الهوية مفهوم خلافي ويثير كثيرا من الجدل ،ليس فقط من حيث أن الهوية تستدعي حالة تمايز تؤدي أحيانا للصراع مع أصحاب الهويات الأخرى ،بل أيضا من حيث تعريفها ومكوناتها.فمن حيث تعريفها في اللغة العربية ،فمع أنه لا وجود للكلمة في كل من المصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب وهي أهم مصادر اللغة العربية،إلا ان الجرجاني في كتاب التعريفات عرفها بأنها"الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"وهذا المعنى يجعل الهوية كمرادف للحقيقة المطلقة في عالم الغيب وهو يختلف عن المعنى الرائج للكلمة اليوم. وعليه ذهب المترجمون العرب القدامى لتوظيف علم الاشتقاق لمقاربة مفهوم الهوية ،فاشتقوا كلمة الهوية من (الهو) ،فالمعنى الفلسفي للهوية هو ما يكون الشيء هو نفسه ،ويقول الفارابي في ذلك "هوية الشيء وعينيته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له ،كل واحد ، وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك " .وهذا ما يؤكد عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بالقول بأن معنى الهوية في الفكر الفلسفي العربي "قد استقر ليدل على ما به الشيء هو هو بوصفه وجودا منفردا متميزا عن غيره ".
لا يختلف مفهوم الهوية في القواميس الأجنبية عن المفهوم العربي إلا في المحتوى الذي يرتبط بالثقافة ،فالهوية رديف الأنا الذي هو غير الآخر ،بمعنى أن التعريف الابستمولوجي للهوية لم يتغير ولكن مشتملاتها أو تعريفها الثقافي والحضاري هو الذي طرأت عليه تغيرات . وقد أختلف الباحثون في الموضوعات المتعلقة بالهوية والشخصية إلى أي علم تنسب ، وهكذا تعددت تعريفات الهوية حسب العلم الذي يبحث فيها : علم النفس أو علم الإناسة أو علم الاجتماع ، وسنقتصر هنا على تعريفها في مجال علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي،أي سنعالج هنا الهوية الجماعية Collective Identity والهوية بهذا المعنى هي شعور الفرد بالانتماء إلى جماعة أو جماعات معينة ،تجانس المجتمع هو الذي يحدد ما إذا كانت الهوية إنتماء لجماعة واحدة او لعدة جماعات ،ففي المجتمعات المتجانسة عرقيا وطائفيا تكون الهوية اكثر انسجاما لإن الانتماء يكون لنفس الطائفة ونفس العرق أو الإثنية ،فيما المجتمعات غير المتجانسة تتعدد فيها الانتماءات مما يخلق تعددا في الهويات وهذا التعدد يكون خصبا وبناءا حيث تسود ثقافة الديمقراطية ومؤسساتها وقد يكون عامل صراع ويؤسس لطائفية مقيتة حيث تغيب الديمقراطية.
تتفق أغلب التعريفات بأن الهوية بمفهومها العام هي مجموعة الخصائص التي يمكن للفرد عن طريقها أن يُعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي تميزه عن الأفراد المنتمين للجماعات الأخرى .هذه الخصائص أو المميزات الجمّعية لا تتكون صدفة أو بقرار في لحظة تاريخية ما ،بل تتجمع عناصرها وتطبع الجماعة بطابعها على مدار تاريخ الجماعة من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها ( الواقع الاجتماعي ) ، و تعبيرات خارجية شائعة مثل : الرموز والعادات والتقاليد واللهجة أو اللغة ، واهم مكونات الهوية هي تلك التي تنتقل بالوراثة داخل الجماعة وتظل محتفظة بوجودها وحيويتها بينهم مثل :الأساطير والقيم والتراث الثقافي . وبداهة أن الهوية ترتبط بالشخص او الجماعة سواء كانت الجماعة تعيش على أرضها التاريخية أو موزعة في ارض الشتات ، ولكن يجب توفر عنصر الانتماء للجماعة و الوعي بالهوية .
