الصحافة هل تصلح مصدرًا للتاريخ?
تعد مسألة الوصول إلى مصادر المعلومات قضية أساسية في البحث العلمي وتحتل أهمية أصالة المصادر مقدمة مهمات الباحث.
كانت وثائق القوى المتنفذة والسلطات في العالم العربي في السابق هي مصدر المعلومات, فالذي يريد أن يبحث في تاريخ الدولة العثمانية عليه أن يرجع إلى وثائقها الرسمية, والذي يريد أن يبحث في تاريخ الاستعمار عليه أن يرجع إلى مصادر السلطات الاستعمارية التي كانت تحتكر المعلومات وغير ذلك من الأمثلة, ومع إقرارنا بأهمية ذلك المصدر الذي لا بديل عنه في كثير عن الأحيان, إلا أن الوثائق نفسها رسمية, وعبرت عن موقف ورأي السلطات.
وتظهر المشكلة عندما يكون الشك في الوثائق الرسمية ضمن منهج الباحثين الثقات, فالسلطات الرسمية قد كتبت وثائق الأحداث والوقائع التي كانت تصب في مصلحتها, كما أن معلومات مهمة قد تم تغييبها أو إخفاؤها أو تدميرها, وأن الذي يكشف منها لاحقًا ليس كل الذي حدث في الماضي. أما اليوم ومع ثورة المعلومات, وتطور وسائل الإعلام تقنيًا وانتشارًا, فإن المعلومات أصبحت ميسرة للجميع, كما أن السلطات لا تستطيع أن تحجب أي معلومات أو تقوم بتزوير في كتابة التاريخ في عصر الشفافية, فالمعلومات متوافرة للجميع سواء عن طريق الإنترنت أو الصحافة أو البث الفضائي إلخ...
إن المشكلة التي تواجه الباحثين عند تعاملهم مع مصادر المعلومات الصحفية تكمن في مدى دقة وصدقية المعلومات, ومدى التضخيم, والمبالغة فيها حيث تتدخل اعتبارات سياسية وأيديولوجية واجتماعية في صياغة المعلومات ونشرها, لكن هذا الأمر يمكن معالجته من قبل الباحث الحصيف, ونظرته العلمية الموضوعية الثاقبة وأمانته العلمية للتحقق من المعلومات التي يتعامل معها, ولكن المشكلة الأخرى هي أن بعض الباحثين لدوافع شخصية أو سياسية يعمدون إلى تزييف بعض الحقائق التاريخية.
الصحافة وثورة المعلومات
لقد توافرت للباحث اليوم وسائل ومعلومات لم يكن يستطيع الحصول عليها في الماضي بسهولة, فهل كان بالإمكان الحصول على معلومات عن الإحصاء السكاني في الماضي وهو مهم في تحليل وتقييم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية? هي اليوم متوافرة ومنشورة ويستطيع الباحثون الاستفادة منها في دراساتهم, لقد كان ذلك ضمن أسرار بعض الدول إلى وقت قريب.
إنه من الصعب اليوم لتوافر الوسائل الإعلامية المعاصرة والتقدم العلمي إعطاء معلومات خاطئة أو تغييب بعضها لأي سبب كان, فسرعان ما تتوافر المعلومة للوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها, وأصبح من المستحيل السيطرة عليها والتحكم فيها, فالوثائق السرية بمراكز بعض الحكومات لم تعد كذلك, والدول التي حاولت منع الأطباق اللاقطة للبث الفضائي فشلت في مساعيها تلك. وإذا كان في هذا التطور فائدة وإيجابية, فمن دون شك هناك سلبيات كثيرة, فأسرار الدول أصبحت مكشوفة, وتعاني بعضها معضلات أمنية, كما أن اختراقات قد حدثت لمجالات حسّاسة ومهمة تتعلق بالأمن الوطني لعدد من الدول نتيجة هذا التطور الهائل الذي تشهده وسائل الإعلام المعاصرة.
