و هذا مقال اخر منقول للفائدة
يعد مفهوم الفضاء العمومي espace public من المفاهيم الملازمة للعقلانية التواصلية، وهو
المفهوم الذي انشغل به هابرماس طيلة كتاباته الفلسفية منذ بداية الستينيات، إلى حد
أنه خصص له عملا مستقلا بذاته هو في الأصل عمل لنيل شهادة للتأهيل(*).
فحينما نتناول ثنائية الفلسفة والفضاء العمومي، فإن ذلك يحيل إلى ثنائية النظرية
والممارسة أي التأثير الذي يمكن أن تقوم به الفلسفة في الفضاء العمومي. وهابرماس
بطرحه لهذه العلاقة في كتاباته الفلسفية يريد أن يبين التأثير الذي يجب أن تمارسه
الفلسفة في المجتمع المعاصر، لأنها مطالبة بأن تلعب أدوارا مخالفة للأدوار التي
لعبتها في المجتمع اليوناني القديم، والمجتمع المسيحي في القرون الوسطى، وفي العصر
الحديث.
ففي مقاله " حدود
الفلسفة " توقف هابرماس عند دور الفلسفة في اليونان من خلال نموذجي أفلاطون
وأرسطو، حيث خلص إلى أن هذين التصورين غير مقنعين لأنهما يعطيان أهمية كبيرة للعقل
النظري في تحديد الممارسة سواء عند أفلاطون في تصوره للخلاص أو عند أرسطو في تصوره
لحياة سعيدة.
أما إذا عدنا إلى العصر
الهلنستي نجد أن الحكيم الذي يكرس حياته للتأمل كان يحض بالاحترام والتقدير وينظر
إليه كنموذج لأنه يمثل الطريق نحو الخلاص. وفيما بعد، في القرون الوسطى اتحدت
الفلسفة مع المسيحية فأصبحت جهازا علميا في خدمة اللاهوت، مما جعلها تفقد كل
استقلاليتها. في ظل هذه الوضعية تنازلت الفلسفة عن وظيفتها
التربوية والأخلاقية للدين)
وبانتقالنا إلى الوضعية الحديثة للفلسفة العملية المنحدرة من الحق
العقلاني، ونظرية أخلاق الواجب déontologique ذات النمط الكانطي، فهي وضعية مختلفة عن الفلسفة
العملية المنحدرة من التقليد الأخلاقي الأرسطي، فالنظريات الحديثة عوضت المسألة
الموجودة لما هو جيد bon
بمسألة سياسية – أخلاقية أي بقواعد حياة مشتركة والتي ستكون عادلة وجيدة بالنسبة
للجميع.
إن العقل الموضوعي، المجسد في الطبيعة أو في التاريخ الكوني، تحول إلى ملكة
ذاتية للفاعلين. فهؤلاء متساوون فيما بينهم بالطبيعة ويسعون إلى تنظيم حياتهم بشكل
جماعي، بحيث أن كل واحد يحافظ على استقلاليته. فهذه الأخيرة، يتصورها كانط وروسو
كملكة لربط الإرادة الخاصة بالقوانين القابلة للتبني من طرف الجميع. بإمكان كل
واحد أن يعرف ما هو جيد وما هو حسن.
انطلاقا من هذا التحول الذي عرفته الفلسفة في العصور الحديثة مع كانط
وروسو، كان هيجل يسعى في مشروعه الفلسفي إلى تحقيق المشروع الكانطي المتمثل في
تحقيق العقل في التاريخ. فخلق مجتمع عادل بالنسبة لهذا الفيلسوف، يتم بواسطة
الطريق السياسي لممارسة ثورية. هذا التصور الهيجلي ينم عن تأثره بأحداث الثورة
الفرنسية جعله يعتبر أن الثورة جزء من الفلسفة. هذا البعد الثوري للفلسفة سيجد
امتدادا له في الفلسفة الماركسية بالرغم من الانتقادات التي وجهها ماركس لهيجل. لقد
عمل ماركس على تطوير الجانب النقدي في فلسفة هيجل، وحول النظرية الهيجلية إلى نقد
اقتصادي يهدف إلى تحقيق الثورة : هذا التحويل للفلسفة إلى المستوى العملي كما
يراها ماركس لم يكن ينتظر الفشل الذريع للتجربة السوفياتية لتكذيبه بل أكدته
انتقادات وجهت للنظرية الماركسية قبل هذا الانهيار، وانتقادات هابرماس في هذا
الباب لا تخلوا من أهمية علمية. إلى جانب ما قام به كارل بوبر أيضا.
