يورغن هابرماس ، سيد فلاسفة هذا العصر ، و الشعاع المبهم الذي لم يلاحظه الا القلة من المثقفين . و صاحب “النظرية التواصلية ” ، او “العقل التواصلي” . كثيرة كتابته ، و قليلون الذين تكلموا عنه لاشهاره ، كي يصبح معروفا للمستويات الثقافية المتوسطة ، كغيره من الفلاسفة الذين سبقوه ، و ربما ان عليه ان ينتظر مرور مدة زمنية محددة ، لتختمر العقول بما طرح من افكار رشيقة. و ما زال الكثير من المتحدثين عن الفلسفة و الفلاسفة ، يطرحون اسماء الفلاسفة القدامى ، مثل سقراط ، افلاطون ، ارسطو …. و ربما بعض الفلاسفة الذين سبقوهم ، كلما ارادوا ذكر فيلسوف شهير ، متجاهلين او جاهلين فعلا وجود فيلسوف عظيم بحجم هابرماس . مما يدل على ان العملة الفلسفية الجديدة ، الهابرماسية ، لم تسود السوق الفلسفي العربي بعد . و تجد انك اذا ذكرت فيلسوفا مثل يورغن هابرماس ، يستغرب البعض كيف تعتبر هذا الرجل فيلسوفا ، بينما هو غير معروف تقريبا .
يتميز هابرماس عمن سبقه من الفلاسفة في انه عمل وما زال على انقاذ العقلانية الغربية من براثن العدمية و الضياع ، من خلال نقده لزملاءهم القدامى في مدرسة فرانكفورت ، من امثال هوركهايمر ،ادورنو ،و ماركيوز ، فلاسفة النّظرية النّقدية المعروفين بفلاسفة ما بعد الحداثة ، الذين كفروا بالعقل الحديث ، و بالعقلانية المعاصرة ، و ما سموه ضياع بوصلة الحضارة ، كما نرى في كتاب “كسوف العقل ” لهوركهايمر ، و كتاب “جدلية التنوير ” الذي اشترك في كتابته ادورنو و هوركهايمر معا . و لكنه رفض فكرة ادانة العقل بشكل عام ، اذ وجه نقده للعقل الاداتي او العقل الوظيفي ، و دافع عن الاستخدام الصحيح لعقل الانوار . و كتابه ” الخطاب الفلسفي للحداثة” اتهم اولئك المفكرين من امثال هايدغر ، فوكو، جيل دولوز، جاك ديريدا و جان ليوتار بالعدمية ، لما اظهروا من تشاؤم . و قد اعتبر هابرماس ان فلاسفة ما بعد الحداثة ، أي هايدغر ، فوكو، جيل دولوز، جاك ديريدا و جان ليوتار … قد نقدوا العقلنة دون تمييز ما بين العقل الاداتي المنتج للاستلاب و التشيؤ من ناحية ، و العقل التواصلي الذي يحرر الانسان من العبودية تجاه الطبيعة ، و تجاه البشر.
و مع اعجاب هابرماس الشديد بالفيلسوف كانط - الذي كان نموذجه النقدي حاضرا باستمرار في الاعمال الاولى الكبرى لمنظري مدرسة فرانكفورت - الا انه وجه له النقد في مسائل كثيرة . ومما يجدر ذكره هنا نقده للتناقض في فلسفة كانط بين الموافقة على ايديولوجيا النظام الذي كان يعيشه ( عصر الملك فريدريك الثاني ) ، و المطالبة بالاخلاقيات ! حيث وجد هابرماس ان النسق الكانطي ، يقوم على جملة من الاوهام السياسية، و التي من بينها التفاؤل في البعد الاخلاقي لسياسة المدينة بوصفها تمثل رأيا عاما ، و بثقته في قدرة الفيلسوف على الاقناع و التنوير .
كما انتقد هابرماس الفيلسوف الشهير كارل ماركس . فيقول في كتابه “المعرفة و المصلحة” ، منتقدا فكرة دور ” العمل ” في تطوير الانسان ، فيقول : يدرك ماركس ، في تحليلاته المتضمنة ، تاريخ النوع ضمن مقولات الفاعلية المادية و التجاوز النقدي للايديولوجيات، و ضمن مقولات الفعل الاداتي و البراكسيس المتغير ، و ضمن مقولات العمل و التامل ، في آن واحد . غير ان ماركس يفسر ما يفعل، و ذلك في التصور المحدود للتكون الذاتي للنوع ، فقط من خلال العمل . لقد عرقل هذا المفهوم ماركس، و جعله يفهم اساليب عمله ضمن وجهة نظر ، ثنائية الذات و الموضوع . بكلمات اخرى ، فالاساس الفلسفي لمادية ماركس ، غير كاف من اجل تاسيس تأمل ذاتي فينومينولوجي للمعرفة بعيد عن الشك ، و ان يعمل على الوقاية من التشويه الوضعي لنظرية المعرفة . فهابرماس هنا يرفض الرؤية الميتافيزيقية القائمة على ثنائية الذات – الموضوع . كما يرفض التوجه العلموي الذي يدعي فهم الظواهر الانسانية على طريقة فهم العلوم الطبيعة من فيزياء و كيمياء و تشريح …الخ . كما يرفض ايضا تحليل المجتمعات بطريقة حيادية .
