اللغة العربية وتحديات الفرانكوفونية
الكاتب: د . لطفي زغلول
في كل عام ومنذ العام 1997، وهذه السنة الثالثة عشر له على التوالي ، ينعقد مؤتمر الفرانكوفونية بمشاركة سبعين دولة، شاركت في اعماله بعض من الدول العربية التي كانت تحكمها فرنسا ، الى جانب الدول الأخرى الناطقة بالفرنسية.
ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن جدول اعمال المؤتمر، ولا القضايا التي تناولها وامعن في بحثها. ان ما يهمنا منظور واحد يخص اللغة العربية التي تتعرض لتحديات اللغات الأجنبية ، ومنها الفرنسية لغة الفرانكوفونية.
بداية، فان الفرنكوفونية مصطلح فرنسي يعني مجموعة الدول والشعوب الناطقة باللغة الفرنسية وتشمل الشعوب الناطقة اصلا باللغة الفرنسية على امتداد الرقعة الجغرافية التي تشغلها من الكرة الارضية بقاراتها الست، مضافا اليها المستعمرات الفرنسية السابقة. وقد سبق وان عقدت الفرنكفونية مؤتمر قمتها التاسع، في العام 2004 ، في عاصمة عربية هي بيروت.
ويمكن قراءة الدوافع لتأسيس هذه المنظمة من خلال حرص فرنسا على لغتها الفرنسية في الدرجة الاولى، وعلى ثقافتها كون اللغة هي مفتاح اية ثقافة انسانية. ولا يخفى ان هناك دوافع اخرى تجسدها الرغبة في الانتشار والتوسع والتواجد على اكبر مساحة جغرافية، وفي ذات الوقت فان عنصر التنافس بينها وبين اللغة الانجليزية الاكثر هيمنة وانتشارا أحد هذه الدوافع، ولا ينبغي اغفاله لأسباب كثيرة.
وعلى ما يبدو فان الانجليز لم يفكروا بايجاد مؤسسة "أنجلوفونية" لغوية ثقافية، فلغتهم أصبحت على مدار الازمنة الحديثة اللغة الرسمية الثانية لمعظم دول العالم وفي أحيان اخرى اللغة الرسمية الاولى. وفي المقابل فقد اوجدوا بدلا منها"الكومون ولث" الذي يضم كل المستعمرات البريطانية السابقة ما عدا العربية، وهي منظمة اشتق اسمها من الثروة المشتركة.
ما يهمنا هنا هو منظومة الدلال والحظوة والاولوية والمكانة التي تحظى بها هاتان اللغتان في العالم العربي على حساب اللغة العربية التي يفترض وفقا للدساتير العربية انها اللغة الرسمية الى جانب كونها لغة القرآن الكريم، والتي اصبحت مساحة تراجعها تزداد مع الايام شيئا فشيئا جراء عدم وجود قوانين او انظمة عربية تهدف الى حمايتها من الغزوين اللغوي والابجدي الفرنسي والانجليزي.
ومما لا شك فيه ان اللغة العربية تعاني هذه الايام جراء اهمالها من قبل ابنائها سواء كان ذلك بقصد او بدونه. وهنا لا بد من الاشارة الى التقصير الذي تتصف به المجامع اللغوية العربية والتي على ما يبدو انها منشغلة بقضايا لغوية مجردة نظرية لم تصل الى سقف خطورة ما تتعرض له اللغة العربية.
وكم يتحسر الانسان العربي الغيور على لغته وثقافته كون العالم العربي يفتقر الى مؤسسة قومية على نمط الفرنكوفونية. ان مثل هذه المؤسسة لو كتب لها ان ترى النور ذات يوم فسوف تكون متعددة الاهداف. فهي من ناحية ستعمل على حماية اللغة العربية وتطويرها وايلائها المكانة التي تستحقها، ومن ناحية اخرى توسيع الرقعة الجغرافية التي تغطيها، وكذلك تسهيل انتشارها وبخاصة بين الشعوب الاسلامية، كون العربية هي لغة القرآن الكريم والصلاة والأذان والعلوم الدينية الاخرى.
ولا تقف مثل هذه المؤسسة عند هذه الحدود المذكورة فحسب، بل ثمة اهداف قومية اخرى يفترض ان تصل الى تحقيقها. فالعالم العربي بحاجة الى توحيد مشروعاته ورؤاه ومشاهده الثقافية في اطار يؤمن بالانفتاح على الثقافات واللغات الاخرى دون المساس بالجذور تحت مظلة قومية تكون قادرة على اثبات وجودها والتصدي للتحديات الثقافية الواردة من خارج حدود العالم العربي، سواء تلك الآتية غزوا أو جراء تطور تقنيات الاتصال بين الشعوب. وقد يكون من اهم اهدافها-والعولمة الثقافية آخذة في الاجتياح- ان تساهم وتشارك كيلا تذوب فيها وتمحي شخصيتها وتفردها وتميزها وخصوصيتها.
ان العالم العربي يتعرض لموجة غزو لغوي ثقافي لا انقطاع لها. ولعل أخطر ما في الامر وجود شرائح مجتمعية عربية قد أخذت على عاتقها عملية التسويق الثقافي واللغوي غير العربي متحمسة للتبشير به على انه سمة العصر والعصرنة والرقي والانطلاق الى العالمية.