من خلال هذا العرض الموجز عبر تاريخ الفلسفة لثنائية النظرية والممارسة
والذي تأرجحت فيه مهمة الفلسفة بين الخلاص وخدمة اللاهوت والممارسة الثورية، خلص
هابرماس إلى أن معرفة كيف تصبح الفلسفة عملية طرحت بشكل سيء. ولهذا تبعا لرؤيته
الخاصة للتحولات التي عرفتها الفلسفة، وللتطورات التي عرفها المجتمع الحديث
المعقد، يرى هابرماس أن الفلسفة اليوم مطالبة بأن تكون في خدمة الفضاء العمومي.
ترى كيف سيتم لها ذلك
إن علاقة الفلسفة بالفضاء العمومي يمكن تناولها من خلال
علاقة الفيلسوف لهذا الفضاء ودوره في العصر الراهن، خاصة في ظل مجتمع يهيمن فيه
دور الخبير أكثر من الفيلسوف. فالفيلسوف حسب هابرماس يلعب دورا مهما في الفضاء
العمومي في المجتمعات الحديثة، وهو دور يتجاوز دوره كخبير وهذا ما يميزه أيضا عن
العالم(*)، فالفيلسوف حينما يلعب دوره كمشارك في الفضاء العمومي، هذا
الفضاء الذي عبره تفكر المجتمعات الحديثة في هويتها الجماعية يكون له تأثير أكثر
من دوره كخبير أو كمانح للمعنى. إن هذا الدور الذي يمنحه هابرماس للفيلسوف يأتي من
فهمه لمهمة الفلسفة في بعدها السياسي، فهابرماس يعد من الفلاسفة الذين أولوا دورا
مهما للفلسفة السياسية في العصر الراهن، وذلك ليكشف التأثير الذي يمكن أن تحدثه في
الفضاء العمومي، لأنه يشكل صدى للمشاكل المطروحة في المجتمع، هذه المشاكل التي لا
يمكن إدراكها من وجهة نظر وظيفية مغلقة. فالنسيج المنتشر في الفضاء العمومي
والمجسد في المجتمع المدني، هو المكان الذي يمكن للمجتمعات الحديثة المعقدة أن
تطور فيه وعيها بذاتها. ففي الفضاء العمومي يلعب الفلاسفة أدوارا أكثر من باقي
الفاعلين. فهذه الفئة من المفكرين الفاعلين يفعلون في المجتمع دون طلب من الآخرين
وهذا ما يميز الفيلسوف عن الخبير الذي يكون دائما رهن إشارة الآخرين لتقديم خدماته
ومعارفه قصد إيجاد حلول لمشاكل معينة. ()
فالخبير في ظل مجتمع تهيمن فيه الأنساق الوظيفية مطالب بتقديم أجوبة تكون
عبارة عن معرفة مهنية متخصصة، معرفة قابلة للتطبيق، إما أن يكون مصدرها العلوم
الطبيعية أو العلوم الإنسانية. هذه المهمة التي يقوم بها الخبير لا يمكن أن تقوم بها
المعرفة الفلسفية أو التاريخية أو الهرمنوطيقية، فمساهمتها في هذا المجال ضعيفة.
فمهمة الفيلسوف تكمن في كونه مستشارا في قضايا المنهج ونقد العلوم وحدود العلم(*)، وبالخصوص في القضايا المعيارية التي لها علاقة
بالبيئة(**) والتكنولوجيا الجينية(***)، أو بصفة عامة القضايا المتعلقة
بالمخاطر التي يطرحها استعمال التكنولوجيا الجديدة، وفي بعض الأحيان يتعلق الأمر
بالتأمل في السياسة الأخلاقية حول الهوية الجماعية.
