، على خطر ذلك الدور في التاريخ ، فالكلمة الآن أكثر سيولة وأبعد مسماراً عن طريق وسائل الاتصال الإلكترونية عبر الفضاء .
الحقيقة أن هناك علاقة وطيد بين اللغة والفكر ، ذات أهمية في فهم ليس فقط طبيعية ظاهرة التفكير بل أيضاً فهم طبيعة ظاهرة اللغة نفسها ، لذا لم يكن ممكناً إغفال هذه القضية طويلاً ، فانبعث كموضوع يستفز التفكير والنظر حتى من داخل علم اللسانيات ، وذلك جلي في تأليف " تشومسكي " و " جول كريستيفا " و"بلومفليد " وغيرهم .
لقد كان التصوير الفلسفي القديم يعتبر اللغة مجرد وعاء لفظي يأتي المحمول الفكري ليستبطنه ويحل فيه ، فالأفكار حسب التقليد الفلسفي الأفلاطوني ما هيات وجواهر ، وما اللغة إلا أغلقه وقنوات لفظية تستخدم للقبض على الفكرة والتعبير عنها ! وجرى تناقل هذا التصوير الأفلاطوني معطياً نوعاً من الاستقلالية للتفكير عن التعبير ، للفكرة عن اللفظ بل تشكل حس لغوي يعطي نوعاً من الأسبقية في الوجود للتفكير ، حس تعزيزه تجارب التعبير اليومية نفسها ألا نقول عادة " لا أجد الألفاظ للتعبير عن آرائي " أو " لا تسعفني اللغة في تنقل مشاعري وأفكاري " من هنا تشكيل ذلك الوعي اللغوي الذي يعتبر اللغة مجرد أداة ووسيلة يستخدمها التفكير في مختلف عملياته لنقل مقصوده ومعناه ، وفي هذا السياق يقول ابن خلدون : " أعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده ، وتلك العبارة فعل إنساني " .
وهكذا نلاحظ أن هذا التصوير اللغوي الذي يفصل بين فعل التعبير وفعل التفكير ، يصفه ابن خلدون أنه من " المتعارف " أي من المتواضع عليه والمتفق على القول به وفي ذلك دلالة على شيوخ هذا التصوير وتداوله قديماً .
تعريف اللغة : يرى بعض الباحثين أن " اللغة قدرة ذهنية مكتسبة ، يمثلها نسق يتكون من رموز اعتباطية منطوقة ، يتواصل بها أفراد مجتمع ما " ، إن نظرة مدققة ومتمتعة للتعريف تفصح عن أنه يتكون من ثلاثة أقسام هي :
القسم الأول : يؤكد أن اللغة قدرة ذهنية تختلف من فرد لآخر ، وتتداخل فيها عوامل فسيولوجية ، تتمثل في تراكيب الأذن والجهاز العصبي والمخ والجهاز الصوتي .
القسم الثاني : في التعريف يؤكد على الطبيعة الصوتية للغة ، وأن الصلة بين هذه الأصوات وما تدل عليه صلة اعتباطية ، وأن اللغة اختراع ، ويرى البعض أن أهم اختراع توصلت إليه البشرية استخدام اللغة الأولى .
القسم الثالث : يؤكد طبيعة اللغة الاجتماعية في التواصل بين أفراد المجتمع ونقل الأفكار ، وأهمية اللغة تأتي من أنها تسهل عملية التواصل ، وتجعل عملية التفكير ممكنة بتنظيمها للواقع بمختلف تجلياته ومعطياته ونقله إلى وحدات رمزية مجردة ، إلا أن وظيفة اللغة لا تتوقف عند مجرد نقلها للواقع وتداول الأفكار ، بل تقطعه وتجزئه وتصنفه على نحو خاص ، فكل لغة كما يقول " أندريه مارتينييه " : " تمثل طريقة خاصة في تنظيم العالم " ولقد كان ابن جني سابقاً إلى ذلك في تعريفه للغة إذا يقول : " حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " ، وهذا التعريف تعريف دقيق ينفق في جوهره مع تعريف المحدثين للغة ، فهو يؤكد الجانب الصوتي للرموز اللغوية ويوضح وظيفتها الاجتماعية في نقل الأفكار والتعبير في إطار البيئة اللغوية واختلاف لغات البشر ، فلكل قوم لغتهم التي يعبرون بها عن أغراضهم .
