التلفزيون والتنشئة الاجتماعية
التلفزيون والتنشئة الاجتماعية
التلفزيون والتنشئة الاجتماعية
د: أديب عقيل(*)
ماذا ترى على شاشة التلفزيون من بشاعات وجرائم وانتهاك أعراض واعتداءات وحرق وتدمير وطرد وتشريد وتهجير؟ وما زالت زوبعة الإمبريالية والصهيونية تقرضنا دولة بعد أخرى أو جميعاً، وهناك من يقول: (إننا بحمد الله ما زلنا بخير، فهذا أمر لا يخصنا وما زال بعيداً عنا)، كفانا دساً لرأسنا في الرمال لأننا عما قريب لن نجد للرأس في التراب ولا في الرمل مكاناً.
الذين يبيعونك أجهزتهم لتسليتك، بعد شرائك أفلامهم الخبيثة المضللة والمخدرة، لتثق بهم وتتخلق بأخلاقهم، فتتبعهم طيعاً دون عقل أو إرادة، ولن نلفت النظر إلى الإهانات التي تكال لأمتنا بعشرات الآلاف يومياً من قبل الإعلام العالمي بشتى أشكاله وألوانه وألاعيبه على الأمم في طول الأرض وعرضها، تلك الإهانات والاتهامات التي يأنف الذليل سماعها.
وثمة من يتمزق قلبه غيظاً ويتفطر كبده أسفاً، وآخرون منا تشمئز نفوسهم من سماعها، والبقية منا يتململون من رؤية الضحايا من الأبرياء والمستضعفين في نشرات الأخبار، ولكن لا ضير عليهم ما دام يبثها ومن ثم سيسليهم عنها وينسيهم شؤمها ويغيب عن آذانهم واحساساتهم المرهفة جداً، لؤم مرتكبي تلك الجرائم العالميين والمحترفين، ما دام سيتبع تلك المناظر المزعجة على شاشة التسلية المنزلية برنامج ومنوعات وفكاهات تنسيهم جميع ما أزعجهم به عدوهم في تلك اللحظات، أو ليس هذا ما يفعله فينا الإعلام الإمبريالي الموجه ضدنا؟، ألا نفهم أي ضيف خطير في بيتنا، هل ما زلنا نعتبره جهاز تسلية وترويح يبرّد ألم الحزن عن نفوسنا المغمومة المهمومة؟ (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً) (1).
فلم يعد الإرهاب الذي ما زالت الأنظار مركزة عليه هو الخطر الأول على الشباب، ودون التقليل من أهميته، ينبغي أن ننتبه إلى انتشار العنف الجنائي (البلطجة) في صفوف الجيل من طلاب المدارس، وإلى انتشار السلبية واللامبالاة والانصراف عن العمل العام وعدم الاهتمام بالسياسة..
التلفزيون أكثر وسائل الإعلام جذباً وتأثيراً بما يقدمه من برامج مشبعة بالضحالة والإسفاف وإشاعة الانحطاط في عقول ووجدان أطفال الأمة، لا سيما المراهقين، ومنها المسرحيات التي تنتقص من هيبة الكبار من آباء ومعلمين (من مسلسلات محلية أو مستوردة التي تحث على العنف والعدوان والضحك والزحلقة والشحلقة بدون سبب).
فصانعة البيتزا لا تملك منظومة قيمية أخلاقية، صحيح أن لديها أفكاراً تكفي لصنع إمبراطورية قوية دعائمها الفكر الحر والاقتصاد القومي وترسانة أسلحة وإعلام جبار، ولكن هذا كله لا يكفي؛ الإمبريالية تريد أن تنتقل من استراتيجية احتواء الحكام إلى استراتيجية أعمق تقوم على احتواء الشعوب، وهذا الأمر في غاية الصعوبة بل والخطورة لا سيما أنه يتعارض مع القيم الأخلاقية لمجتمعات هي أكثر عراقة وأصالة من المجتمعات الغربية.
وإذا وضعنا الظاهرة في إطار العلاقة الصحيحة وتعرفنا على أسبابها وعواملها، ببيئة تفسد من كان في الأصل صالحاً، ننبه إلى نقطة أساسية هي أن الحلول تستنبط من بطون المشكلات، ومن دون ذلك سنظل نلف وندور حول أنفسنا، وتتصاعد الشكوى من جنوح كثرة من الشباب، ولا أمل ولا شيء ممكن إذا انحرفت المقومات الكبرى للتربية والتنشئة، من الأسرة والمدرسة والتلفاز، فاليابان أخذت التقنية والتكنولوجيا الحديثة لكنها لم تتخل عن القيم والمبادئ الأساسية.
