كيف يكون لدينا إعلام فعال، وكيف نساهم في ترشيد خطواته؛ لكي يستوعب قضايا المجتمع ويستطيع التعبير عن حاجاته الأساسية؛ التي لا يزال يجعل عنها الكثير؟!
إن وجود إعلام فعال كان ولا يزال أحد المطالب الكبرى لشعوب العالم الذين أدركوا منذ زمن أن الإعلام استطاع أن يقود الناس إلى حيث يريد، وأن قدرة الجمهور على التحرر من سطوة الهيمنة الإعلامية تتضاءل يوما بعد يوم.
والبحث عن إعلام فعال في إعلامنا العربي أصبح اليوم معضلة بكل المقاييس، لا من حيث القدرة على إيجاد ذلك الإعلام فحسب، ولكن من حيث تصور ماهية الإعلام الفعال ومميزاته والدور الذي يجب أن يؤديه والمفاهيم التي يجب أن يعنى بتكوينها في أذهان الناس.
كما أن جهل غالبية الناس بماهية الإعلام الفعال هو الأمر الشائك الذي على المفكرين والمثقفين والكتاب أن يجتهدوا في إماطة اللثام عنه وتحديد القواعد النظرية التي تعرّف المتعاطي للخدمة الإعلامية بمميزات البرامج الفعالة القادرة على دعم الجمهور؛ لكي يتسنى له الاختيار الواعي المبني على رؤية علمية ودراية بالبرامج الجديرة بأن يمنحها ثقته واهتمامه بدلا من تركه حائرا يتردد أمام هذا الإغراق الإخباري غير المسبوق في العروض المتلفزة.
حيث نقف أمام الإعلام المرئي لنرصد أهم الأدوار التي يقوم بها حاليا ونقارنها بالأدوار النوعية التي يؤديها الإعلام الفعال نلحظ حجم الهوة بين الواقع الإعلامي وبين المثال.
وحتى نقترب من فهم الحالة الإعلامية الراهنة؛ علينا أن نشير إلى أن الإعلام الجاد قد أوقف جهده على القضايا السياسية متجافيا عن غيرها من القضايا دون سبب معقول.
فلقد صاحب استغراقه في رصد وتحليل الموضوعات الساخنة في الأفق السياسي قطيعة كبرى لقضايا المجتمع مما جعل كفة الميزان الإعلامي تميل ميلا شديدا نحو السخونة في طرح القضايا السياسية في مقابل السكون التام إزاء القضايا الأخرى التي تهم المشاهد وتلح عليه.
لقد كان حريّا بالمحطات التلفزيونية أن تقدم للمشاهد جرعات إعلامية ترصد المشاكل الاجتماعية وتحللها، وتدعم تطلعات الأفراد للحصول على أفكار علمية قابلة للتطبيق تساعدهم على الارتقاء بأدوارهم داخل الأسرة وخارجها، وتعزز لديهم الشعور بالمسؤولية الفردية إزاء القضايا العامة بدلا من استمرار العزف على وتر واحد؛ كاد أن يقطع من كثرة عدد العازفين والعازفات الذين ملؤوا الفضاء الإعلامي، وأمطروه بسيل من التحقيقات والأخبار التي حاصرت المشاهد، ووضعته في دائرة شديدة الضوء منعته من رؤية ما قبلها وما بعدها، وأصابته بالدهشة والذهول أمام هذا الزخم اللا متناهي من الأخبار السياسية!!
ومما يثير الأسف أن هذا الخلل في الأداء الإعلامي الذي تقدمه المحطات الجادة؛ لم يمر بسلام بل دفع أبناء المجتمعات العربية بسببه ثمنا باهظا لا يمكن حصره أو تقديره حين ظلت أزماتهم الاجتماعية ومشاكلهم التربوية والنفسية وأزماتهم الأخلاقية خارج دائرة الضوء الإعلامي، وبعيدا عن الاهتمام وكأنها قضايا ثانوية لا تستحق أن يدير الإعلام الجاد لها وجهه، ويضعها ضمن قائمة أولوياته البرامجية، في حين أن استمرار التعامي عن وجودها هو كارثة اجتماعية بكل المقاييس.
ولو سلمنا جدلا أن ثمة مبررات كبرى تقف خلف هذا التوجه الإعلامي الأحادي الجانب فإن سؤالا بديهيا يعترض هذا الرأي باحثا عن إجابة شافية حول أثر هذه السيول الإخبارية على المشاهد البسيط؟
الإجابة السريعة والمتوقعة لهذا السؤال لن تتجاوز ما يدور بذهن القارئ في هذه اللحظة وهي أن البرامج السياسية استطاعت أن تعرف المشاهد على حقيقة الواقع الصعب الذي تجتازه الأمة اليوم، والذي لا يعرف عمّ ستتمخض نتائجه وآثاره على مستقبل المنطقة برمتها. وهذا سبب وجيه نسلم به، لكن السؤال المشروع:
ما هي النتائج العملية لهذه المعرفة المكثفة بالواقع السياسي؟!!
ما هي ثمرات هذه الثروة المعلوماتية حول قضايا الساعة؟!!
ماذا بعد هذا التدفق الإعلامي الأحادي النزعة، وماذا بعد هذه الصحوة في نقل الأخبار على هذا النحو غير المسبوق؟!!
ترى هل يكفي النجاح في إعلام المشاهد العربي بكل ما يجري على الساحة لتقديم جوائز الإنجاز للإعلام العربي المرئي وتقديم إشادة جماهيرية بأن واقعنا قد تحسن، وأننا موعودون بصحوة مجتمعية تحل معها أزماتنا وقضايانا العالقة؟!!