وفي هذا الصدد ليس ثمة عربي غيور على عروبته ولغته من يرفض التطور الثقافي واللغوي الايجابي للعالم العربي، ومن المؤكد ان ازدهار سوق اللغات والثقافات الاجنبية فيه لا يشكل ادنى مشكلة لو ان هناك جهاز حماية للغة والثقافة العربيتين اللتين تتعرضان للتقلص والانكماش والتراجع والشعور بالنقص والدونية.
ان ما تتعرض له اللغة العربية تحديدا– وهي من أسس الكيان القومي– باعتبارها احدى اعمدة الثقافة العربية الرئيسة خطير للغاية. والخطورة هنا تنبع من كونها تتآكل في اكثر من موقع بدءا بمناهج تدريس اللغة العربية العقيمة غير المتطورة في المؤسسات التعليمية التي تفرز اجيالا لا تتقن لغتها، ومرورا بطبقة المثقفين العرب الذين على ما يبدو ان غالبيتهم في حالة خصام مع قواعد هذه اللغة نحوها وصرفها ، ووقوفا عند العاملين في حقل الاعلام الفضائي الذين ينتهكون حرمات قواعدها عشرات المرات في مراسلاتهم ونشراتهم وبرامجهم، وانتهاء بالاسواق التجارية التي غزتها اللافتات والتسميات والعلامات التجارية غير العربية.
ومثالا لا حصرا فثمة اسواق تجارية في عواصم ومدن عربية لا يوجد ادنى اثر فيها للغة العربية وكأنها متواجدة في عواصم ومدن اوروبية. الا ان الأخطر من هذا كله هذا الكم من الاعلانات التجارية والدعائية الاخرى باللغة العامية الركيكة، سواء كانت شاخصات او لافتات، او منشورة في الصحف والمجلات، او المطبوعات الأخرى.
ويكتمل مشهد مأساة اللغة العربية اذا ما اضيف اليه ما يدور في ساحة الاعلام الفضائي العربي الاوثق التصاقا بالجماهير العربية والاعمق تأثيرا فيها. فمن بين ما يقارب المائة وخمسين فضائية عربية تحمل اكثر من سبعين منها اسماء ورموزا بلغات اجنبية نصا وابجدية.
ومن هذه الفضائيات ما يستخدم الفرنسية او الانجليزية في واجهات برامجها وفواصلها وشاراتها الخاصة. والأنكى من ذلك كله، تقديم موجات متلاحقة من الاغاني المصورة العربية " الفيديوكليب " مذيلة باسماء الشركات المنتجة والاغنيات والفنانين والفنانات وبقية الكوادر والعناصر الفنية الاخرى باللغة الانجليزيـة.
في العالم العربي هناك الكثيرون الذين يغارون على لغتهم ومنظمومة ثقافتهم ويستشعرون المخاطر التي تحيق بهما. وهم يعلمون يقينا الدوافع الكامنة وراء هذا التراجع الذي منيت به اللغة العربية والتي يمكن تصنيفها بالغزو الثقافي الذي يعمل على الاقتلاع من الجذور والخروج من الجلد، والارتماء في احضان العولمة التي لا تعترف بالتعددية الثقافية، ساعية الى نشر ثقافة الأقوى.
لقد ادرك الاستعمار ان الثقافة هي العصب الذي يمكن مهاجمته وتخديره واماتته بهدف وضع"حشوة ثقافية بديلة" تحمل في تركيبتها عناصر ضعف الانتماء والتقليد الاعمى والشعور بالنقص والدونية والعجز في مقابل فوقية حضارة الآخر- وبمعنى اصح الحضارة الغربية- ولغاته وثقافته.
كلمة أخيرة، اننا اذا كنا غيورين حقا على لغتنا العربية ومنظومة ثقافتنا بالتالي ونخشى عليهما من التراجع والذوبان في الآخر، واذا كنا نريد ان نكون حضاريين وعالميين فالانطلاق يكون من الجذور والأصالة والمحلية والخصوصية والتميز والفرادة. وباستطاعتنا ان تكون لنا مؤسستنا الثقافية الخاصة على نمط الفرنكوفونية على طريق تجسيد الهوية العربية وتعميق الانتماء لها، وايجاد المكانة اللائقة للأمة العربية الناطقة بالعربية بين أمم العالم وشعوبه الاخرى.
ويكفي اللغة العربية شرفا وكرامة انها لغة القرآن الكريم، وان مليارا وثلاثمائة مليون مسلم يشكلون احتياطيا استراتيجيا لنشرها بينهم. لكن المطلوب اولا ارادة جماهيرية نابعة من حس قومي عقائدي انتمائي تجاه اللغة العربية بصفتها مفتاح الشخصية الثقافية العربية، وعنصرا هاما من عناصر وجودها وكرامتها.
ان قرار المستوى السيـاسي في تقديمها، والعمل الجاد لكي تأخذ المكانة التي تستحقها، والدفاع عنها وحمايتها يأتي في المقام الأول دون أدنى شك، وينبغي تفعيله على الصعد القومية. ان اللغة العربية، وهي مفتاح الثقافة اصيلها وحديثها، وهي مدخلها ومستقرها، تستحق من ابنائها مؤسسة على نمط الفرانكوفونية.