ما بين رجل الإعلام ورجل الأمن!
جواد البشيتي
قديماً، كانت الصحافة تحتاج إلى مزيدٍ من "المعلومات"، فالغلبة، أو الهيمنة، كانت لـ "الآراء"؛ أمَّا الآن، أو من الآن وصاعداً، فحاجة الصحافة تشتدُّ إلى "الآراء"، وليس إلى "المعلومات"، التي لكثرتها وفيضها، ولتضاؤل قدرات الدول والحكومات على احتجازها واحتباسها، ومنعها من التدفق الحر، والوصول، بالتالي، إلى عقول وأبصار وأسماع العامة من الناس، غدا تحليلها، وفرزها، وتمييز الغث من السمين منها، وابتناء الآراء ووجهات النظر من لبناتها، من الأهمية بمكان.
على أنَّ هذا الذي هو الآن في منزلة القاعدة العالمية عَرَف الاستثناء في عالمنا العربي على وجه الخصوص، فالصحافة اليومية عندنا تعاني ما تعاني من استمرار خضوعها لضغطين متعاظمين: ضغط "الإعلان التجاري"، وضغط "الاحتكار المعلوماتي (الحكومي في المقام الأوَّل)". وتكاد "الرسالة" تختفي، وتصبح أثراً بعد عين، بسبب التضافر العفوي، على وجه العموم، لجهود "أصحاب الإعلان" و"أصحاب المعلومات" على إخراجها عن مسارها الطبيعي، من خلال نقلها مَمَّا يشبه "الفضاء الحر" إلى ما يشبه "الفضاء المنحني"، حيث الدوران في فلك هذا الثنائي (الذي لا يفيد ولا يستفيد إلاَّ إذا مسخ وشوَّه الرسالة الصحافية) هو الحركة الواقعية المتوقَّعة.
في الغرب، وفي أكثر بلدانه ومجتمعاته تحرُّراً من الوجهة الإعلامية والصحافية، نرى، أيضاً، شيئاً من تلك العلاقة التي يقيمها "رجل الإعلام" مع "رجل الأمن"، الصحافة مع الأجهزة الأمنية، بصفة كونها مستودعاً هائلاً ولا ينضب للمعلومات؛ ولكننا نرى إجابة مختلفة وجيِّدة نسبياً عن سؤال "مَنْ يوظِّف مَنْ في خدمة مصالحه؟"، فالصحافة، وعلى وجه العموم، لديها هناك من الاستقلال القوي، ومن قوى الاستقلال، ما يسمح لها باستثمار تلك العلاقة بما يعود عليها هي، في المقام الأوَّل، بالنفع والفائدة، أي بما يفيد وينفع مهنة الصحافة ذاتها.
في المقارنة، التي لا تستقيم معنى إلاَّ إذا اشتملت على تبيان أوجه التماثل وأوجه الاختلاف، نرى تشابهاً بين "رجل الإعلام" و"رجل الأمن"، فكلاهما يبحث عن "المعلومات"، ويتوفَّر على استجماعها؛ ولكنهما يختلفان، ويجب أن يختلفا، في الدافع والهدف والغاية، وفي أمرٍ آخر لا يقلُّ أهمية، فـ "رجل الأمن" يميل إلى حجب وإخفاء ما استجمع من معلومات؛ أمَّا "رجل الإعلام" فيميل إلى إظهاره ونشره.
في عالمنا العربي، تتركَّز "المعلومات"، والمهمُّ منها على وجه الخصوص، في الأجهزة الأمنية (أجهزة الاستخبارات أو المخابرات). وتشبه تلك الأجهزة، لجهة ما تستجمعه في بواطنها من معلومات، ولجهة قدرتها على احتجازها واحتبساها، "الثقوب السوداء"، فويلُ لِمَن حاول من "رجال الصحافة" الدخول في بواطنها بحثاً عن "المعلومات"، فالداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود.
هنا، أي في عالمنا العربي، يختل ميزان العلاقة، فـ "رجل الأمن" هو الذي يَسْتَخْدِم ويوظِّف "رجل الصحافة" في خدمة مصالحه، وإنْ توهَّم، أو أُوْهِمَ، "رجل الصحافة" أنَّه من "الزئبق" مصنوع!
"المعلومات" ولجهة علاقتها بالصحافة اليومية في العالم العربي، لا تشذُّ عن قانون "العرض والطلب" في السوق، فكلَّما تضاءل حجم المعروض من "المعلومات" اشتد وعَظُم طلب الصحافة عليها، فارتفع "السعر"، الذي تتقاسم الجريدة اليومية والصحافي دفعه؛ فـ "المعلومة" تصبح هي "الغاية التي تبرِّر الوسيلة"، ولو كانت تلك "الوسيلة" تنال مقتلاً من "الرسالة"!
والكارثة تَعْظُم مع تعاظم "المنافسة المعلوماتية" بين الصحف اليومية، فهل من منافسة تعود بالضرر على أصحابها أكثر من المنافسة على "سوق (معلوماتية) ضيِّقة متقلِّصة"، أو تزداد ضيقاً وتقلُّصاً؟!
"الخطوة الأولى" ليست بالشيء الذي يثير الخوف والقلق إذا ما نُظِر إليها نظرةً غير سليمة، أي إذا ما نُظِر إليها بحدِّ ذاتها، أي بمنأى عن "المسار"، فـ "رجل الإعلام" يمتطي صهوة نيَّاته المهنية الطيبة، فيذهب، في خطوته الأولى، إلى حيث يتوهم أنَّه مستودع من المعلومات "المجانية"، تعلوه لافتة "لكلٍّ حسب حاجته"، فيأخذ منه ما يشاء، ثمَّ يعود، ويعود، ويعود، حتى يتخطَّى، بعد بضع خطوات، نقطة اللاعودة، فيتحوَّل، في نهاية المطاف، من "سفير" لجريدته لدى "الجهاز" إلى "سفير لـ "الجهاز" لدى جريدته!
إنَّ "الجوع كافر"؛ وجوع الجريدة اليومية لـ "المعلومات" يُزيِّن لها، إنْ لم يكن اليوم، فغداً، "الكفر والتجديف بالرسالة" التي من أجلها جاءت إلى الحياة.
"المعلومة"، لجهة الحصول عليها، ونشرها، هي "حقٌّ" للصحافة في "مواطِن الصحافة الحرة، وحرِّية الصحافة"؛ ولكنَّها في عالمنا العربي ليست كذلك، فالحصول عليها من مصادرها المحكمة الإغلاق لن يِسْهُل ويتيسَّر إلاَّ إذا ارتضى الباحث عنها، من معشر "رجال الإعلام"، أن يخلع عنها لبوس "الحق"، ليلبسها لبوس "المكرمة"، التي ليست بـ "مكرمة"؛ لأنَّ لها ثمن؛ ولأنَّ ثمنها قد يفوق قيمتها أضعافاً مضاعفة.
وإنِّي لعلى ثقةً تامة بأنَّ المجتمعات التي يستمر فيها حبس المعلومات (عن الصحافة والرأي العام) هي ذاتها المجتمعات التي تَحْبِس الصحافة ورجالها حيث تُحْبَس المعلومات.
لستُ ضد علاقة "رجل الإعلام" بـ "الحكومة"؛ ولكن شتَّان ما بين صحافي يلتصق بـ "رأس الحكومة" وصحافي يلتصق، أو يُدْمِن الالتصاق، بـ "ذيلها"!