الإعلام بين حرية التعبير والعدائية
كفاح محمود كريم
يفرز النظام السياسي والاجتماعي أنماطا من الإعلام الذي يعبر عن منظومة العلاقات الاجتماعية والسياسية والسايكولوجية السائدة في أي دولة أو مجتمع ما في العالم حيث تبرز مدرستان مختلفتان تماما في الأداء الإعلامي مع الرأي الآخر أو في مواجهة تحديات التحول الديمقراطي اجتماعيا وسياسيا حيث يتبلور شكلان في السلوك الإعلامي والتعبير عن الرأي أولهما كون الإعلام أداة من أدوات البناء والتقويم ونقل الحقيقة ومن ثم وسيلة للتعبير عن الرأي والرأي الآخر بما يكرس وحدة المجتمع ويقارب الاختلاف في محطات الثوابت المشتركة والمصالح العليا، وثانيهما الذي يعتمد امتلاك الحقيقة الكاملة والرأي الواحد وما ينتج من ذلك من شمولية وتهميش وإقصاء للآخرين والعداء لكل من يختلف في الرأي والتعبير.
ومنذ انتشار وسائل الاتصال السريعة وثورة المعلومات وأدواتها وصولا إلى العولمة التي نعيشها الآن هناك صراع حاد بين التوجهين الإعلاميين وفلسفتيهما في النقد والتعبير عن الرأي، فبينما تصر الأولى على حرية الرأي والتعبير بأسلوب خلاق وموجه معتبرة وسيلة الإعلام واحدة من الآليات المؤثرة في بناء المجتمعات وتحضرها ومراقبة الحاكمين في أداء أعمالهم بما يجعلها الحارس الأمين للأكثرية، نرى الأخرى تمارس أسلوبا سلبيا وعدائيا مع الآخر في التعبير عن الرأي بل وإلغائه لحساب النظام الحاكم، وفي منطقتنا التي تتميز بأنظمتها المغلقة والشمولية سواء في الهيكل السياسي للدولة أو في البناء والتركيب الاجتماعي حيث تنتج أنماطا كثيرة من الإعلام الذي يتحمل كثير مما حصل ويحصل الآن في المجتمع العراقي عبر أجيال كانت تتلقى جرعات إعلامية كرست سلوكيات سلبية وعدائية عنيفة تسببت لعقود طويلة في تهميش الآخر وإلغائه.
وحينما انزاح النظام السياسي العراقي إثر احتلال البلاد في نيسان 2003م لم يصاحبه تطور بنفس الاتجاه والقوة على المستوى الاجتماعي ونمط التعاطي النقدي البناء، فقد خلفت سنوات طويلة من الحكم الدكتاتوري المستبد في معظم بلدان الشرق الأوسط منذ قيام دولها اثر توقيع اتفاقية سايكس بيكو في مطلع القرن الماضي مجتمعات اعتادت الهروب إلى الدهاليز ووراء الأسوار خوفا من بطش تلك الأنظمة الدكتاتورية وممارسة النقد والتعبير عن الرأي همسا وايماءا، وإذا ما استثنينا الحركات السياسية المعارضة والتي في معظمها أحزابا وحركات تحرر كانت تستخدم النشريات والدوريات وأجهزة الراديو إضافة إلى العمل المسلح في معارضتها لتلك الأنظمة فقد كان الأسلوب الشعبي للتعبير عن الرأي باستخدام أسلوب الدعايات وتناقلها أو ربما كتابة ذلك النقد وتلك الهواجس على جدران دورات المياه أو على الجدران الخلفية في الزوايا المظلمة ضد رأس النظام أو حزبه كما كان يحصل هنا في العراق لعشرات السنين أو ربما أكثر في التعبير عن حالات الرفض والشعور بالظلم والإحباط في ظل نظام إرهابي لا يعرف إلا الموت عقابا لمن يخالفه الرأي، وقد استمرت هذه الأنماط من النقد والمقاومة السلبية لعقود كثيرة وربما ما زالت هي الوحيدة المستخدمة في بلدان مخنوقة بنظمها الشمولية وحكوماتها البوليسية الجاثمة على أنفاس تلك الشعوب، مما ولد نوعا من التعبير عن الرأي تسوده السلبية والعدائية إلى حد كبير حتى مع وجود أي انجازات مهمة للنظام السياسي كما كان في العراق الذي ابتلى منذ تأسيسه بالعديد من الحروب العنصرية والعشوائية والكوارث التي مرت بهذه البلاد التي كانت تسمى بأرض ما بين النهرين أو بلاد الرافدين حيث صراعات الدول والإمبراطوريات ومئات الحروب وملايين الضحايا التي أنتجت سلوكا بكائيا شاكيا حزينا في مجمل تفاصيل حياته حتى أصبحت معظم أغانيه ذات مسحة حزينة باكية شاكية لحد يومنا هذا.
وفي هذا الصدد يقول الأديب والكاتب عبدالستار نورعلي :
( كلما فتحنا قناة فضائية عراقية على نشرة أخبار أو لقاءات مع الناس نسمع شكاوى من كل شيء، ومن كل حدب وصوب، من الفقير والمسكين والمحتاج إلى المرفه النائم في ريش الحمام والمولدات الكهربائية والمائية الضخام. كما نصغي إلى بكاء مرير يُقطّع القلب ويثير الرثاء! ونشاهد وجوهاً يملأها الحزن والأسى واللوعة، عن صدقٍ أو عن تمثيل، وتتصدّع رؤوسنا باستجداءات مخزيةٍ لا تنتهي، عن حقّ أو عن باطل.