جدل العلاقة بين اللغة والتفكير : انطلاقاً مما تقدم تصبح الإجابة عن السؤال : هل يمكن التفكير بدون اللغة ؟ إجابة نعم ، هذا رغم أ التفكير اللغوي القديم لم يكن بحكم طبيعة انشغالاته المعرفية الموجهة نحو قضايا اللغة النحوية والبلاغة .. بقادر على طرح مثل هذا السؤال الذي ينتمي إلى فضاء التفكير المعاصر الحابل بهواجس التجديد والتساؤل ، رغم وجود بعض اللمعات الفكرية والفلسفية التي أدركت الصلة بين اللغة والفكر من خلال أبحاثها وجدالاتها المنطقية مثل محاورة المفكر الإسلامي " أبي سعيد السيرافي " والمنطقي " متى "" التي قدمها " أبو حيان التوحيدي " في كتابة الممتع " الإمتاع والمؤائسة " حيث خلص السيرافي إلى رفض منطق اليونان بحجة ارتباطه باللغة اليونانية ! ومن ثم سيكون استنساخه في الفضاء الثقافي العربي استنساخاً خاطئاً غير مسوغ . وينبغي الإشارة إلى تلك المقولة الأخاذة والنافذة " اللغة مرآة العقل " التي تعتبر مثالاً فريداً عن كيف يمكن أن تمارس اللغة سلطتها علينا لمصلحتها _ على ما يبدو _ هذه المرة فقد رسخت هذه المقولة في الأذهان مفهوم التطابق بين اللغة والفكر وبين بنية العقل أداة إنتاج هذا الفكر ، ويرى الأستاذ " فؤاد أحمد إبراهيم " أن اللغة وسيلة لإبراز الفكر من حيز الكمون إلى حيز التصريح وهي عماد التأميل والتفكير الصامت ، ولولاها لما استطاع الإنسان أن يسبر غور الحقائق ، حينما يسلط عليها أضواء فكره ، وكان العالم " ورف " قد اهتم بطريق تأثير العلاقات اللغوية على التفسير أو التعبير المعرفي للبشر ، إن اللغة تعني عن إحضار الواقع المادي بشخوصه وسماته وأعيانه ، لأنها تجريد رمزي متواضع عليه ، لذا فبدون لغة " يستعصي " التفكير في الواقع ، إذا يستحيل هذا الأخير إلى شتات من الظواهر وفوضى دامسة لا نميز فيها شيئاً لكننا نذهب بفكرة ابن جني _ تحت تأثير التفكير اللساني ومستجداته المعاصرة _ إلى أبعد مما سبق ، إذا أنه بما التفكير في الواقع يستحيل حصوله بدون لغة فلا شك أن هذه الأخيرة تؤثر تأثيراً كبيراً على عملية التأميل والنظر في " الواقع " إذ هي التي تعطي لهذه العملية منظار الرؤية إلى موضوع " الواقع " بل هي صانعة موضوع التفكير ، وأكثر من ذلك هي صانعته على نحو خاص ، فاللغات مختلفة كثيرا في عملية تصنيفه وتنظيمها للواقع ، وقبل أن ننهي هذه المقالة يمكننا الاستشهاد برأي الدكتور طه حسين في كتابه " مستقبل الثقافة العربية " حول علاقة اللغة بالفكر : " نحن نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة ، وميولنا المتناقضة حين نفكر ، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا الا بالتفكير ، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نفرض الأشياء على أنفسنا الا مصورة في هذه التي نقدرها ونديرها في رؤوسنا ونظهر منها للناس ما نريد ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد فنحن نفكر باللغة " غذن فاللغة ليست رموزا ولا مواصفات فنية وحسب ، ولكنها إلى جانب ذلك وفي الأساس منهج فكر وطريقة نظر وأسلوب تصور ، هي رؤية متكاملة تمدها خبرة حضارية متفردة ويرفدها تكوين نفسي مميز ، فالذي يتكلم لغة هو في واقع الأمر يفكر بها ، فهي تحمل في كيانها تجارب أهلها وخبرتهم وحكمتهم وبصيرتهم وفلسفتهم