على خلاف الخبير، لكي يحافظ الفيلسوف على دوره مطالب بمعارضة كل استعمال
أداتي instrumentalisation / instrumentalisierung لمعارفه، أي يجب أن يظل واعيا
بحدود خبرته لأن الفلسفة لها خصوصيات مقابل العلم. (
إن الفيلسوف يتميز عن الخبير بكونه يتصف بنوع من الاستقلالية، هذه
الاستقلالية تجعل مهمته تتمثل في الدفاع عن القيم الأخلاقية، في سياق توشك فيه هذه
القيم على أن تنسى. من هنا أصبح تدخل الفيلسوف في القضاء العمومي مسألة ملحة أكثر
من أي وقت مضى وهابرماس يمثل نموذج الفيلسوف المتعدد الوظائف " بوصفي فيلسوفا
أعمل في حقل العلوم الاجتماعية وبوصفي أستاذا أدرس، وبصرف النظر عن ذلك، فأنا
مثقف، وفضلا عن ذلك أيضا أتدخل عمليا، لكنه لا أحد في ألمانيا يقبل هذا المبدأ
الذي يميز بين الأنشطة وخبراتها المتبادلة كما لو أن على الفيلسوفة أن تكون مجرد
تبرير سياسة ما، وعلى الالتزام أن يكون توضيحا لفلسفة ما ".(وفي سياق مناقشة مهمة الفيلسوف خاصة في السياق الألماني، لم يفت هابرماس أن
يقوم بانتقاد التصور الهيدجري للمفكر الذي ينصت للعالم والذي بإمكانه أن يغير قدر
الحداثة المتخلى عنه من طرف الله. فهيدجر احتفظ للفلسفة بنزعة قدرية، إن هذا
التوجه الهيدجري كان تحت التأثير النقدي لنتشيه، إن هذه الصيغة الرؤيوية للفلسفة،
هي التي يسعى هابرماس لتجاوزها في زمننا الراهن " إن الفلسفة التي تريد أن
تجد لنفسها موطئ قدم في النسق المنظم للعلم، والتي لا تستطيع أن تنسحب أو تتملص من
وعيها المتمثل في القابلية للخطأ، يجب أن تتوقف عن الاعتقاد بقدرتها على تقديم كل
الحلول وأن تكتفي بأن تحمل للعالم المعيش نمطا من التوجيه أقل درامية، وأن تدرك
كذلك تصورا متواضعا وواقعيا حول نفسها باندماجها بشكل إحالي – ذاتي / Autoréférentielle في البنيات المختلفة للعالم
الحديث ".(
بنقده لهذه النزعة القدرية والرؤيوية للفلسفة كما يريدها هيدجر، يريد
هابرماس أن يجعل الفلسفة مبحثا متواضعا، تجد مكانها في الاشتراك مع المعارف
الأخرى. " فعوض أن تثبت ذاتها كقوة طموحة أمام شمولية هذا العالم، يجب أن
تصبح فلسفة تداولية تحاول أن تحدد مكانها في إطار هذا العالم الذي تؤوله في نفس
الوقت بالشكل الذي يمكنها أن تضطلع بالعديد من الأدوار حسب وظائفها وأن تحمل مساهمات
نوعية ".(بتخلي الفلسفة المعاصرة عن إدعاءات : الشمولية (هيجل)، والتأسيسية (كانط)،
وتغيير العالم (ماركس)، والقدرية (هيدجر) والقدرة على إدراك الحقيقة لوحدها، أصبحت
واعية بذاتها وتعرف حجمها والمهام المنوطة بها في الفضاء العمومي الحديث، كما
أصبحت واعية بإمكانية وقوعها في الخطأ " فالفلسفة غالبا ما تكتفي بفتح الطريق
للنظريات الإمبريقية المطالبة بطرح قضايا كونية طموحة. إنها لم تتوقف على الاشتغال
بقضايا الحقيقة مثلها مثل العلم. لكن الذي يميز الفلسفة عن العلم، أنها تحافظ على
علاقة داخلية مع الحق، والأخلاق، والفن وتدرس المسائل المعيارية والتقويمية من
وجهة نظر خاصة بها. فبدخولها أيضا في منطق قضايا العدالة(*) والذوق واحترامها للمعنى الخاص بالأحاسيس الأخلاقية
والتجارب الجمالية، تحتفظ بهذه القدرة الوحيدة للانتقال من خطاب لآخر وتجري ترجمات
من لغة لأخرى ".(إن الفلسفة بحكم تعدديتها اللغوية وعلاقتها مع العديد من المباحث المعرفية
بإمكانها أن تطور العديد من تأويلاتها، وأن تساهم في فهم العلاقات الاجتماعية
والسياسية. كما أن بإمكانها أن تساهم في تقريب وجهات النظر بين مختلف الثقافات
بخصوص القضايا الأساسية المطروحة للنقاش حاليا، كالديمقراطية، وحقوق الإنسان
والعنف الذي ارتفعت حدته في السنين الأخيرة.
