الهيمنة
في ظل العولمة
التحدي العولمي المعاصر لم
يعد أمرا خفيا أو سطحيا ، فهو يعمل
على كثير من الجبهات، ويتحرك بنشاط وفاعلية وقدرة كاملة لأسباب كثيرة مدته بالقوة والحيوية
مما وفر للقوي إمكانيات الهيمنة وأعطى للضعيف ذرائع الاستسلام. المرحلة الآن ليست
عادية وشعارات الخوف على المستقبل والخوف على التراث والحضارة والثقافة والفكر ...
هذه الشعارات الرنانة الكبرى التي نسمعها.. أصبحت عديمة الجدوى.. وعقيمة المفعول في
زمن لا يعترف بغير الأقوياء.
والإعلام العربي يقع تحت تحديات
عديدة ، لكنه على العموم إعلام محايد أو مؤيد، أو معارض لمجرد المعارضة، أو ذو وجهين وهو الأخطر،
ساقط في شراك العولمة ويظن نفسه محصن ضدها..
المشكلة الحقيقية ليست في عولمة
الثقافة ولكن في فهم ثقافة العولمة .. كثير من الباحثين يرسمون للعولمة أكثر من وجه.. ولكن الوجه
الأنسب هو الهيمنة.. فالعولمة نظرية عرجاء تعني الهيمنة.. فعندما نتناول العولمة
من منظور علمي نرى منظومة متكاملة للالتهام العولمي، خصوصا الطموحات
الجغراسياسية التي تطرح ايديولوجيات جديدة تسمح بالتدخل في شؤون الغير دون اعتبار
لغير القوة.. خدمة لمصالح السيطرة ولمصالح رأس المال ..
واليوم بتنا نلمس نتاج العولمة
والتشوه الحاصل في ثقافتنا وقيمنا وشخصياتنا المزدوجة.. فنحن بحاجة لتبديل
المواقع .. والانتقال من حيز الاستهلاك إلى حيز الإبداع والإنتاج دون أن نكون سلبيين
حتى لا نذوب ونفقد الثقة بتاريخنا وثقافتنا ومبادئنا كما هو حاصل مع أكثرنا
اليوم ..
علينا أولا أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا ونعي بحق أننا العولميون
الحقيقيون، فنحن ذو حضارة عريقة علينا أن لا نخشى تسويقها .. علينا أن لا نشعر
بخوف من الثقافات الأخرى وأن نؤسس لرؤية إعلامية كونية ناجحة، ناتجة عن التفاعل
الإيجابي.. فالتوحد ضمن حقيقة التعدد والاتفاق ضمن حقيقة التنوع.. نحن نؤمن أن الإعلام
يصنع الرأي ويوجهه، والمشكلة في كثير من الإعلام العربي الذي بات مزيفا للواقع
كاسرا لكثير من القيم ومبددا لكثير من الثروات العقلية.. حيث نراه لاهثا وراء المنافع
الخاصة دون اعتبا ر للقيم العامة..علينا أن نعترف بالواقع ونغير ما يقبل التغيير من
ثقافتنا ونتمسك أيضا بثوابتنا الراسخة.. لنعترف أن هناك شيئا يسمى (القمع الإعلامي
العالمي والحروب الردعية).. حيث أضحت إستراتيجية العسكرة عملية اجتماعية
مصاحبة للدول... ولنعترف بضعفنا الإعلامي على المواجهة.. بل أكثر من ذلك: ليس مجرد استسلامنا
بل دخولنا ضمن دائرة الإعلام المناوئ عن جهل وحسن نية منا تارة وعن وعي
وتصميم وسوء نية تارة أخرى..أما نحن فلا نريد من وسائل إعلامنا أن تكون فقط راعية
للثقافة العالمية السليمة التي تحترم تنوع الثقافات، بل داعية لها..
يجب أن نعي أن العولمة
الإعلامية من منظور غربي هدفها إلغاء
الثقافات الأخرى وطمس معالمها وفرض حركة ثقافية جديدة توائم معتقداتها.. مهما قامت بعمليات
تجميل للشكل وشد للوجه القبيح المترهل..
