الثقافة.. خارج منظوماتها
* فاتح عبدالسلام
كثير من الذين يحملون لقب شاعر أو قاص أو مسرحي أو فنان تشكيلي دخلوا في مواجهات ضارية مع الآخرين من مبدعين ومثقفين، بين طعن بالتهم وضرب بالإدعاءات وهمز ولمز بالأسرار وبخس المنجزات، لكنّهم جميعاً لم يدخلوا في مواجهات هادئة ولا أقول عنيفة مع أنفسهم. لقد أتاحت لنا مشاهدات عدة في الحياة الثقافية العربية رؤية الازدواجية في أوضح صورها عبر نماذج يظهر جليا انّها تخدع أنفسها من دون أن تستطيع خداع الآخرين. فما زالت الشائعات والنقولات المشوهة بين الأفواه والمسامع من أقوى وسائل غالبية المثقفين العرب في الحكم على المنجز الإبداعي الذي ينفق فيه مبدعون أصيلون شهورا وربّما سنوات لكي يظهر في رواية أو مجموعة شعرية أو معرض كرافيك أو مسرحية، فلا يتلقون سوى الآراء السطحية التي تنبئ بأنّ صاحب ذلك الرأي لم يقرأ من العمل سوى فصل أو قصيدة أو لعلّه لم يقرأ شيئاً وإنّما يتداول فقط ما سمعه وما كتب هنا أو هناك.
إنّ هذه الأجواء المليئة بالشائعات وإطلاق الآراء الجزافية تتكاثر كالانشطار البكتيري ولم تعد مقتصرة على جيل دون آخر أو نطاق ثقافي دون سواه.. وإنّما باتت ظاهرة مستشرية لا تعرف حدوداً أو سدوداً، مما زاد في حالة التسطيح ومحاصرة الإبداع الحقيقي في زوايا ضيقة، حتى يكاد يختنق، أو كأنّه فضّل النفي الطوعي عن أن يكون صيداً سهلاً.
صار الانبهار بالأسماء التي يروج لها في احتفالات كبيرة ترعاها دول أو مؤسّسات سياسية بديلاً عن الاحتفاء بالأدباء والفنانين في المدن العربية الصغيرة التي لم تنل أي قسط من الأضواء والشهرة، في حين أن النسغ الصاعد في عمليات تغذية التجديد وضخ الدماء الجديدة في العروق والفروع يكاد يجف.
مَنْ الذي يمكن أن يكون واقفاً عن عمد وراء ذلك الانهيار الكبير الذي يكتسح في كل يوم مساحة جديدة من حياتنا الثقافية؟. أم أنّ الذي يحدث غير خاضع لقوى تسعى إلى ذلك التأثير الهدام، أم أنّ الواقفين وراء تلك التصدعات لا يشعرون بأنّهم يقودون المراكب إلى مياه ضحلة لا تستطيع أن تبحر فيها فتلقى حتفها وتفسخها بفعل صدمة أو بسبب من تقادم الزمن.
الذين يسعون إلى تبضيع المنجزات الإبداعية والمعطيات الثقافية ومن ثمّ نقلها إلى آليات جديدة خارج منظوماتها الأساسية لتعمل بطاقات غير مصممة لأجلها ولتكون وسيلة في أيد لا تجيد إستعمالها. انّما أولئك فقط من يقف وراء انهيار المشهد الثقافي، تدريجاً أو دفعة واحدة كما يحدث في محاور كثيرة. وهؤلاء ليسعوا أفراداً قلائل أو جماعات كبيرة أو صغيرة.. وإنّما هم الحالة المستفيدة من أي آلية أو مسار يقود مصالحها إلى مزيد من المكاسب.
في مطلع كل عام، تكون هناك آمال كبيرة بالتفاؤل.. لكنّها تخبو وتذبل بعد أسابيع.. ليظهر المشهد مأساوياً في نهاية العام.. يمكن أن نعتاد على هذه الحال في شؤون السياسة والإقتصاد وأمور المعيشة والأكل والشرب.. لكن المسألة الثقافية القائمة على الاستعداد والامتلاء المعرفي التدرجي لابدّ لها من سياقات حياة تنمو مع الزمن وتتغذى من خلاله.. وأنّها تجف أبدا ما دامت تنشد التداول والامتلاء والتفاعل مع الفكر والحياة.
تقع الكارثة الحقيقية عندما تكون الثقافة خارج منظوماتها التراتيبية في المجتمع مما يجعلها معرضة لصدمات التأثيرات الخارجية من عالم السياسة والمصالح والنفوذ الإقتصادي والاقطاعيات العرقية والإنتمائية.
من هنا، غابت حدود المسؤولية وتضببت الرؤيا لتتداخل الأشياء بعضها مع البعض الآخر. إنّ زمن الفرز والتمحيص هو الزمن المثالي لعلاجات ناجحة لمشاكل الثقافة العربية المعاصرة. ولكن هذا الزمن بحاجة إلى إمكانات وعناصر وأسباب لا تتوافر الآن في ظل هذا الضجيج والاضطراب والانفلات.