بخصوص مسألة الديمقراطية يرى هابرماس أنها في حاجة في وقتنا الراهن إلى
الفلسفة كفاعل مؤثر في الفضاء العمومي، وكذلك لحسها النقدي، بالرغم من أن الفلسفة
والديمقراطية ليس لها نفس الأصل التاريخي. فكل واحد منهما تابع للآخر بنيويا.
فالتأثير العمومي للفكر الفلسفي يتطلب الحماية المؤسساتية لحرية التعبير والتواصل،
على عكس هذا، فالنقاش الديمقراطي- المهدد(*) دوما – متوقف على يقظة وتدخل هذا الحارس العمومي
للعقلانية والمسمى بالفلسفة ".()
وفي إطار تأسيس فضاء عمومي ديمقراطي تعمه أخلاقيات الحوار أو المناقشة،
يستدعي ذلك الدفاع عن حقوق الإنسان حتى يتمكن من التعبير عن آرائه ويساهم بشكل
فعال في تعزيز الحريات العامة والفردية للإنسان في إطار الاحترام المتبادل
للخصوصيات الثقافية، ولهذا يعتبر موضوع حقوق الإنسان بالنسبة لهابرماس من المواضيع
التي تحتاج حاليا لتدخل فلسفي. وهابرماس نفسه حاول استثمار الأسس الفلسفية لنظريته
التواصلية لمقاربة هذا الموضوع، مقترحا في هذا السياق " التفكير في الوضعية
الهرمنوطيقية التي تسمح بالدخول في نقـاش حول موضوع حقوق الإنسان المثار بين مشاركين
ينتمون إلى ثقـافات مختلفة، وذلك بهدف الوصول إلى تفاهـم بين مختلف المشاركين عن
طريق تبادل الأفكار والاعتـراف المتبادل فيما بينهم، بالرغـم من اختلاف خلفياتهم
الثقافية ".()
أما بخصوص مسألة العنف، خاصة بعد أحداث 11 شتنبر وجد هابرماس نفسه مضطرا
للدفاع عن أطروحته التواصلية نظرا للانتقادات التي تعرض لها " مفهوم العقل
التواصلي " حيث شوشت على هذا المفهوم المركزي في نظريته. هذا التشويش دفعه
إلى استغلال فرصة الحوار الذي أجرته معه الباحثة الأمريكية جيوفانا بورادوري Giovanna Borradori حو " الفلسفة في زمن الرعب
"، لرد على الانتقادات التي وجهت لنظريته، معتبرا أن نظريته بإمكانهـا أن
تساهم اليوم في تجـاوز حالة العنف التي أصبحت هي الحالة السـائدة في العالم بما في
ذلك في أوربا " فهـذه الأخيرة التي كانت تعيش حالة من الاستقـرار والسلم
أصبحت مهددة بدورهـا بظاهرة العنف، وذلك لكون العنف أصبح يشكل بنية لهذه المجتمعـات،
هذه البنية التي هي نتاج للتهميش والتفقير ".()
وبحكم أن العلاقات الاجتماعية أصبحت رهينة للعنف، وللفعل الإستراتيجي
والتحكم، فإن هابرماس يرى أن هناك عاملين أساسيين يجب أخذهما بعني الاعتبار : ممارسة
حياتنا اليومية جنبا إلى جنب تستند على أساس صلب لقناعات مشتركة وحقائق ثقافية
بديهية بذاتها وأمال متبادلة. فتنظيم الفعل يتأسس من خلال ألعاب اللغة العادية،
ودعاوي الصلاحية المرفوعة بشكل متبادل أو على الأقل تلك المعترف بها بشكل ضمني في
الفضاء العمومي من جهة، ومن جهة أخرى، وبسبب هذا، فالصراعات تنشأ من خلال تشوه في
التواصل، وسوء التفاهم، والفهم وأخيرا من خلال الكذب وخيبة الأمل.