انتظار لم يسفر عن نتيجة
ترى هل اقتربنا من جنة الحربة المنشودة، وهل دقت طبول النصر تعلن عن وصول المشاهد العربي إلى آفاق من المعرفة، لم يكن ليصل إليها لو لم تفتح الفضائيات الباب على مصراعيه لتهب رياح التغيير الشامل للمسيرة الإعلامية في عالمنا العربي الكبير؟!
لقد قبلت بعض المحطات الإعلامية الجادة تحدي إثبات الذات، ودخلت بثقل ملحوظ لتؤكد جدارتها في تحقيق رسالة إعلامية، تواكب أحداث الساعة وترصد الأخبار على مدار اليوم والليلة حتى يتحقق لها السبق الإعلامي الذي تريد وقد حالفها التوفيق إلى حد كبير في تحقيق هذا الهدف واستطاعت في فترة زمنية قياسية أن تحظى بثقة المشاهد وتستحوذ على وقته واهتمامه.
إلا أن ما يجب التنويه عليه هو أن هذا الزخم الإعلامي لم يستطع أن يغطي إلا جزءا من هذه الصورة الناقصة؛ التي أهمل البحث عن الجزء الآخر منها منذ عقود طويلة.
ومجمل الدور الذي أدته هذه المحطات الإخبارية أن يكون دورا " تشخيصيا" للحالة السياسية الراهنة، ومما لا يخفى على العاقل أن التشخيص هو نصف الطريق إلى التغيير، وليس هو المرحلة النهائية التي تسبق حدوث التغيير وتوصل إليه، وبشيء من التفصيل نقول: إن الدور التشخيصي الذي استطاع الإعلام الإخباري ـ وبجدارة ـ أن يؤديه قدم كنزا من المعلومات حول قضايا الساعة وهيأ لوجود وعي غير مسبوق بكثير من القضايا المحلية والدولية، كما أتاح للبعض أن يشعروا ـ لفترة من الوقت ـ أنهم قد اقتربوا من نيل الحرية الموعودة؛ التي أحد المطالب الكبرى لإجراء تغيير جذري في وقع المجتمعات العربية. وبشيء من الأناة والهدوء وبعيدا عن الانفعال والتوتر علينا أن نختبر الأثر الحقيقي الذي أفرزه هذه الإعلام على الأرض قبل أن نصدر آراءنا النهائية حول فاعلية مثل هذا الدور الإعلامي الجديد خاصة وأن العبرة ليست في الشعارات ولا في كثرة التحليلات لكن العبرة في النتائج العملية، وفي كفاءة المواد الإعلامية على إحداث التغيير المطلوب في الواقع.
بطبيعة الحال فإن الجزء الثاني من الصورة الناقصة هو الذي يقدم العلاج، ويعرفّ الجمهور على الخطوات العملية التي ينتقلون بها من فئة ذوي العقول المستريحة؛ التي تصلها الأخبار وهي متكئة على الأرائك إلى فئة تساهم في صناعة الأحداث، وتتحرك على مختلف المستويات لإنجاز مهماتها الكبيرة في خدمة قضايا الأمة.
لقد أخفق الإعلام المرئي إخفاقا ذريعا في تحديد تفاصيل الدور الذي كان من المنتظر أن يؤديه بكل أمانة وشفافية. وما إسقاط الطرح العلاجي من الرؤية الإعلامية إلا دليل على محدودية الدور الذي يقوم به الإعلام المرئي مهما علا صوته، وزاد نحيبه.
من أبرز الشواهد التي تؤيد هذا الرأي تلك الملايين التي ختم على عقلها بالشمع الأحمر، بعد أن أفهمها جهابذة التنظير السياسي أنه لا يلزمها معالجة الخلل، وأن وجودها كغيابها لن يساعد على تحريك الغيوم السوداء التي تغطي سماء المنطقة!
ترى ماذا نسمي هذا التفريط في تقديم حلول عملية تشحذ همة المثقف، وتقوي إرادة المشاهد البسيط، وتحرك الجميع في اتجاه السير خطوات إلى الأمام، بدلا من تكريس حالة الخوف والذعر والشعور بالهزيمة النفسية؛ التي هي أبشع أنواع الهزائم على الإطلاق؟
وما هو المسوغ لحصر المشاكل الراهنة في زاوية الفعل السياسي الذي يعاني من أعراض الشيخوخة، والعجز منذ عقود طويلة؟!
ألا يماثل دور الإعلام في هذه الحالة دور دونكيشوت مصارع الطواحين الهوائية؟
ألا تبدو كل الضربات الإعلامية ضعيفة وبعيدة عن الهدف المطلوب؟
ما يزيد الشعور بالمرارة والخيبة الانتقائية اللافتة للأشخاص الذي يُفوضون في تحليل الأوضاع بما يتناسب مع الرؤية الإعلامية التي تركز على المشكلة، وتهمل عرض الحلول المناسبة لها.
إن من أبرز صفات هؤلاء الذين يتم انتقاؤهم بعناية شديدة ليحلوا ضيوفا على أغلب المحطات الإخبارية أنهم ينتمون لذات المدرسة البكائية التي لا تخرّج إلا أشخاصا يتمتعون بمهارات خطابية لافتة تساعدهم على إنجاز مهمتهم في إرباك المشاهد وإشعاره بالعجز أمام قسوة الأحداث، وهكذا يسدل ستار كثيف على عقل المشاهد يحول بينه وبين رؤية الضوء الذي يدله على الطريق، وتختفي الأصوات التي تمنحه الأمل، وتفتح له بابا على الفعل الإيجابي الذي نتمناه!!