ومع أننا نؤمن بالعولمة كخيار وحيد
لا بديل عنه.. فإننا نريد بالمقابل أن نقدم ثقافتنا كثقافة تربوية عالية... لذا لا بد
من توظيف الإعلام لخدمة ثقافتنا قبل خدمة ثقافة الآخرين.. وهذا يتطلب من الناحية
العملية:
أولا:إيمانا
بثقافتنا الحرة المعتدلة المتزنة
المتوازنة....
وثانيا: قدرة إعلامية موازية
قادرة على الخلق والإبداع.
ويمكننا بسهولة أن ندرك أن الثقافة
الإعلامية الغربية ليست واحدة ولكنها بعمومها إجمالا تركز على الجوانب
المادية وتسعى للهيمنة والسيطرة واستغلال الشعوب.... أما شعارات الحرية والعدالة
والمساواة واحترام خصوصيات الأمم ... فهي انتقائية دعائية تستخدم كأدوات سياسية
ضد الدول العاصية.. ومع ذلك علينا بالمقابل أن نستفيد من الجوانب الإيجابية في
الثقافة الغربية لكيلا تكون عولمتنا عولمة تبعية ممسوخة..
ونلاحظ أن كثيرا من الدول تنبهت إلى
ذلك مبكرا، فمثلا وزير خارجية كندي قال قبل فترة: (لئن كان
الاحتكار أمرا سيئا في صناعة استهلاكية فإنه أسوأ إلى أقصى درجة في صناعة الثقافة .. حيث
لا يقتصر الأمر على تثبيت الأسعار وإنما تثبيت الأفكار).
يقول المفكر الفرنسي روجيه غارودي: (
لقد انهارت أوروبا أمام الغزو السينمائي والتلفزيوني الأميركي).
الدول الكبرى تشعر
بخطورة العولمة فما بالك بدول صغرى
مهزومة ترى أن نهضتها لا تكون إلا بالانسلاخ عن هويتها ؟
وبالعودة للتاريخ نجد أننا كعرب أكثر
الناس حبا بالعولمة بل كان تأثير عولمتنا أكثر تأثيرا من عولمة الآخرين.. وقد
استطاع العرب أن يعوربوا مساحات شاسعة من العالم حتى وصلوا أوروبا من الشرق والغرب ووصلت
أفكارهم إلى الصين ووسط آسيا وروسيا ...
واليوم تنتقل الثقافات بدون جواز سفر
ويستطيع الإنسان الحصول عليها دون أي قيود .. والقول بمقاطعة العولمة هراء
والأكثر غرابة أن نعجز في ظل كل التقدم التكنولوجي الذي حصلنا عليه من الغرب عن تقديم
صورة صحيحة عن ثقافتنا كما فعل السابقون ونجحوا في سنين قليلة رغم انعدام
الإمكانيات تقريبا واستحالة قياسها مع ما يتوافر لدينا من إمكانيات حالية.
ففي ظل ثقافة العولمة كيف نقبل على
أنفسنا أن نظل مستوردين قانعين بما يأتينا من الغرب .. نشربه على ما فيه
من خطر... نعيش هامشيين نتقولب كما يراد لنا دون أدنى اعتراض ... وأكثر من
ذلك: نهز الرأس إعجابا ونملأ القاعات تصفيقا..
العالم يتغير بسرعة ونحن نتقبل ما
يرد إلينا دون اعتراض ونقاش.. والأفظع من ذلك كله أننا نروج للآخرين في وسائلنا
الإعلامية بل إننا نجد أكثر المنادين بالعروبة غارقين بحب كل ما هو غربي ولو كان
مناف لقيمنا... ومن خلال عملنا اليومي بالإعلام نجد حتى من بين العاملين في الإعلام من
يظل مبهورا بكل ما هو غربي بل وينصح دائما بالإطلاع على الأسلوب الغربي دون اعتبار
لمقياس علمي معين.. ولطرافة الموضوع قمنا باقتباس فكرة غربية وقدمناها كما هي دون
تغيير لبعض هؤلاء دون أن يعرفوا مصدرها، فأبدوا عدم رضاهم لاعتقادهم بعروبيتها،
وكرروا أن الأسلوب الغربي في الإخراج هو الأفضل.. وكانت المفارقة عندما كشفنا لهم
النسخة الأصلية غربية الأصل...