وانطلاقا ما سبق هناك ارتباط قوي ما بين هوية الفرد وهوية الجماعة ،فهذه الأخيرة جمع لأفراد لهم نفس الهوية ،فهوية الفرد تؤثر على هوية الجماعة، وهوية الجماعة تؤثر على هوية الفرد ،وتكون الهوية عند الطرفين أكثر قوة وتماسكا في حالات التهديد الخارجي وإذا ما تشاطر الطرفان نفس البيئة الاجتماعية وبطبيعة الحال نفس الأرض. الهوية عند الفرد تشكل" التعبير الصادق عن ذاتية الإنسان النفسية المستقلة ، التي تميزه عما عداه من آخرين في نفس محيطه .وهي تتكون من خلال عمليات توحد وتطابق ومزج بين المسلمات الشخصية للفرد ، ومن يؤثرون فيه اجتماعيا ونفسيا. ثم تقوم التنشئة الاجتماعية بعملية ربط الهوية الفردية بالهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء للجماعة داخل الفرد ، بالإضافة إلى تحقيق بنية دافعة بداخل الفرد وظيفتها قبول هذا الأخير وتكيفه مع النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في المجتمع .وتتقوى هذه النزعة في المجتمع حين تتحول إلى حركات سياسية أو اجتماعية احتجاجية إما في مواجهة تهديد من هويات محلية متعارضة معها او في مواجهة تهديد من هويات أو ثقافات خارجية . كما أن الهوية تتحدد كثقافة في سياق العلاقات الإنسانية حين إدراك المسائل العالمية والوعي بتعقدها. وهذا ما نلمسه اليوم مثلا فيما يسمى بخطر العولمة الثقافية أو صراع الحضارات . لكن تكوين الهوية وتمايزها –إنتاجها-يحتاج إلى زمن طويل ، حيث يؤكد R.Stavenhagen ان الجماعة الإثنية تعد نتاجا للتاريخ وتقاوم من اجل الأرض أو طريقة الحياة . ومن ضمن المعالم المحددة للإثنية أو الهوية العرقية نذكر ( الخصوصيات الثقافية والدين والعرق والسلالة والاقتصاد والقومية والبيولوجيا ...)وهذه كلها بنيات ثقافية وبنيات للهوية تشكل معاني مشتركة للانتماء.
منذ بدايات القرن العشرين وتحديدا في خضم الحرب العالمية الأولى وتوابعها لم تثار قضية أزمة الدولة وتحديدا فيما يتعلق بأزمة ألهوية الوطنية كما هي مثارة اليوم في مناطق متعددة من العالم .وإذ كانت إثارتها بداية القرن العشرين أرتبط بالنقاط الأربعة عشر للرئيس الأمريكي ولسون فيما يخص بالشق المتعلق بحق الشعوب بتقرير مصيرها ،وكانت الشعوب المقصودة آنذاك هي الشعوب الخاضعة للدول المهزومة في الحرب وخصوصا الإمبراطورية العثمانية،فإن إثارتها اليوم ليس بعيدا عن الولايات المتحدة وليس بعيدا عن تفكك إمبراطوريات –المعسكر الاشتراكي سابقا- نتيجة نصر بلا حرب ،إلا أن أزمة الدولة ومسألة الهوية هذه المرة تمس أيضا دولا من العالم الثالث لم تفرح بنشوة الاستقلال الوطني،حبث تَشكلت غالبيتها نتيجة اتفاقات وتفاهمات الحرب العالمية الأولى ونتيجة سياسة تصفية الاستعمار في منتصف القرن الماضي.فالمشكلة اليوم ليس أزمة هويات داخل إمبراطورية بل أزمة هوية داخل الدولة الوطنية أو الدولة البسيطة والمجتمع الواحد ،سواء في دول المعسكر الاشتراكي سابقا أوفي دول إفريقية وعربية وإسلامية.
في الحالة العربية فإن تعرض الهوية العربية والإسلامية للخطر الخارجي ليس بالأمر الجديد ،فمنذ أن فكر الغرب بالتوجه شرقا في إطار سياسة الاستعمار والهيمنة وضع نصب عينية تحطيم وتذويب هوية شعوب المنطقة باعتبار الهوية عامل استنهاض وتوحيد للأمة ،وفي سعيه هذا لجأ لكل الوسائل كالتشكيك بتاريخ الأمة موظفا في ذلك علم الاستشراق وكوكبة من الاستشراقيين وإثارة النعرات الطائفية والعرقية ومحاولة استمالة شرائح وفئات لمشروعه الاستعماري على حساب إقصاء بقية مكونات الأمة الخ وكانت اتفاقات سايكس-بيكو 1916محطة ضمن هذا النهج .ولم يكن الفلسطينيون غائبين عن الاستهداف بل كانوا على راس المستهدَفين من خلال وعد بلفور 1917 وكانوا من نشطي مقاومة هذه الهجمة الاستعمارية ولكن ضمن الحركة القومية العربية وحركة التحرر العربية .