إنّ بعض هذه الشكاوى والبكاء نابع من معاناة حقيقية، وبعضها ادعاءات لغاية في نفس يعقوب، سياسيةٍ كتشويه سمعة الدولة، أم بحثٍ عن مصلحةٍ ذاتيةٍ كمثل مكرمة مادية من أحد المسؤولين أو أحد المتبرعين من أصحاب السلطة والمال الباحثين عن الأجر والثواب أو اللاهثين خلف الشهرة والظهور بمظهر التقي الورع السخي الكريم المهموم بمعاناة الفقراء والمحتاجين! أو المساعدة من الفضائية المعنية لدعاية خاصة لها مثل معالجة المرضى والمعاقين والمشوهين، وتقديم الهبات المالية بالدولارات الأمريكية، أو الأموال العربية التي تنهال مساعدات، بالتأكيد ليست لوجه الله!
ومن سمات الفرد العراقي المتأصلة في عمق النفس والتاريخ هو الحزن المرافق حتى في الأغاني التي تمتاز بمسحة الشجى والألم . ولذا حاول البعض تلمس الأسباب الكامنة وراء هذا الحزن والتشكي. )
وقد بدت الأمور أكثر وضوحا حينما زال النظام السابق اثر حرب مدمرة أدت إلى احتلال العراق وانهيار نظام الدولة الدكتاتورية وظهور عشرات الأحزاب والجمعيات والمنظمات يقابلها المئات من المطبوعات اليومية والأسبوعية ومثلها من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بشكل منفلت يعبر عن كبت كبير تعرض له العراقيون طيلة أكثر من نصف قرن، فلم تك كثير من وسائل التعبير عن الرأي التي انفلتت بشكل عشوائي وفوضوي وبالذات من الحركات التي تأسست بعيد انهيار وسقوط النظام السابق تنطلق وفق أسس وبرامج تربوية أو مهنية متعارف عليها بل كانت في معظمها تعبر عن اراء شخصية أو فئوية ضيقة لا تمت بعملية النقد والبناء بأي صلة لما امتازت به من سلبية وفضائحية ودعائية أكثر من كونها نقدية وبناءة، وهذا ما فعلته معظم وسائل الإعلام العربية في تعاملها السلبي مع القضية العراقية بما خلق جو من التوتر الشعبي في علاقته مع معظم دول المنطقة.
وإذا ما استثنينا القلة القليلة من وسائل الإعلام الحالية في نهجها الناقد والبناء الذي يعتمد حرية التعبير في حدودها الأخلاقية العليا التي تنشد عملية التقويم والتقوية، فان معظم الوسائل الأخرى تنتهج منهجا دعائيا متشكيا مليئا بالسلبية والعدائية منذ سقوط النظام السابق وحتى يومنا هذا في تناولها للقضية العراقية، حيث التركيز على الجانب السلبي والفئوي الذي ينطلق من منطلقات مناطقية أو طائفية أو شوفينية ويبدو في كثير من صوره امتدادا أو استنساخا لثقافة إعلام النظام السابق، ولعل ابرز ما شاهدناه وسمعناه في كيفية ونوعية الأداء النقدي والتحريضي والعدائي في كثير من أشكاله مع حدثين مهمين جدا:
أولهما ردود الأفعال بعد حادثة تفجير قبتي الإمامين العسكريين علي الهادي وحسن العسكري في شباط 2006م في مدينة سامراء والتداعيات التي أفرزتها الحملة الإعلامية لوسائل الإعلام العربية والعراقية والتي تسببت في تأليب الرأي العام تارة ضد أتباع المذهب السني وتارة أخرى ضد الشيعة عموما، حتى وصل الأمر إلى التكفير والتحريض على القتل وتدمير المساجد التي تعرضت إلى عمليات نسف وتدمير منظم بعيد الحادث مباشرة، وما تبع ذلك من تقتيل عشوائي لأتباع كلا المذهبين.
وثانيهما كانت موضوعة كركوك وخارطة الحلول التي وضعها قانون إدارة الدولة المؤقت ومن ثم الدستور الدائم لحل تلك الإشكالية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من العوائل الكوردية والتركمانية والمسيحية التي هجرت من المدينة وأطرافها منذ استيلاء البعثيين على الحكم في شباط 1963م واستقدام مئات الآلاف من مواطني محافظات جنوبية ووسطى وتوطينهم هناك في بيوت وأملاك وأراضي أولئك المهجرين والمرحلين قسرا مما أنتج مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية على مدى عدة عقود من الزمن أدت إلى تأخير التقدم وتدهور الأوضاع الإنسانية لتلك الآلاف المؤلفة من المرحلين.
وفي هذه المشكلة لعبت وسائل الإعلام المحلية والعربية دورا سلبيا عدائيا تشويهيا محرضا ضد طرف دون آخر وكان الضحايا مرة أخرى هم من يدفع الثمن نتيجة تلك السياسة الخاطئة في استخدام وسائل الإعلام استخداما عدائيا متشنجا، مما يؤدي إلى نتائج كارثية وهذا ما حصل فعلا في موضوع قبتي الإمامين وما يخشى أن يحصل في الموضوع الثاني إذا ما استمرت وسائل الإعلام الموجهة تحديدا بلعب دور التحريض والسلبية وتشويه الحقائق لإشاعة العدائية بين الناس والعامة منهم بالذات حيث يفعل التحريض العرقي أو الديني والمذهبي فعلته الغرائزية الخطيرة في مجتمعات ما زالت ترضخ للنظام الاجتماعي القروي والقبلي.