تنتشر الفضائيات وتمنحنا خيارات عديدة إلى حد الحيرة في الاختيار، فالوالدان هما - بشكل عام - الأكثر تأثيراً في تشكيل شخصية الطفل في المراحل الأولى في حياته وهما البنك المعرفي الذي يزود الطفل بالمعلومات، ويرد على تساؤلاته واستفساراته عندما يحاول أن يفهم ما يدور حوله، وينعكس ذلك إيجابياً على الطفل، فالتماس المباشر بالطفل يجعل الأم أكثر إحساساً ودقة ومعرفة بالتغيرات التي تطرأ على طفلها.
أخذت العلاقة بين أفراد الأسرة شكلاً مختصراً بدخول التلفزيون إلى منازلها واتساع المساحة الزمنية المخصصة للبث، وصار بإمكانها، من خلال التحكم عن بعد، التنقل بين القنوات المتعددة كما تشاء، وعاشت في نطاق ضيق، وأصبح هذا الضيف يفرض نفسه على سهراتنا العائلية الحميمية وأصبح التلفزيون ثالث الأبوين، وربما أولهم، بالنسبة للطفل، ومع الأسف، فإن الأبوين كثيراً ما يدفعان الأطفال في هذا الاتجاه تهرباً من المسؤولية الملقاة على عاتقهما، أو لإلهائهم وضمان هدوئهم؛ وبذلك تضاف إلى هذا الجهاز وظيفة أخرى هي وظيفة جليسة الأطفال (4).
يقضي أطفالنا ساعات طويلة أمام الشاشة في مرحلة الطفولة المبكرة وفي المرحلة الابتدائية والثانوية، والتسلية هي الدافع الأقوى لمشاهدة الطفل للتلفزيون، والطفل يكتسب كل شيء من خلال الترفيه، الأمر الذي يؤكد أن الطفل، وعلى الرغم من أنه لا ينظر إلى التلفزيون مصدراً للمعلومات والتوجيه والتعليم، وعلى الرغم من أنه لا يشاهد التلفزيون طلباً للمعرفة، ولا يجلس أمام التلفزيون وهو يقصد التعلم، وكذلك لا ينظر إلى البرامج التعليمية في التلفزيون وكأنها اعتداء صريح على وظيفة التلفزيون الرئيسية وهي الترفيه، نقول وعلى الرغم من ذلك كله، فإن البحوث الإعلامية تؤكد أن الأطفال يتعلمون من برامج التسلية والترفيه أكثر مما يتعلمون من البرامج التعليمية(5).
وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى التدهور القيمي في المحطات التلفزيونية بما تعرضه من أغان لا تعبر عن أخلاقياتنا وقيمنا، بالإضافة إلى إضاعة الوقت والتأثر بمشاهد متباينة (من العنف إلى الخيال إلى الطبيعة إلى الحيوان إلى عالم الفضاء)، برامج تهجم وتؤثر على قيمنا المعرفية والخلقية أو التربوية؛ برامج للضحك، أو برامج للمتعة.. لا يراعون الفروق في الجنس أو العمر.. برامج تبث في المدارس والمشافي والملاهي والسجون ومحطات النقل العام...الخ.
وسيلة إعلامية ساحرة
الأطفال منذ الشهور الأولى وهم بصحبة التلفاز، حيث الطفل ينمو ويتطور إدراكه ويتأثر مستوى أدائه من خلال التلفاز.
لا شك في أن هناك لفتات مضيئة في إعلامنا، وهذا ليس تفضلاً من الإعلام علينا، بل هو واجب عليه، وهذا هو دوره الريادي الذي يجب أن يقوم به، وعلى الرغم من كل هذه اللفتات المضيئة يجب أن نقول للإعلام: أنت تخطئ عندما تفتح مساحة ولو كانت ضيقة لبعض المسلسلات الأجنبية والمعدة لتناسب أذواق وقيم المجتمعات الغربية، فيستوردها إعلامنا ويبثها في مجتمعنا الشرقي فتبدو غريبة أو تشعر المشاهد لدينا بإحباط من نوع خاص.
إن المسألة أخطر بكثير من مسألة ملء ساعات البث الاضطرارية، ومن الواجب على المشرف الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات بثه بما هو مفيد، أن يتنحى جانباً بدلاً من أن يهدم أجيالاً كاملة أو يهدم أمة بأجمعها.
إن صانع القرار محكوم بمرجعيته الثقافية والفكرية في انتقاء مادته الإعلامية التي يتوجه بها للجمهور، وعليه الالتزام بحدود القيم الإنسانية والاجتماعية السائدة في المجتمع،وعليه أن يحترم عقل الإنسان وثقافته، فنحن أمة لها مرجعيتها الثقافية. إن كل مجتمع من المجتمعات ينطلق من فلسفة معينة، المجتمع الأمريكي ينطلق من فلسفات (براجماتية)، حيث ينظر للمنفعة المادية ولا ينظر لسواها حتى لو حطم القيم والمعايير في الحياة، ولكن فلسفتنا تختلف عنها فلدينا ثوابت معينة يجب ألا نخرج عنها. إن هذه الثوابت في الحقيقة تبقى ثابتة لا تتغير؛ الصدق هو الصدق، والكذب هو الكذب، والغش هو الغش والخداع هو الخداع، فالإعلام الجيد يسهم في خلق أمة جيدة انطلاقاً من هذا المعيار القيمي؛ فلم نعد بحاجة إلى ما يعرضه التلفاز من حكايات خرافية غير هادفة، وهذه كلها تخطاها الزمن، ومسؤولية القائمين على أجهزة الإعلام واسعة بمقدار سعة هذه الأمة، أي بمقدار ما تصل إليه هذه الرسالة الإعلامية.