الخطر على الهوية والانتماء اليوم هو أكثر تهديدا ليس فقط نتيجة تمكن الدول الكبرى من وسائل تقنية وإعلامية واقتصادية وفرتها لها الثورة المعلوماتية ،بل أيضا نتيجة ضعف الثقافة الوطنية لشعوب المنطقة العربية وعدم تمكنها خلال النصف الثاني من القرن العشرين من تعزيز مكونات الهوية سواء الوطنية أو العربية أو الإسلامية على أسس صحيحة بل دخلت هذه الهويات من خلال تيارات وقوى حزبية ناطقة باسمها وموظفة لها في مواجهات أحيانا دامية ،القطرية في مواجهة القومية ،والقومية في مواجهة الماركسية ،والهوية الدينية في مواجهة الهويات السابقة مما اضعف كل هذه الهويات وأضعف الأمة كلها.
موضوع الهوية والثقافة إنما هذا مؤشر على وجود حالة من القلق العام الذي يتعدى حالة القلق اليومي للمواطن على أمر معيشته أو المستقبل السياسي للوطن ،القلق على الهوية يتعدى المصالح الشخصية والحزبية والطبقية ليشكل حالة عامة.الثقافات الوطنية في مختلف أرجاء العالم تعيش اليوم في ظل عالم يتعولم قسرا، حالة صراع ومزاحمة لإثبات الوجود وللحفاظ على الخصوصيات ، على الهوية والانتماء حيث عاشت أجيال بعد أجيال تعتبرها من المسلمات غير القابلة للنقاش. أن توجد جماعة بأكملها في حالة من الحيرة والخوف تجاه متغيرات تمس موضوع الهوية ، فهذا دليل على أن هناك مسببات لهذا الخوف وان هناك خطر حقيقي على الهوية ، لا شك أن كثيرا من الشعوب العربية تعيش أزمة هوية وهو ما يتجلى بمظاهر أزمة الدولة من حروب أهلية فعلية أو كامنة وحالة تنازع بين هويات وخصوصا ما بين القطري والقومي والإسلامي والعلماني ، إلا أن هذه ألازمة بالرغم من خطورتها وتهديدها للمرتكزات التقليدية للدولة الموروثة من الاستعمار أو من إيديولوجيات ما بعد الاستقلال إلا أنها لا ترق لدرجة اعتبارها أزمة تهدد وجود الوطن بالمطلق ،هي أزمة تعيد صياغة الدولة إن صح التعبير،وما تشهده العراق والسودان والجزائر نماذج لذلك.
2- تثاقف الهويات:إخصاب للهوية أم تهديد لها؟
حيث أن الهوية هي هوية جماعة أو مجتمع وحيث ان المجتمعات لا تعيش منعزلة عن بعضها البعض وخصوصا في ظل تحول العالم إلى مدينة كونية وليس مجرد قرية كونية ،بل هي تتبادل الخبرات والتجارب مع بعضها البعض تؤثر وتتأثر ٍسواء سادت علاقات حرب أم علاقات سلام ،إذن فالهوية غير محصنة من عوامل التغيير والتبديل ،وبالتالي فأن مفهوم الهوية عندما ننتقل به من التجريد النظري والمدرسي إلى الواقع نجد أنفسنا كما يقول تركي الحمد "ممزقين بين حالتين أو مستويين من أنماط الهوية ،إن صح التعبير،أحدهم:هوية نموذجية متعالية ومتسامية،بل ومقدسة في الذهن ،والآخر:هوية عملية،بل ومدنسة في الذهن رغم الممارسة ،ونحن بين الحالتين مذبذبون ". وعليه يعتبر الحمد بأن الهوية مفهوم ذهني قبل أن يكون وجودا محسوسا،وهذا المفهوم الذهني يقفز إلى الواقع وقت الأزمات والهزائم ،حيث تصبح آلية ووسيلة للدفاع عن الذات ولملمة الذات في مواجهة الآخر.
