عدد المساهمات : 1780 تاريخ التسجيل : 08/06/2009 العمر : 36
موضوع: البرامج الإذاعية والفصحى المشتركة الإثنين نوفمبر 22, 2010 9:22 pm
البرامج الإذاعية والفصحى المشتركة بقلم : د. سهير جاد ـ مصر ـ نتحدث في هذا المقال عن البرامج الثقافية واللغةالمشتركة، لأن اللغة في البرنامج العام وصوت العرب وغيرهما من الإذاعات وعاءالثقافة وحاملة التراث والحضارة من ناحية، واللسان الذي تنطق به المواد والنصوصالثقافية الإذاعية من ناحية أخرى، فضلا عن أنها القضية المحورية دائما بين دعاةالقومية والمنتصرين للمحلية(1)، وعن أنها القاسم المشترك الأعظم في جميع الإذاعات. وتأسيسا على هذا الفهم ،فإن دراسة العلاقة بين اللغة والتعبير الإذاعي في البرامج الثقافية يتطلب نوعا منالاتفاق حول المصطلحات الأساسية التي يستخدمها الكثيرون دون أن يستشعروا الحاجةإلى تحديدها وضبطها ، ونحن نؤثر مع الدكتور عبد الحميد يونس (2) منذ البداية أننأخذ بالدلالات الشائعة دون أن نشغل أنفسنا بمعاجم طال العهد على تصنيفها دون أننتحل عن مهمتنا في رصد علاقة اللغة بالبرامج الثقافية إلى مهمة أخرى تتركز حولأصول الألفاظ واختلاف الدلالات(3). ومن أبرز الشواهد على اتساع رقعة الخلاف بين الدلالةالمعاصرة وبين الدلالة القاموسية القديمة مصطلح "اللغة" فنحن نتفق اليومعلى أن هذا المصطلح إنما يعني في المقام الأول أهم وسيلة من وسائل الاتصال بينالناس وهي "اللسان" أو مع ذلك فإن اللغة كانت عند الأقدمين ترادف مانستعمله الآن من مصطلح "اللهجة" فاللسان العربي هو اللغة العربيةبالمفهوم المتسع، وقد تبلبل هذا اللسان فاستوعب لهجات مختلفة عرفت كل واحدة منهابأنها لغة، كان يقال : "لغة مصر" و "لغة تميم " .. أما الآنفإننا نقول : "اللغة الإنجليزية"، "اللغة الفرنسية" و"اللغة العربية" ونعني بذلك الكيان اللغوي لكل أمة، من هذه الأمم علىاختلاف اللهجات في التلفظ والدلالة جميعا، وإذا كان المعنى الخاص قد غلب علىالمعنى العام فيما يتصل بمصطلح اللغة عندما تحول من اللهجة إلى اللسان بمفهومهالمتسع فإن التعبير النفسي يتطلب منا أن نستعمل الدلالة المعاصرة حين نحاول أننستشف علاقة الفن بالوسيلة التي يستخدمها في تحقيق الذات وتصوير الموقف والتعبيرعن قيمة إنسانية عليا تتطلبها جماعة من الجماعات(4) ولذلك نتوقف في هذا الفصل عندقضية اللغة والإذاعة. الإذاعة واللغة : والإذاعة تعمل جاهدة علىتوثيق الوجدان الإنساني فهي تظهر هذا الوجدان فقد في مجال قومي معين محدد بلغةقومية معينة، ولكنها أعانت على التمكين لهذا الوجدان وتقويته أيضا، وبعد أن كانتالجماعات تعيش منبثة في الريف والقرى وفي مدن ذات أسوار مادية ومعنوية، حطمتالإذاعة هذه الأسوار فوجدنا أن إذاعة البرنامج العام في مصر تتجاور حدود الوطنالمصري إلى جميع الناطقين بالعربية، كذلك الحال بالنسبة إلى إذاعة صوت العرب. فالإذاعة عامل جوهري هاميعمل على