أهمية المعلومات الصحفية
وعندما نتطرق إلى أهمية المعلومات التي تتناولها الصحافة يمكننا الجزم بأنه لا يستطيع أي باحث تاريخي أو اجتماعي أو اقتصادي أو غيرهم أن يتجنب الرجوع للمادة المنشورة في الصحافة عند بحثه في قضية من القضايا المعاصرة. إن معرفة طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلد ما في مرحلة ما يمكن الوصول إليها عن طريق ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى من معلومات في الوقت الحاضر. فالصحافة لا تقتصر على مجال دون آخر, فهي مرآة لما يجري في الواقع من جهة, كما أن هناك صحافة رأي وتحليل حول وقائع كثيرة ومهمة حدثت وتحدث في الواقع من جهة أخرى. وهل يحتاج الأمر إلى أدلة وأمثلة لنؤكد ذلك? يكفي أن نلقي نظرة على ما نشرته الصحافة عن أحداث معينة خلال فترة معينة سواء كانت تلك الأحداث سياسية أم اقتصادية أم غيرها لنتأكد من أهمية وخطورة المعلومات التي نشرت خاصة في الماضي القريب. ويمكن القول أيضًا إن هناك سياسات واستراتيجيات قد سقطت وأخرى شيدت بناء على معلومات نشرتها الصحافة, فالصحافة شاهد عيان على ما يحدث, ومن خلالها يمكن قياس توجهات الناس ونبض الشارع والتعرف على مشكلات المجتمع.
أما عندما نتوقف عند أثر نشر الكثير من المعلومات في الصحافة أو غيرها من الوسائل الإعلامية نرى أن حجم ونوعية المعلومات المنشورة يتوقف على هامش الحرية المتاح لها, والمعلومات المنشورة تحتاج إلى غربلة ونقد, لكن دون شك فيها الكثير من الحقيقة, فقط تحتاج المسألة إلى وعي, وقدرة على الفرز لمعرفة الحقيقة, لكن ليس هناك أدنى شك في أننا اليوم نعيش ثورة معلوماتية, يسرتها وسائل الاعلام المتطورة وسهولة الوصول إليها, وتهيأت لدينا معلومات هائلة يصعب أحيانًا على طاقة الإنسان والباحث خاصة متابعتها, لذا تفرض عليه الانتقاء والتركيز على المهم, لا بل أحيانًا يحتاج الأمر إلى المقدرة على الالتقاط لما يحتاج إليه الباحث مما يحيط به من أطنان المعلومات المقروءة والمسموعة. إن الأمر لا يقف عند ذلك الحد, بل ينبئ عن تطور أكثر وأعمق في وسائل الإعلام في المستقبل يمكن معرفة ذلك من الالتفات إلى الماضي القريب, ففي فترة وجيزة عشنا سرعة هائلة في تطور وتوافر وسائل الاعلام مثل الكمبيوتر والبث الفضائي وغيرهما, وتطورًا كبيرًا في مجال الصحافة.
إن الذي حدث ويحدث في هذا المجال لم نعهده وغير مسبوق في التاريخ, وقبل فترة وجيزة كان الباحث يعاني في الحصول على مصدر أو مرجع أساسي لبحثه, ويضطر إلى السفر وصرف مبالغ كبيرة من الأموال للوصول إلى المعلومة أو مرجعها, أما اليوم فهي تأتيه ولا يذهب إليها, فما عليه إلا إدارة زر الإنترنت أو قراءة صحيفة رصينة, أو مشاهدة البث الفضائي ليحصل على الكثير مما يريد من معلومات, الأمر الذي أصبح معه الذي لا يستخدم الكمبيوتر شخصًا أميّا حتى لو حمل أعلى الشهادات لا يستطيع أن يواكب ما يجري أو يستوعب تطور الحياة بوتيرتها السريعة والمتقدمة جدًا.
وبالعودة إلى موضوع الصحافة فقد دخلت قاموس المصادر لدى الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية وحتى العلمية البحتة والتطبيقية, وأصبح الباحثون لا يستطيعون الاستغناء عمّا تحتويه الصحافة من معلومات, لا بل سيكون هناك نقص حقيقي في أي دراسة في ميادين معينة فيما يتعلق بالحاضر والماضي القريب لا نستقي جزءًا أساسيًا من معلوماتها من الصحافة بعد التحقق من حدوثها وأهميتها لموضوع الدراسة, ومدى صحتها وقربها من الحقيقة.