انطلاقا من هذه العـوامل المتداخلة فيما بينهـا يعد
العنف بالنسبة لهـابرماس "حلقة لتواصل مشوه " يـؤدي من خلال عدم الثقة
المتبـادلة غير المراقبة إلى تعطيل التواصل ".()
إن هذا التعطيل للتواصل هو الذي تسعى النظرية التواصلية
إلى تجاوزه وذلك من خلال معالجة العوائق التي تعيقه. فإذا كان للفلسفة من دور في
هذا المستوى هو محاولة تجاوزها نظرا لما تتوفر عليه الفلسفة من تعددية لغوية ومن
قدرة على التأويل، وذلك عن طريق " التبادل الثقافي والترجمة والبحث عن لغة
مشتركة ".()
ولتحقيق هذا التواصل المنشود بين الثقافات والشعوب رد هابرماس بنقد واضح على
دعادة… " صراع الحضارات " الذين ينطلقون في أطروحة صامويل هانتغتـون،
حيث دعا هابرماس الغرب إلى تغيير سياسته تجاه الثقـافات الأخرى معتبرا أن ما يسمى
" بصراع الحضـارات " " Kampf Der kultur " هو ما يشكل حجابا يخفي المصالح المادية
الحيوية للغرب ". ()
ولتجاوز حالة العنف والصراع يؤكد هابرماس على أهمية
" التواصل الأفقي " بالمعنى الهرمنوطيقي كما وظفه " فون هومبلدت
" في فلسفته. وفي هذا الحوار الذي أجرى مع هابرماس بعد 11 شنبر، يعلن هابرماس
عن تأسفه عن تراجع هذه المقاربة الهومبلدية للتواصل نظرا للعوائق التي لازالت تحول
دون تحقيق ذلك، من ثمة فهدف الفلسفة عنده هو إعادة بناء هذه الشروط لتحقيق تواصل
فعلي(*) في المجتمع بين الأفراد وأيضا بين
الثقافات. ويعد تركيز الفلسفة على العالم المعيش اليومي ومكوناته الثقافية
واشتغالها على التأويل مدخلا من شأنه أن يردم الهوة الفاصلة بين هيرمنوطيقا ما قبل
– الفهمPreunderstanding
Ververständigung/ للجانين معا. لأن العالم المعيشي
هو الأفق لممارسة أشكال متعددة من الاتفاقات بين الذوات، هذه الاتفاقات من شأنها
أن تساهم في تقليص دائرة العنف كتواصل مشوه.
خاتـمـة :
استنادا إلى المعطيات السالفة الذكر، يبدو أن هابرماس ينطلق في نظريته
التواصلية من تصور خاص للفلسفة يتماشى مع الأطروحة التي يدافع عنها. مما يعكس أن
ماهية الفلسفة في الوقت الراهن بالنسبة لهابرماس، لا يمكن إلا أن تكون في خدمة
البراديغم التواصلي الذي يريد هابرماس تأسيسه في ظل فكر فلسفي ما بعد ميتافيزيقي
يتصف بمميزات وخصائص جعلته يقيم قطيعة وثورة – على البراديغم الفلسفي الميتافيزيقي،
الذي تمثله الفلسفة الهجلية وباقي الفلسفات الكبرى بصفة عامة، وفلسفة الوعي
بأشكالها الذاتية والجماعية. إننا أمام مهمة جديدة للفلسفة تسعى إلى تجاوز الفلسفة
الذاتية، واكتشاف البيذاتية Intersubjectivität نقدا وتحليلا، وتقدم نفسها كبديل فلسفي جديد. هذا
البديل الفلسفي الذي يركز على العلاقة الحوارية يهدف إلى البحث عن شروط الحوار
والتواصل مستفيدا من اجتهادات التداوليات الكلية لكارل أتوآبل و" المنعطف
اللغوي " الذي منح الفكر الفلسفي المعاصر الوسائل الضرورية لاكتشاف العقل
المجسد في الفعل التواصلي.
وباعتماد هذا البديل الفلسفي على العلاقة البيذاتية انفتح عن النظرية
الحجاجية التي تقدم الوسائل الضرورية لإقامة علاقة تواصلية مؤسسة على أفضل حجة لا
على الإكراه والضغط.
زيادة على هذا فالفلسفة بحكم استفادتها من هذا التحول أصبحت مهمتها عند
هابرماس تكمن في تحرير الفضاء العمومي من كل العوائق الإيديولوجية والأوهام سواء
الوضعية، أو العلموية، أو الماركسية، وذلك عن طريق انفتاحها على باقي المعارف الأخرى
وكفها عن الادعاء الكلاسيكي بقدرتها على إدراك الحقيقة لوحدها، لأن الحقيقة أصبحت
مسألة جماعية تساهم فيها عدة أطراف مشاركة.