تقارب المجتمعات، ولكن هذا التقارب يحدث على نطاق معين تحدد اللغةالقومية العامة لمجتمع كبير ولقومية كبيرة، وطبيعي ـ كما يقول الدكتور يونس (5) أناللغة العامة غير اللهجات المحلية أو الطبقية الخاصة(6). فإذا نظرنا إلى الرباطبين الإذاعة وبين الثقافة وبين الإذاعة وبين المجتمع وهي عامل حيوي خطير وجدناأنها أولا وقبل كل شيء قد أعانت من الناحية اللغوية على إظهار المفهوم الاجتماعيالصحيح للغة، وهذا بلا شك من المهام الكبيرة التي قامت بها الإذاعة(7). أما المهمة الثانية التيتشعبت عن هذه المهمة فهي أن الإذاعة باعتبارها وسيلة ديمقراطية احتفلت باللهجاتالطبقية والحلية أيضا لكي تكون الإفادة منها أعم، لأنها منتشرة في كل مكان ، وكانصنيع الإذاعة كصنيع العرب عندما أحسوا أنفسهم بُعيد العصر الجاهلي وبعيد اختلاطهمبغيرهم من الأقوام، فلقد عرفوا اللغة بمفهومها الصحيح كما نعرفها نحن الآن .. كانالعرب يحسون اللغة إحساسا فطريا، ويقومون ألسنتهم بالتوجه إلى البادية، ويسجلوناللهجات وما بينها من تغير ، ولم ينظروا إليها على أساس الخطأ والصواب فحسب ..ونحن إذا درسنا اللهجات ـ كما يقول الدكتور يونس(7) ـ دراسة صحيحة "سنجد أنكثيرا مما ننظر إليه على أنه خطأ إنما هو صحيح ، فلو سمعنا مثلا أهل القاهرة أوالريف في مصر يقولون (تِسلم) أو (تِكتب) بكسر التاء الأولى، فإننا نتصور أن هذاخطأ، والصحيح (تَسلم) و (تكتب) بفتح التاء .. وعندما نعود إلى دراسة اللهجات، سنجدأن لهجة ما وهي اللهجة القيسية مثلا كانت تنطق هذا النطق، فليس الأمر إذن أمر صوابأو خطأ، إنما هو أمر توزيع اجتماعي لغوي جعل اللهجات تتوزع على هذه الصورة(9). ولقد أفادت الإذاعة فيإظهار هذه اللهجات وإبرازها لأن اتصالها بالناس وتوسلها باللغة جعلها تنظر إلىاللغة بهذا المفهوم الاجتماعي . ولكنها ، وهي تعمل على التقارب بين الوجداناتالإنسانية المختلفة في نطاق قومي عام، تقرب في الوقت نفسه بين هذه اللهجات، ولقدأصبحت الآن الاختلافات بين اللهجات المصرية بل العربية يسيرة جدا كالإدغاموالإمالة، وتغيير بعض مخارج الحروف، فالإذاعة تعمل على التقريب بين اللهجات بمعدلمتزايد السرعة، حتى أصبح المستمع في القاهرة يستطيع أن يستمع من دمشق إلى تمثيليةإذاعية مثلا باللهجة السورية، ويفهمها ويتذوقها ، أصبح السعودي أو السوري يستمعإلى تمثيلية باللهجة القاهرية، أو الصعيدية،ويفهمها ويتذوقها ، بل أصبحت هذهالمحاولات تغلب بعض اللهجات على بعض()10. ويذهب مؤرخو الفنون إلى تتبع الطابع الذاتي في الأشكال والمضامين وذلك للكشف عنأساس تاريخي جغرافي ، ويتخذون الشخصيات التي حفرت أسماءها في ذاكرة الجماهيرالمتذوقة للفن، معالم ترصد التحول من عصر فني إلى عصر فني آخر، أو يحصرون للنشاطالإنساني في محيط جغرافي معين وقد يفسرون التغير في الشكل والمضمون بمصطلحات هذاالعلم أو ذاك من العلوم الإنسانية، والمهم أنهم لا يلتفتون