ديوان الحياة اليومية
لقد اعتقد البعض أن اعتماد بعض الدراسات في جل معلوماتها على الصحافة كمصدر أساسي عيب, أو أنها لا ترقى إلى المستوى العلمي المطلوب, إذ لابد من الاعتماد على المصادر الأخرى الأكثر رصانة! إن أصحاب هذا المنهج التقليدي يجب أن يدركوا أن الصحافة تحوي وثائق ومعلومات قد لا تتوافر في غيرها من المصادر, كما أنها المصدر الفوري للحدث, ويمكن الاعتماد على معلوماتها بشرط أن تكون صحافة جيدة وجادة وأمينة في نقل المعلومة.
وهل يحتاج الأمر إلى دليل لإثبات أهمية المعلومات التي تتناولها الصحافة لصاحب القرار السياسي, أو للباحثين, وكذلك للرأي العام في أي مجتمع? لقد كشفت الصحافة - على سبيل المثال - بالأرقام وثائق تتعلق بسرقات المال العام, وتزوير وثائق تتعلق بمساحات شاسعة من الأرض في عدد من الدول العربية خلال العقدين الماضيين, كما كشفت عن هدر لإمكانات دول أضاعت فرصًا تاريخية على شعوبها. لقد كان للنشر الصحفي ولايزال دور في توفير معلومات مهمة عن تجارة السلاح في العالم العربي, وعن تجارة المخدرات أو عن تدمير البيئة, وعن إنجازات حضارية أيضًا. وقد قامت بعض الصحف في العالم العربي بنشر معلومات كان لها أثرها في تصحيح مسارات خاطئة في سياسات عدد من الدول.
لا نريد أن نذكر صحفًا معينة, وتفاصيل عن وقائع بعينها حتى لا نقع في المحذور المحظور, بل نترك للقارئ مهمة التقصي حول هذه الأمور عن طريق إدارة قرص الكمبيوتر على مواقع عدد من الصحف العربية وغيرها على الإنترنت ليطلع على معلومات مذهلة عن أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, من هنا كانت ولاتزال وستبقى الصحافة مصدرًا مهمًا للمعلومات عن أوضاعنا, وقد تعاظم دورها منذ الستينيات من القرن العشرين, وسيزداد ذلك الدور في المستقبل.
دعوة أخيرة
إن الصحافة اليوم بتطورها وانتشارها تحمل كمّا ونوعًا هائلاً من المعلومات تستقيها من الواقع ومن مصادر عدة, وتعتبر شاهد عيان على ما يحدث, وإذا كان الباحث العلمي يضع الصحافة في الغالب ضمن المصادر الثانوية لدراساته, وعليه اليوم أن يعيد النظر لتكون الصحافة مصدرًا أساسيًا للمعلومات خاصة فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر.
إن ما تنشره الصحف فيه الكثير من المبالغة وتحكمه في بعض الأحيان اعتبارات سياسية واجتماعية وأيديولوجية, ويعتمد الأمر على مدى وعي الباحث في تحري الدقة وفرز المعلومات بهدف الوصول إلى المعلومة الأقرب إلى الحقيقة.
لقد كان الباحث في السابق يعاني الكثير في الوصول إلى المعلومات, وبخاصة في مجال التاريخ ذلك أن أحداثه لم يعايشها ويشاهدها, فهو يستقيها من الوثائق أو من كتابات الآخرين, أما اليوم وبتطور وسائل الإعلام وعصر ثورة المعلومات لم تعد تلك معضلة حيث يسرت على الباحثين الكثير من الجهد والوقت والمال.
يبدو واضحًا ونحن نعيش هذه المرحلة أن الكم الهائل من المعلومات يجعل الباحث غير قادر على متابعة وملاحقة كل التفاصيل المنشورة مهما كانت قدراته العقلية والبحثية, لذا عليه أن ينتقي ويختار, أو تتوافر لديه موهبة الاستشعار لالتقاط ما هو مهم, لكن علينا أن نؤكد أن التأني والدقة والتحليل الهادئ والرصين مطلوب في هذا الزمن زمن السرعة في وتيرة الحياة التي لا تدع الإنسان يلتقط أنفاسه, وعلينا كباحثين أن نبحث عن اللؤلؤ الجيد والثمين وسط الكم الهائل من المحار, ونبحث عن الذهب الخالص وسط جبال الأتربة والصخور. وستكون الصحافة مصدرًا مهمًا للمعلومات يستفيد منها الباحثون في التاريخ المعاصر, وتدخل قائمة مصادرنا الأساسية.
عبدالمالك خلف التميمي