في كثير من الحالات يتداخل المفهوم العام للهوية مع الهوية العرقية ، فهذه الأخيرة تتميز بخصائص جسمانية او عرقية ، الدين ،اللغة أو في الأصل القومي ، أو في كل هذه الأشياء مجتمعة ، إلا أن قاموس العلوم الاجتماعية يعرف الجماعة او الهوية العرقية بالقول ( يطلق في غالب الأحيان على أي جماعة تختلف عن الجماعات الأخرى في واحدة أو عدد من عادات حياتها). أيضا يجب التأكيد على أن تميز جماعة بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة في كل شيء وخصوصا بعد تجاوز المفاهيم العنصرية للهوية والقومية وانتشار قيم الديمقراطية التي تؤكد على التعددية . إن التماس الوحدة والتجانس والتماثل أبدا هو التماس لموات الوجود والتماس لخاصية التحجر والجمود وبالتالي تتناقض مع جوهر الديمقراطية. الهوية الحق هي تطابق الهوية مع الاختلاف كما يقول هيجل. وهذا التصور للهوية أخذ به احد المعاصرين وهو المفكر الفرنسي إيف ميشو الذي يرى بأن سر قوة الهويات المعاصرة يكمن في تميزها بالتغير وقبول التغيير والمرونة بحيث تصبح هويات ديناميكية .
لا شك أن التوجه العالمي نحو الديمقراطية هو توجه نحو الأخذ بالتعددية ليس فقط السياسية بل والثقافية أيضا وخصوصا في الدول متعددة الثقافات والأعراق، فلا ديمقراطية دون تعددية بالمفهوم الواسع للكلمة،ولكن ليس كل تعددية تنتمي لثقافة الديمقراطية وتعززها ،الديمقراطية تقوم على أساس التعددية بل والاختلاف في إطار الوحدة "وعلى ذلك فإذا كانت المبالغة في توطيد التعددية الثقافية على حساب الوحدة الثقافية تؤدي إلى تفسخ المجتمع وضياع هوية الثقافة الوطنية المتفردة،فإن المبالغة أو المغالاة في الدفاع عن الوحدة الثقافية برفض كل مصادر التنوع الثقافي تؤدي إلى انغلاق الفكر وتدهور القوى الخلاقة المبدعة وإلى العزلة الثقافية.... ،مما يؤدي إلى النكوص والتراجع والتدهور".
الهوية إذن بما هي ظاهرة اجتماعية ثقافية فهي ليست حالة ثابتة بالمطلق ،فثوابتها هي متغيرات في نفس الوقت ،هي ثوابت من حيث تمييزها جماعة عن أخرها ولكنها متغيرة ومتطورة بتغير وتطور الجماعة وطبيعة علاقاتها مع الجماعات الأخرى عبر التاريخ ،سواء كانت علاقات منتصر بمنهزم أو بالعكس .فالهوية : ليست أقنوما ثابتا وجاهزا نهائيا،كما قد يفهم أحيانا ،وإنما هي مشروع مفتوح متطور على المستقبل ،أي متشابك مع الواقع والتاريخ .وفضلا عن هذا فهي ليست أحادية البنية،أي لا تتشكل من عنصر واحد لها،هو العنصر الديني وحده أو الإثني القومي وحده ،أو اللغوي وحده ،أو الثقافي الوجداني والأخلاقي وحده أو المصلحي وحده ،أو الخبرة التراثية أو العملية وحدها.وإنما هي حصيلة تفاعل هذه العناصر جميعا" .
فإذا كان إعلاء راية الهوية ،وطنية كانت أم قومية أم دينية ،تفرضه الضرورات أحيانا،وهي ضرورات تعبر عن حالة دفاعية في مواجهة عدو خارجي ،إلا أن الحدود قد تزول ما بين الهوية كضرورة للدفاع عن الذات والهوية كضرورة للحشد والتعبئة لنبذ الآخر وإقصاءه أو الاعتداء عليه إن غابت ثقافة التسامح والإيمان بالتعددية ،"فإذا كان معاصرونا لا يحضون بالتشجيع على الاضطلاع بانتماءاتهم المتععدة ،واذا كانوا غير قادرين على التوفيق بين حاجاتهم للانتماء والانفتاح الصريح والخالي من العقد على الثقافات المختلفة،وإذا كانوا يشعرون بأنهم مرغمون على الاختيار بين الإلغاء الذاتي وإلغاء الآخر ،نكون في طريقنا نحو تشكيل جحافل من المسعورين الدمويين ،جحافل من الضالين". ويخلص معلوف للقول "بأن كل منا مؤتمن على ارثين:الأول عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعوبه وطائفته الدينية،والثاني أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه.ويبدو لي أن الإرث الثاني هو أكثرهما حسما ويكتسب المزيد من الأهمية يوما بعد يوم.ومع ذلك لا تنعكس هذه الحقيقة على إدراكنا لأنفسنا ،فنحن لا ننتسب إلى ترثنا الأفقي بل إلى ارثنا الآخر".