وأود هنا أن أوضح أن العولمة الغربية
ليست وليدة العقد الأخير من القرن العشرين كما يتصور البعض وإنما تعود كما يقو ل الباحثون
إلى بداية القرن الماضي ( انظر بحثا في هذا الموضوع: جريدة البيان 20/8/2002)
عندما سيطر الإنجليز والفرنسيون على آليات جمع الأخبار وتوزيعها وعندما لحقت
أميركا بالركب بالعشرينيات من القرن نفسه احتجت وانتقدت الهيمنة الأوروبية على قنوات
الأخبار وتوزيعها.. وبعد الحر ب العالمية الثانية بدأت أميركا تتحكم في القنوات وفي
الآليات وتصبح منذ ذلك الحين المحتكر رقم واحد للأخبار والمعلومات...
ولكن المشكلة ليست في الخبر
وتوزيعه ولكن المشكلة اليوم أن
الإعلام لم يعد مجرد خبر لقد أصبح عنصر تشكيل للعقول وأصبحت الصحافة صحافة رأي قبل أن تكون صحافة
إعلام.. فهناك استعمال حقيقي جائر من قبل وسائل الإعلام.. ولو نظرنا ببساطة إلى الإعلام
الإسرائيلي نلاحظ بوضوح كيف يزوّر الحقائق ويسيطر بقوته على العناصر التغييرية في
السياسات الدولية التي تتحكم في مسيرة العالم..
أما الإشكالية الكبرى في المعادلة
الصعبة لدى الإعلام العربي على أنواعه الرسمي والخاص.. حيث يرى الباحثون أن الدول العربية
المغلوب على أمرها لا تستطيع أن تنتج مادة ثقافية هي بحاجة إليها نظرا لقلة
الإمكانيات.. ونقص العنصر البشري.. كما أن شراء المادة المعلبة الجاهزة أقل تكلفة..
مهما كانت خطرة على العقول والقيم والثقافة المجتمعية.
قد يكون الجزء الثاني من الإشكالية
حقا ولكننا لا نتفق أبدا مع الجزء الأول.. فالعنصران المادي
والبشري متوفران لكنهما غير مستثمرين بالطريق السليم؟؟ كما أن بعض الإنتاج العربي إنتاج
ممسوخ لا يستطيع أن يكون غربيا رغم أحلامه الغربية ولا يستطيع المحافظة على
عروبته رغم ميوله العربية.. من هنا نلمس المشكلة..
المشكلة ليست في الإنتاج ولا في
التمويل ولا في البشر.. المشكلة في العقلية السائدة التي تترنح بين الشرق والغرب ولا
تعرف ما تريد؟
الدكتور محيي الدين عبد الحليم (
باحث إعلامي مصري) يرى أن الإعلام العربي لكي يأخذ طريقه على الرأي العالمي يستوجب من صناع
القرار التعامل مع المعطيات العصرية بشيء من الحذق والذكاء.. وفق تخطيط علمي يأخذ في
اعتباره كافة المتغيرات التي تفرض نفسها على الساحة الدولية..
وعلينا هنا أن نعي أن العولمة
بخلفيتها غير المعلنة والمكشوفة ومن لا يراها يمارس سياسة النعامة.. تستهدف العنف
الثقافي لإقصاء الخصم وقمعه لتحل محله وتسعى لسلب الآخرين إرادتهم وطمس هويتهم
ونفيهم من العالم وهي بهذا تعني السيادة الفكرية لحضارة معينة على مختلف الحضارات، وفي
هذا الإطار يرى الباحثون أن العولمة تعني طغيان ثقافة معينة على الثقافات
الأخرى وتعمل على ابتلاعها ثم القضاء عليها والحلول محلها.. وهي بهذا تعتبر
نوعا من القهر الفكري وهو ما يشكل خطورة على الأمم الضعيفة تفوق خطورة الاحتلال العسكري
أو الهيمنة الاقتصادية فصوت الضعيف يبدو خافتا وسط هذا الكم الهائل من
الضجيج....