إن الهدف الأكبر الذي تسعى الفلسفة تحقيقه، هو صياغة نظرية للحداثة
ولعقلانية جديدة : عقلانية تواصلية إجرائية لا عقلانية جوهرية مطلقة، عقلانية
عملية مرتبطة بسياق اجتماعي ومموضعة في التاريخ، لا عقلانية تجريدية نظرية.
إن هابرماس في الوقت الذي يتفلسف في ضوء منطلقات التواصل، يريد أن يواصل
مشروع مدرسة فرانكفورت اعتمادا على وسائل أخرى من أهمها مكتسبات المنعطف اللغوي،
في أفق بناء نظرية نقدية للمجتمع تسعى إلى عقلنة الفعل والسلوك والمعرفة والكلام،
فالفلسفة، وإلى جانب المعارف الأخرى، تشكل معها شريكا في التحليل النقدي للمجتمع،
لأن النظرية التواصلية في نهاية المطاف هي نظرية في المجتمع. دون أن ننسى أن أهم
طموح لفلسفة هابرماس هو محاولته دراسة المجتمع في ضوء نظرية التواصل.
المراجع
*- - Habermas « espace public ». Tr. Marc. B. Launy.
Payot 1993. Origine
« Strukturwandel Der öffentlichkeit » suhrkamp,
verlag. Am. Main 1962.
Tr Ang « the structural transformation of the public
sphere » translated by
Thomas Burger with
the assistance of Fredirick lawrence. The MIT Press.
Cambridge 1989.
[1]- - Habermas
.J. « Vérité et justification » Tr. Rainer Rochlitz. Gallimard 2001,
p : 248-249, origine « Wahrheit und
Rechtfertigung» Philosophische
Aufsatze, surhkamp 1999. Seit : 320-321.
- Ibid. p : 248,
« W.R » 320..
-->- - Ibid.
p : 250-251, « W. und R » 322-323.
>- - Ibid.
p : 252, « W. und R » 324.
*- في جواب على سؤال متعلق باهتماماته الأخيرة
حول البيوأخلاقيات [ دراسة المشاكل الناجمة عن البحث البيولوجي
والطبيعي والجيني] وعلاقة بذلك بالديمقراطية،
أشار هابرماس إلى مهمتين للفيلسوف، الأولى أن يوظف معرفته
المتخصصة في إطار لجن، والثانية هو أن يحتل
باعتباره مثقفا مكانته في الفضاء العمومي كلما تعلق الأمر
بقضايا سياسية، [ من حوار أجراه رانير روسلتس
مع هابرماس بجريدة لوموند- ترجمة أحمد رباص، جريدة
المنعطف 2003].
-->- - Habermas .J. « V et J » p : 258- « W und
R » 330.
*- لقد أصبح
العلم في العقد الأخير من القرن 20 موضوع دراسات فلسفية عديدة، ليس من زاوية إستراتيجية
وإنما من
زاوية أخلاقية
أو ما أصطلح عليه بأخلاقيات العلم [ البيواتيقا كنموذج]. وتعد الدراسة التي قام
بها رزنيـك ديفـيد
" The Elhics
of Science
" دراسة مهمة في هذا المجال. فعلى خلاف الدراسات الاستمولوجية التي تتناول
العلم
من الداخل [منهجه...
منطقه]، فإن هذه الدراسات تتناول العلم من الخارج أي تتناوله كظاهرة إنسانية لها
متطلبات
وشروط
واحتياجات الظاهرة الإنسانية وعلى رأسها النسق القيمي والمنظومة الخلقية.
وللمزيد من
الإطلاع يمكن العودة إلى هذا الكتاب، وخاصة الفصول الأربعة الأولى. [
"أخلاقيات العلم" ديفي رزنيك
ترجمة عبد
النورع المنعم، حالم المعرفة 2005.]
**- في إطار التيارات الفلسفية الأخلاقية المعاصرة، ظهر ما يسمى
بالتيار الإيكولوجي الذي يدافع عن البيئة، هذا التيار
يجعل الإنسان مركز
تفكيره، هذا التيار الفلسفي يرى أن النظام البيئي جدير بالاهتمام والحفاظ عليه
لأنه يمتلك في
صلب ذاته قيمة خلقية،
وليست بسبب أنه قد حدث أن وضعنا قيمة له نظرا لاستقداماته الاجتماعية والاقتصادي.