واليوم تتفاقم أزمة الهوية في العالم الثالث كظاهرة يطلق عليها برتراند بادي ، أثننة العالم ،فالعالم يشهد اليوم حالة لا تخلو من تناقض ظاهري، فمن جانب تتعرض ثوابت الهوية للزعزعة ، ومن جهة أخرى تنبثق هويات كانت يُعتقد أنها تلاشت ،وهويات كانت كامنة وخصوصا في مجتمعات فقيرة وضعيفة وجدت في الهوية العرقية أو الدينية الجدار الأخير الذي يحفظ لها كينونتها ويحول دون اندثارها بعد انهيار الأيديولوجيا .اليوم "يجري إخراج الإنسان من يقينيته وذاتيته وكينونته ، وربطه إلى عصر الكونية الذي تذوب فيه كل الخصوصيات " . انقلبت إحدى أدوات العولمة ضدا على مسارها ، حيث شجعت هذه الأخيرة ، المجموعات الإثنية والدينية والقومية على لبس عباءة الديمقراطية . كما أصبح خطاب الهوية القومية يشكل شعارا أيديولوجيا تحتمي به الجماعات الاجتماعية المهمشة ،وهو الامر الذي دفع المفكر الفرنسي جان فرانسوا بيار إلى الأعتقاد بأن الهوية بمفهومها العام غير موجودة ،إنما الموجود مجموعة من استراتيجيات الهوية التي تحركها نخب فاعلة ومستفيدة ،ونعتقد ان هذا الراي لا يخلو من وجاهة بالنسبة لحركات قومية متعصبة أو فاشية او عسكرية تلبيس لباس الهوية وتحارب بسيفها ،كالنازيون في المانيا الهتلرية والصرب بعد إنهيار يوغسلافيا ....ولهذا فالهوية لا تصاغ بقوانين ولا تندثر بقوانين ولكنها كالكهرباء تتغلغل في حياة البشر وتكمن في روح القوانين وفي سلوك الناس وتفكيرهم ومشاعرهم وتستمر ما استمر الانتماء والارتباط بوطن خاص بالجماعة.
لا غرو أن التهديد الرئيس للهويات الثقافية في عالم اليوم يتأتى من العولمة الثقافية التي هي تعبير عن الهوية الثقافية للآخر –الثقافة الغربية المسيحية - التي تتوفر على عناصر القوة والتأثير بحيث تصبح الهويات الثقافية للمجتمعات الضعيفة في حالة خطر، إلا أنه ومهما بلغت قوة العولمة ، فليس بمقدورها تقديم نموذج ثقافي بديل يستطيع تهميش الثقافات المحلية وإفراغ الهويات الثقافية من محتواها او الحيلولة دون التصادم بينها وهذا ما أكد عليه شاهد من أهلها وهو هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات ، تَشكُل ثقافة عالمية هو نوع من المحال لان البشر بطبيعتهم مختلفون والله خلقهم كذلك ولم يحدث في تاريخ البشرية أن توحد العالم ضمن هوية ،فلا الديانات السماوية نجحت في ذلك ولا الإمبراطوريات بقوتها نجحت في ذلك . قد تنجح العولمة الاقتصادية والعلمية او المعلوماتية لأنها ترتبط بالجوانب المادية من حياة الإنسان ، إلا أن البعد المتعلق بالهوية والثقافة أي بالجوانب المعنوية ،من لغة وعقيدة وتراث حضاري غير قابلة للتوحد وبالتالي ستبقى مسالة الهوية ملازمة لوجود الدول والمجتمعات.
وفي حالتنا العربية يعتبر تعدد الهويات وتداخلها أمرا يميز العرب عن غيرهم ، فمن هوية وطنية او قطرية إلى قومية إلى إسلامية إلى أممية . و إن كان التعدد أمر إيجابي إلا أن التربية الحزبية والثقافة السياسية لبعض الأحزاب العقائدية عملت على تشوهه الهوية والثقافة ، حيث غلبت الايدولوجيا على الهوية .فالأممية ألغت الوطنية والقومية ، والقوموية ألغت الوطنية ، والإسلاموية ألغت كل شيء حتى العلم الوطني والنشيد الوطني .إن أزمة الهوية في مجتمعاتنا مرتبطة بأزمة الدولة وأزمة الدولة مرتبط بأزمة الهوية وكلاهما يبررا شرعية طرح السؤال من نحن ؟.بالإضافة إلى ما سبق فأن الهوية العربية الإسلامية مشبعة بالأشخاص ،فتقديس الأشخاص والرموز أهم من تقديس الأرض والوطن ، وتاريخ هويتنا وثقافتنا هو تاريخ أشخاص زعماء وليس تاريخ منجزات أو تاريخ دولة ووطن.