ويشير الدارسون إلى أن الإنفاق الإعلامي الغربي سنويا
تجاوز المائة مليار دولار أميركي (2002) وهذا المبلغ يزيد على الدخل السنوي لأكثر من 47%
من فقراء العالم.. أي 2.5 مليار نسمة .. وتسيطر اللغة الإنكليزية على 88% من البث
العالمي، والألمانية على 9% والفرنسية2% وباقي لغات البشرية 1%.... فأين هي العربية ؟؟؟؟
وتشير الدراسات
نفسها أن الثقافة المبثوثة عبر وسائل
الإعلام هي 20% من ثقافة سكان الأرض لكنها مفروضة على 80% من البشرية.....؟؟؟؟؟؟ (محيى الدين
عبد الحليم: الإعلام العربي ومعطيات العولمة).
وتأسيسا على ذلك نسأل: أين موقع
ثقافتنا في ظل كل هذه المعطيات ؟
كيف يمكن تجاوز الانغلاق والتقوقع في
معركة الحفاظ على الهوية التي تغتصب في ظل الهيمنة؟؟؟ رغم ما للعولمة من سلبيات
يجب ألا نغفل ما فيها من إيجابيات تعمل على خلق ثقافة عالمية جديدة...
******
وبعد..... لا بد من الانتباه
إلى العوامل الداخلية التي توازي
العولمة خطرا، وربما تضاهيها تأثيرا.. ومن ثم القيام بالإصلاح الممكن لنشر ثقافتنا مستفيدين من
قيمنا الجمالية والفكرية والإيمانية والإنسانية، التي لم تستطع كل المحاولات الماضية
والحاضرة زعزعتها.. والنيل منها، وإن نجحت في تقييدها.. فالخطر على الأبناء ليس
وليد الساعة، والمستقبل يحتاج لتعاون جميع المؤسسات العامة والخاصة .. وخاصة وزارة
التربية ووسائل الإعلام.. وهنا اقترح على وزارة التربية وقيادتها مجموعة من
المقترحات العملية الفورية :
أولا: إنشاء إدارة كاملة خاصة
بالإعلام ( ولا أقصد التربوي).
ثانيا: تعيين وكيل مساعد للإعلام. (
ولا أقصد التربوي).
ثالثا: إصدار مجلة
للأطفال ولا تكون على النمط المدرسي
الوعظي..
رابعا: التعاون مع المؤسسات
الإعلامية المحلية لا لنشر أخبار
الوزارة وأنشطتها فقط بل للتوصية والتنبيه والتوجيه قدر المستطاع.
خامسا: إدخال مادة تعليمية خاصة
بالإعلام والعولمة.
سادسا: إقامة حوار مباشر مع مسؤولي
الإعلام لتحديد الخطر وتصويب المسيرة.
سابعا: وضع ميزانية كافية للتوعية على
شكل عمل فني أدبي وليس على شكل وعظي محدود النتائج والأهداف ويكون بعيدا عن الدعائية..
ثامنا: وضع خطة استثمارية
بشرية قريبة المدى ولو كانت تكلفتها
عالية فذلك أفضل من الإنفاق على الطرق ومشاريع التجميل...
تاسعا: العمل على تعيين أخصائيين
إعلاميين في المدارس على غرار الأخصائيين الاجتماعيين .
والأهم من ذلك كله إنشاء إدارة
إعلامية متكاملة تعد البرامج التربوية الإعلامية التي تعرف ماذا يريد الأطفال لا
ماذا نريد نحن.. ولست أقول ذلك من واقع نظري بل أتحدث عن تجربة ومعاناة ودراسة
ميدانية طويلة وعمل إعلامي مستمر.. آملين من الله تعالى أن يكلل جهودنا جميعا.. إعلاميين
وتربويين وإداريين وأولياء أمور من أجل بناء جيل عولمي قادر على العيش بسلام
وأمان وانفتاح واعتدال بعيدا عن هيمنة العولمة والتطرف ...