" أخلاقيات العلم
" نفس المرجع، ص : 42. يمكن العودة أيضا إلى جزأي : " الفلسفة البيئية
" عالم المعرفة. إعداد
مايكل زيمرمن، ترجمة
معين شفيق رومية 2006.
***- قبل سنة 1998 لم يكن لهابرماس أي اهتمام
بالأخلاق التطبيقية، لكن فيما بعد بدأت مشاكل البيواتيقا تستحوذ على
الجمهور والتي أثارها تقدم طب الولادة منذ
مدة طويلة، كما أن البحث حول الخلايا الأصلية المقتطعة من أجنة
بشرية أو من أنسجة جنين مجهض لم يعرف
انطلاقته إلا منذ 1998م. إضافة إلى الأبحاث المتطورة حول
الجينوم التي غذت الأمل في رؤية العلاجات الجينية تتطور على نطاق واسع
وأثارت أيضا الاهتمام الاقتصادي
باستغلال هذه التكنولوجيات. في ضوء هذه
التطورات تأتي التأملات الفلسفية لهابرماس حول مستقبل الطبيعة
الإنسانية. هذه التأملات التي صاغها على
شكل تساؤلات ستكون موضوع كتاب " مستقبل الطبيعة الإنسانية، نحو
تحسين
النسل في المجتمع الليبرالي ". من أهم الأسئلة المثارة للنقاش : ما مستقبل
الطبيعة الإنسانية في ظل
التطور الذي تعرفه البيوتكنولوجيا خاصة في
المجتمعات الليبرالية التي يتمتع فيها الفرد بالحرية والمساواة في فعل
ما يريد ؟ هل يسمح لنا في ظل هذا التطور اختيار جنس الطفل الذي نريد، وبرمجة
الخصائص المميزة التي نريد
على مستوى الشعر، اللون، القوة الفيزيائية،
الذكاء، الذاكرة ؟
- Voir Habermas
J. « l’avenir de la nature humaine : ver un eugénisme Liberal ?
Tr. Christian Bouchindhomme Galimard. 2003.
voir aussi « Die Zukunft Def Menschlichen
natur : auf dem weg zur einer liberalen
eugenik ? suhrkamp 2001.
- أنظر كذلك الترجمة العربية " مستقبل
الطبيعة الإنسانية : نحو نسالة ليبرالية
". جورج كثورة المكتبة الشرقية
2006- -
Habermas J. « V et j » p : 257- «W und R », Seit. 329.
" مسارات فلسفية " ترجمة
محمد ميلاد، دار الحوار، سوريا 2004، ص : 152.
-
Habermas J. « V et j » p : 257- «W und R », S. 326.
- Ibid.
p : 254. «W und R », s. 326.
*- بخصوص موضوع العدالة يمكن العودة
للحوار الذي أجراه هـابرماس مع نظرية العدالة لجون رولز.
- «justice politique » Debat
Habermas. Rawls, Tr. R. Rochlitz/Cathrine Audard,
cerf 1997. Vgl « politischer liberalismus
– Eine Auseinandersetzung Mit j Rawls »
In « Die Einbeziehung des Andern »
Studien zur politischen Théorie. Suhrkamp.
Verlag 1969.
]-->- - Ibid.
p : 255. «W und R », s. 327.
*- يبدو لي أن هابرماس منذ أواخر التسعينات كثف أبحاثه حول
الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسلام، المواطنة إلخ، هذا الاهتمام يعكس تخوفه من
انهيار مكتسبات الديمقراطية التي حققها المجتمع الألماني. وبالتالي فدعوته
المتكررة لتعزيز دولة الحق والقانون عن طريق تعزيز آليات الديمقراطية، تنم عن هذا
التخوف من العودة إلى وضع ديمقراطي. إنها عقدة النازية التي لا زال يعاني منها
المثقف الألماني. وهذه الفكرة يدافع عنها كل من رانير روسلتش وكريتان بوسندوم، في
قولهما التالي :
- « En constituant un espace éthique de dialogue, Habermas
est fidèle à la loi fondatrice
de l’échange
critique et philosophique. En poursuivant l’élaboration concrète d’un
espace international
cosmopolitique, il tient la promesse de sa génération : produire
une philosophie qui empêche le retour du
Nanisme » in « Jürgen Habermas :
l’exigence
critique » le monde de l’éducation aout- 200, p : 62.
-
Habermas J. « V et J », p : 252, « W und R »,
Seit : 324.