وربما يعتبر البعض أن هابرماس شيوعيا ، أو ليبراليا ، لكن هابرماس ، في الحقيقة ، لا يعول كثيرا على مفهوم “الطبقة ” و الخضوع لمتطلباتها، و لا يعطي للفرد تلك الحرية المطلقة ،التي قد ترتد عكسا على المجتمع من حوله . اذ انه ابتكر تصورا جديدا للديموقراطية ، طرحه في نظريته عن” الفعل التواصلي ” حيث أنه اعطى للمجتمع المدني مفهوما جديدا اسما “الفضاء العام” . و انتقد ما اسماه ب”تشيؤ التواصل” الذي يحصل من خلال التحكم الكبيرالذي يطبقه نظام اقتصادي تقني معين على المجتمع ، كما يحدث في المجتمع الرأسمالي المعاصر . و هكذا فقد انشغل بمسألة فراغ المعنى و تآكل الحرية ، عاملا على خلق المجال العمومي او الفضاء العام الذي يمكن من المناقشة العقلية المؤدية الى التفاهم و الحوار الديموقراطي المؤسس على ادعاءات الصلاحية في مجالات الحقيقة و الدقة و الصدق . و ألح في نظريته التواصلية على أنسنة عمليات العقلنة ، بادخال أبعاد التواصل، و ضبط تحركات الفضاء العمومي الحديثة بمعايير اخلاقية تنبذ وساطات المال و السلطة ، و تفسح فضاءات لا حصر لها للحرية و للفاعلية الانسانية .
الفضاء العمومي ذاك ، و الديموقراطي فعلا ، يجمع بين العقلنة السياسية و المشروعية الديموقراطية .لهذا يجد هابرماس ان الديموقراطية تجد شرطها النهائي في منطق النشاط التواصلي الذي تعمل التداولات الكلية على اعادة بناءه . و التواصل عند هابرماس ، ليس مجرد محادثة ، او تبادل للمعلومات ، بل يتمثل في البعد التداولي للغة ، او هو عبارة عن لغة. وهي حوار بين عقول المتحدثين ، هدفها اقامة علاقات ودية ، او جسور تفاهم ، حول قضايا ذات اهمية تفرض نفسها في الحوار . اللغة هنا ، هي جملة قواعد ، تؤسس للاتصال و التواصل بين الناس . انها بمثابة خزان هائل للتجارب الانسانية ، او أنماط حياة متمايزة . انها لغة تنتج شيئا هاما .
و هذا الانتاج يتجلى في التوافق ، و الاتفاق ، باعتباره الوظيفة الاساسية التي تحرك النشاط اللغوي . ففي الفعل التواصلي تصبح النظرية الاجتماعية ،جوهريا، علاقة اجتماعية حوارية بين شخصين يقومان بالتبادل ، امام ثلاثة انواع من الصحة هي: الحقيقة ، والصواب المعياري، وصدق التعبير عن الذات. ومن هنا تبدأ نظرية التواصل الفعلي المؤدية إلى نشوء علاقة حتمية بين النسق و الحياة . ففيها يشمل العقل عدت مجالات ،مثل ارساء قيم المساواة بين الافراد، و احترام القيم المختلفة ، و احترام القانون وصولا الى بلورة انظمة ديموقراطية و قوانين و دساتير . فالتحرر لا يصير ممكناً إلا حينما يقرر محور الوعي، التفكير والشعور، بحاجتهما المتبادلة الواحد منهما للآخر، إذ أن الحدس في حاجة دائمة إلى فكر، والمفاهيم إلى محتويات. ويتحقق التحرر، الذي هو القدرة على أن يجعل الفرد نفسه بوصفه وحدة اجتماعية، شفافاً، بحيث يتجاوز العقبات التي تقف في طريق تحقيق إمكانية استقلاله. أي يتجلى محققاً حريته.
و هكذا نجد ان رؤية هابرماس للحرية، تدعو الى الحفاظ على وعد “الليبرالية”، والمحتوى اليوتوبي للأيديولوجية البرجوازية (المساواة والحقوق المدنية وحرية التعبير والإعلام ) .
و هنا تبرز اهمية مشروع هابرماس في التواصل الاجتماعي ، و نقد الديموقراطية التمثيلية ، تحرير العلاقة الانسانية التواصلية من قبضة العقل الاداتي ،و التشيؤ ، و الاغتراب ، و السلعية ، بالعودة الى مشروع الحداثة ، بعد تحريره من نير الذاتية و العلموية . كما يستغني هابرماس عن قدرة الذات في افتراض حقيقة مطلقة و غير مشروطة تاريخيا، مهما بلغت درجة بصيرتها ، و عن فلسفة الوعي و استبدالها بفلسفة التذات أي الوعي عبر التواصل ، حيث تخضع فيه الحقيقة للتحليلية اللغوية و ليس لشروط خارجية . و يلعب الحوار دورا مركزيا في بلورة ذلك التواصل ، حيث يكون القرار الاخير و الحكيم هو القرار الذي تم الاتفاق عليه للتو ، بين المتحاورين ، و ليس قرارا جاهزا مسبقا و معدا من قبل لجان او مؤسسات تمثيلية .