التلفاز أخذ يلعب الدور الأكبر في التنشئة الاجتماعية، ومحطات التلفزة تبث برامجها خلال ساعات الليل والنهار، وتتسارع لتقدم الأبهى والأروع، وأصبح التلفاز هو العامل الرئيسي الأول المنافس للأسرة والمدرسة، إنه يقدم الموسيقى والرياضة والفكاهة.. إلخ، لذلك علينا الاهتمام بالبرامج الموجهة إلى الأطفال، وتخصيص ساعات محدودة لمشاهدة التلفاز وأية برامج يشاهدها الطفل والتفريق بين ما يعرض للصغار وما يعرض للكبار، ولعل الإعلاميين معنيون بالسعي للارتقاء بهذه الأمة عن طريق هذه الآلة الإعلامية، وأن يكونوا مع هذه الأمة في ضميرها وتوجهاتها وفكرها. ومن المفيد هنا أن تتعاون المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كافة في سبيل تكريس المعاني الخيرة وتعميقها.
موقف الأسرة من التلفزيون
هناك من يعد التلفزيون أداة تربوية تعليمية، وأنه يزيد من قدرات أطفالهم فكرياً وثقافياً، ويرون أنه يكسب الأطفال عادات وقيماً مرغوباً بها، ويذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن التلفزيون يشكل رابطة أسرية هامة، وأنه لا يشكل خطراً يهدد حياة الأسرة، كما ترى بعض الأمهات أن التلفزيون يشكل عامل تنظيم داخل الأسرة، فهو أحد أساليب الضبط والتوجيه التربوي داخل الأسرة، وفي ذلك يقول الدكتور مصطفى أحمد تركي: (إن الأسر تنازلت عن بعض أدوارها في التنشئة الاجتماعية للتلفزيون)، لكن بعض الناس ينظرون إلى التلفزيون بوصفه أداة استلاب وقهر ثقافي وتربوي، وهم يركزون على مخاطر البرامج التلفزيونية وعلى آثارها السلبية في عقول الأطفال (6).
وثمة مضامين إعلامية تريد من الشباب أن يكون سياسياً يستهلك الأطروحات الأيديولوجية والسياسية المطروحة عليه، في حين تسعى مضامين أخرى إلى أن يكون كائناً استهلاكياً مجرداً في زمن الاستهلاك اللامعقول. تقوم البرامج الموجهة بقتل عقل المشاهد بمواد لا فائدة منها لتجعله في النهاية إنساناً فارغاً وتحاول أن تتحكم في تصوراته ومعتقداته ليكون فرداً سلبياً ومطواعاً وقابلاً للتوجيه وفق غايات الإمبراطورية العالمية!.
وفي هذا المجال لا بد من تدخل الأهل من أجل ضبط مشاهدة أطفالهم للتلفزيون مع تقدير ملكات الطفل ورغباته بما يتناسب ونوعية البرامج وخصوصيتها.
وهنا نؤكد على احترام رأي الطفل، ولكن بتحديد وقت المشاهدة وعدم تركه لساعات طويلة أمام التلفزيون؛ وذلك عن طريق الحوار والمناقشة، والابتعاد عن القسر التعسفي، وجعل الحوار عفوياً طبيعياً، ومنعهم من مشاهدة أفلام العنف؛ فالتعرض المتكرر لوسائل الإعلام العنيفة يعلم العنف، ويحفز من لديهم الاستعداد للتصرف بعدوانية.
وربما كانت معدلات جرائم القتل أصدق مقياس للعنف في العالم، فعلى سبيل المثال تشير دراسة أجريت على أطفال المدارس في الولايات المتحدة إلى أن التعرض المتكرر لبرامج التلفزيون العنيفة يزيد من احتمال أن يسلك الأطفال سلوكاً أكثر عدوانية، إلا أن التقاليد الثقافية القوية في اليابان المضادة لتعبيرات العدوان الخارجي قد تكبح بالفعل جماح العنف الذي يتم تعلمه من خلال وسائل الإعلام (7).
إن الطفل الذي يظل وحيداً ولمدة طويلة يشاهد التلفزيون، ولا سيما البرامج العنيفة، لن يكون طفلاً سعيداً، وهذا كله يتوقف على فعالية الأهل ومدى مراقبتهم وتوجيههم.
فلا بد من سيطرة الأهل بالتفاهم مع الأطفال على التلفزيون، ومساعدتهم في فهم واستيعاب ومن ثم الاستفادة مما يشاهدونه.
ويمكن القول بشكل عام بأن التلفزة تتحكم بطريقتين:
- الأولى رسمية وتتصل بقيم التنشئة الاجتماعية والسياسية وبمبادئ المعتقد.
- الثانية غير رسمية وتوجه القيم الجمالية والذهنية والسلوكية واللباسية وحتى كيفية التعامل مع الأقران (
.
فقد غدت التلفزة اليوم بلا منازع، أقوى وسيلة إعلامية ذات قدرة فائقة على النفاذ إلى كل البيوت، فهي قادرة على تشكيل الذهنيات وإعادة إنتاج المجتمع والتحكم في توجهاته الراهنة والمستقبلية.