فاللجوء إلى الانغلاق على الذات لا يحل المشكلة ولا يحسمها، الأمر الذي يقتضي التفكير وإيجاد المقاربة العلمية المتلازمة مع تغير المشهد الإعلامي بما ينسجم وقيمنا ومعتقداتنا والابتعاد عن قيم السلبية والاستهلاك والأنانية.
التلفزيون ومعوقات التنشئة الاجتماعية
يصعب الحديث عن التلفزيون بصيغة المفرد؛ لأن هناك عدة تلفزيونات ذات أنماط مختلفة من التمويل وذات وظائف وأدوار مختلفة ومضامين متباينة وإمكانيات تكنولوجية متفاوتة، ولكن مهما تعددت التلفزيونات فإنها تؤكد على أن الإنسان لا يتعلم بالعقل فقط بل بالعاطفة والجسد أيضاً؛ فالتلفزيون هو متعة الاستعراض والمشاهدة والفرجة(2).
إن التلفزيون الذي أصبح يحتل مكانة مهيمنة في فضاء الاتصال الجماهيري يوفر اليوم مادة إنتاج ثقافي وفكري غزير، ويشكل ملتقى نقاش يشتد تارة، ويلين تارة أخرى، تتشارك فيه مجموعة من مختلف الاختصاصات والمهن: الساسة والمؤرخون، والكتاب والفنانون والمخرجون، والفلاسفة والسينمائيون، وعلماء الاجتماع والنفس، وعلماء الاقتصاد، والحقوقيون والصحافيون ونقاد الفن، وهنا لا بد من ضبط النشاط التلفزيوني وإخضاعه للسياسة التربوية الشاملة بما يتناسب وعملية التنشئة الاجتماعية.
تطرح العلاقة التربوية بين الأطفال والتلفزيون إشكالية تربوية بالغة الأهمية والتعقيد، وشكلت هذه العلاقة أساساً من محاور البحث العلمي على المستوى التربوي خلال العقود الأخيرة من العصر الذي تعيش فيه؛ فالتلفزيون ينافس اليوم المدرسة والأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية؛ مما أدى إلى إثارة اهتمام المفكرين، وتجادلهم في الآثار السلبية المحتملة التي يمكن أن يتركها التلفزيون في حياة الأطفال النفسية والاجتماعية.
يكاد يجمع الباحثون اليوم على أهمية الدور التربوي الذي يؤديه التلفزيون في حياة الأطفال، وهم يجمعون أيضاً -دون ريب- على جملة من الآثار السلبية التي يتركها التلفزيون في حياة الأطفال النفسية والتربوية(3).
الطفل والتلفزيون
تنتشر الفضائيات وتمنحنا خيارات عديدة إلى حد الحيرة في الاختيار، فالوالدان هما - بشكل عام - الأكثر تأثيراً في تشكيل شخصية الطفل في المراحل الأولى في حياته وهما البنك المعرفي الذي يزود الطفل بالمعلومات، ويرد على تساؤلاته واستفساراته عندما يحاول أن يفهم ما يدور حوله، وينعكس ذلك إيجابياً على الطفل، فالتماس المباشر بالطفل يجعل الأم أكثر إحساساً ودقة ومعرفة بالتغيرات التي تطرأ على طفلها.
أخذت العلاقة بين أفراد الأسرة شكلاً مختصراً بدخول التلفزيون إلى منازلها واتساع المساحة الزمنية المخصصة للبث، وصار بإمكانها، من خلال التحكم عن بعد، التنقل بين القنوات المتعددة كما تشاء، وعاشت في نطاق ضيق، وأصبح هذا الضيف يفرض نفسه على سهراتنا العائلية الحميمية وأصبح التلفزيون ثالث الأبوين، وربما أولهم، بالنسبة للطفل، ومع الأسف، فإن الأبوين كثيراً ما يدفعان الأطفال في هذا الاتجاه تهرباً من المسؤولية الملقاة على عاتقهما، أو لإلهائهم وضمان هدوئهم؛ وبذلك تضاف إلى هذا الجهاز وظيفة أخرى هي وظيفة جليسة الأطفال (4).
يقضي أطفالنا ساعات طويلة أمام الشاشة في مرحلة الطفولة المبكرة وفي المرحلة الابتدائية والثانوية، والتسلية هي الدافع الأقوى لمشاهدة الطفل للتلفزيون، والطفل يكتسب كل شيء من خلال الترفيه، الأمر الذي يؤكد أن الطفل، وعلى الرغم من أنه لا ينظر إلى التلفزيون مصدراً للمعلومات والتوجيه والتعليم، وعلى الرغم من أنه لا يشاهد التلفزيون طلباً للمعرفة، ولا يجلس أمام التلفزيون وهو يقصد التعلم، وكذلك لا ينظر إلى البرامج التعليمية في التلفزيون وكأنها اعتداء صريح على وظيفة التلفزيون الرئيسية وهي الترفيه، نقول وعلى الرغم من ذلك كله، فإن البحوث الإعلامية تؤكد أن الأطفال يتعلمون من برامج التسلية والترفيه أكثر مما يتعلمون من البرامج التعليمية(5).
وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى التدهور القيمي في المحطات التلفزيونية بما تعرضه من أغان لا تعبر عن أخلاقياتنا وقيمنا، بالإضافة إلى إضاعة الوقت والتأثر بمشاهد متباينة (من العنف إلى الخيال إلى الطبيعة إلى الحيوان إلى عالم الفضاء)، برامج تهجم وتؤثر على قيمنا المعرفية والخلقية أو التربوية؛ برامج للضحك، أو برامج للمتعة.. لا يراعون الفروق في الجنس أو العمر.. برامج تبث في المدارس والمشافي والملاهي والسجون ومحطات النقل العام...الخ.
وسيلة إعلامية ساحرة
الأطفال منذ الشهور الأولى وهم بصحبة التلفاز، حيث الطفل ينمو ويتطور إدراكه ويتأثر مستوى أدائه من خلال التلفاز.
لا شك في أن هناك لفتات مضيئة في إعلامنا، وهذا ليس تفضلاً من الإعلام علينا، بل هو واجب عليه، وهذا هو دوره الريادي الذي يجب أن يقوم به، وعلى الرغم من كل هذه اللفتات المضيئة يجب أن نقول للإعلام: أنت تخطئ عندما تفتح مساحة ولو كانت ضيقة لبعض المسلسلات الأجنبية والمعدة لتناسب أذواق وقيم المجتمعات الغربية، فيستوردها إعلامنا ويبثها في مجتمعنا الشرقي فتبدو غريبة أو تشعر المشاهد لدينا بإحباط من نوع خاص.
إن المسألة أخطر بكثير من مسألة ملء ساعات البث الاضطرارية، ومن الواجب على المشرف الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات بثه بما هو مفيد، أن يتنحى جانباً بدلاً من أن يهدم أجيالاً كاملة أو يهدم أمة بأجمعها.
إن صانع القرار محكوم بمرجعيته الثقافية والفكرية في انتقاء مادته الإعلامية التي يتوجه بها للجمهور، وعليه الالتزام بحدود القيم الإنسانية والاجتماعية السائدة في المجتمع،وعليه أن يحترم عقل الإنسان وثقافته، فنحن أمة لها مرجعيتها الثقافية. إن كل مجتمع من المجتمعات ينطلق من فلسفة معينة، المجتمع الأمريكي ينطلق من فلسفات (براجماتية)، حيث ينظر للمنفعة المادية ولا ينظر لسواها حتى لو حطم القيم والمعايير في الحياة، ولكن فلسفتنا تختلف عنها فلدينا ثوابت معينة يجب ألا نخرج عنها. إن هذه الثوابت في الحقيقة تبقى ثابتة لا تتغير؛ الصدق هو الصدق، والكذب هو الكذب، والغش هو الغش والخداع هو الخداع، فالإعلام الجيد يسهم في خلق أمة جيدة انطلاقاً من هذا المعيار القيمي؛ فلم نعد بحاجة إلى ما يعرضه التلفاز من حكايات خرافية غير هادفة، وهذه كلها تخطاها الزمن، ومسؤولية القائمين على أجهزة الإعلام واسعة بمقدار سعة هذه الأمة، أي بمقدار ما تصل إليه هذه الرسالة الإعلامية.
التلفاز أخذ يلعب الدور الأكبر في التنشئة الاجتماعية، ومحطات التلفزة تبث برامجها خلال ساعات الليل والنهار، وتتسارع لتقدم الأبهى والأروع، وأصبح التلفاز هو العامل الرئيسي الأول المنافس للأسرة والمدرسة، إنه يقدم الموسيقى والرياضة والفكاهة.. إلخ، لذلك علينا الاهتمام بالبرامج الموجهة إلى الأطفال، وتخصيص ساعات محدودة لمشاهدة التلفاز وأية برامج يشاهدها الطفل والتفريق بين ما يعرض للصغار وما يعرض للكبار، ولعل الإعلاميين معنيون بالسعي للارتقاء بهذه الأمة عن طريق هذه الآلة الإعلامية، وأن يكونوا مع هذه الأمة في ضميرها وتوجهاتها وفكرها. ومن المفيد هنا أن تتعاون المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كافة في سبيل تكريس المعاني الخيرة وتعميقها.