الخاتمة
وهكذا وطوال قرن أو ينيف بقيت التساؤلات هي التساؤلات وبقي الواقع هو الواقع مع تغييرات وظهرية لم تمسح الجوهر كثيرا ،وتراكمت التحديات أمام الفكر المفكرون والعقل السياسي العربي ،وإن كان بعض المفكرين ما زالوا أمناء على فكرهم الثوري والوحدوي ويتطلعون لاستنهاضه مجددا ،إلا أن عصر العولمة خلق تحديات غير مسبوقة تجعل استحضار الفكر القومي الوحدوي والفكر الثوري بمفاهيمه القديمة يحتاج لنضال مضاعف ومتعدد الأشكال ،وليس الأمر مع الفكر الإسلامي بأقل صعوبة .
تشكل العولمة اليوم تحديا متعدد الأبعاد ،فما دمنا غير منتجين لها ولا فاعلين فيها إلا بأضيق الحدود،فما علينا إلا استنهاض الكامن أو المتبقي من إمكانياتنا الثقافية والاقتصادية لجعل وقع العولمة اقل خطرا علينا ولتوظيف العناصر الإيجابية فيها،ونعتقد أن العرب وعلى بالرغم من كل مظاهر السلبية البادية على أوضاعهم قادرون على الدخول عصر العولمة بثقة اكبر لو أعادوا إحياء المشاريع الوحدوية السياسية والاقتصادية ولكن على أسس جديدة وبرؤى جديدة، بإضفاء البعدين الديمقراطي والاقتصادي على هذه المشاريع.
الواقع الدولي الراهن والذي تشغل العولمة معظم تفاصيله السياسية والاقتصادية والثقافية ،هو مجرد لحظ عابرة في تاريخ تطور المجتمعات و سيرورة النظام الدولي ،وبالتالي فهو ليس قدرا محتوما أو نهاية التاريخ . لا شك أن الدول المهيمنة وخصوصا الولايات المتحدة وجدت في انهيار المعسكر الاشتراكية وما ترتب عليه من انكشاف أنظمة دول العالم الثالث وخصوصا منها ذات السياسات المعارضة للسياسة الأمريكية،فرصة تاريخية لصيرورة تطلعاتها الهيمنية واقعا تستطيع من خلاله تأمين مصالحها الاقتصادية راهنا وعلى المدى البعيد ومحاصرة البؤر التي تستنهض سياسات معادية لها – ما تسميها الولايات المتحدة بؤر الإرهاب- ،إلا أن الولايات المتحدة بحاجة إلى ورقة التوت التي تخفي هذه التطلعات الهيمنية وتحافظ على صورتها كملتزمة بالشرعية الدولية وبالقيم والأخلاق التي يرتضيها المجتمع الدولي ودول العالم الحر، وورقة التوت هنا هي العولمة.
لا غرو أن الإمكانيات الراهنة للمجتمعات العربية والإسلامية لا تسمح لها بمواجهة تيار العولمة الجارف ،ولكن يمكن استنهاض الهمم بحيث لا نسمح لهذا التيار بجرفنا أو أن نكون لقمة سائغة بفم المتربصين بنا،وهنا يأتي دور المثقفين الملتزمين بقضايا أمتهم لتنوير الرأي العام بحقيقة العولمة ، وإن كانت فئة من المثقفين العرب تعاملت مع العولمة بنظرة المستشرقين مما يجوز نعتهم بـ (المستشرقون العرب) وفئة أخرى تعاملت معها على خلفية نظرية المؤامرة ،فأن فئة ثالثة من المثقفين استطاعت أن توازن ما بين المقاربتين فتتجنب مغالاة الطرفين السابقين بالاعتراف بأن هناك ايجابيات يمكن الاستفادة منها وهناك مخاطر يجب التحذير منها،وهذا ما نتبناه وندعو إليه