إلى الفنون، التي تصدرعن الجماعة وتصب في الجماعة، إلا بمقدار ما يؤيد نظرتهم إلى التاريخ الفني، أويؤكد منهجهم في تفسير النشاط الانساني، التي تحتل الفنون مكان الصدارة فيه(11). في موضوع عن شعراءالتروبادور Lea troubadoursوالراديو، يحاول سنجريا Cingriaالتعرف على ورثه الراديو عن شعراء التروبادور في العصور الوسطى، فالتروبادور كانوايتغنون بقصص الحب، ويرون الأنباء، شأنهم الراديو تماما، وكذلك كانوا يقدمونالأغنيات والتمثيليات القصيرة، أما في أيامنا، فإن هؤلاء الشعراء قد حل محلهمالقادة والملوك في دول العالم ورئيس الهيئة الدينية وجماعة العلماء والشعراءوالفنانون التشكيليون والشخصيات البارزة. وتحدث سنجريا عن نوع آخرمن شعراء التروبادور الذين وجدوا في الأقاليم الروسية، كانوا يقومون بنفس الدور ،ولقد كان الاعتماد على اللسان في التعبير القولي في الشرق مما كان في مناطق أخرىمن العالم، فكان العلماء أو الوعاظ يتجولون بين مدينة وأخرى يستخدمون الصوتوالتعبير القولي في الغناء والرواية، وكان الصوت البشري هو العروة الوثقى فيالفنون التقليدية التي عرفها الإنسان ،وفي عصرنا عصر التصنيع والتفرد أو التميز ،فإن صوت الشاعر وصوت المندوب أو المراسل وصوت الراوي وهذه الأصوات تلاحق الإنسانفي كل مكان، لأنها أصبحت تنتقل من خلال الموجات بواسطة الراديو. وليس صحيحا أن نعتقد أن(الكتابة) استطاعت أو سوف يكون في مقدورها مستقبلا أن تحل محل التعبير الصوتي فيالإعلام، وذلك لسببين : أولهما : أن الكلمةالمكتوبة كلمة منتقاة لا تتوجه إلا إلى الذين يجيدون فك رموزها، أي الذين يجيدونالقراءة في حين أن الأمي لا يستطيع التعامل مع الكلمة المكتوبة. أما الكلمةالمنطوقة فهي كلمة عالمية، تسمع وتفهم من كل الناس المثقف وغير المثقف. وثانيهما : أنه من خلالالصوت مهما أصابه من تشويه، ينشأ اتصال إنساني ، ليس في مقدور الكلمة المكتوبةخلقه. · إن الكلمة المكتوبة ثابتة في الوقت والمسافة وتتمتعبتأثير محدود في المضمون، بينما نجد أن الكلمة المنطوقة تنتقل من لسان إلى آخر،ومن لسان إلى أذن، مما يتيح لها نوعا من المرونة، إلى أنها تفسح للخيال مجالاواسعا. ومن الإحصاءات الحديثة التي انتهت إليها"اليونسكو" في سبتمبر 1967، يتبين أن 40% من سكان البلاد الفقيرة أميون،رغم الجهد الخارق لمحو الأمية لدى الجماهير .. ولذلك فمن الطبيعي أن يلجأ هذا الكممن الأميين إلى الكلمة المنطوقة أو المذاعة بالراديو(13). ويذكر "روبرتديلافينت" في دراسته من المنطوق إلى المطبوع "أن" التنيك القديمللإذاعة قد استمر في الوجود موازيا للتكنيك الحديث في البلاد التي تسعى إلىالنمو،وتتعلق الوسائل التكنية القديمة بإذاعة الأصوات وتستخدم آلات موسيقية حيثلكل منها وظيفة خاصة بها". أما "Pepper" الباحث في الموسيقى البدائية فيذهب إلى أن البندا LesBandas يستخدمون طنبورين، ويمكن لكلمنهما أن يسمعنا صوتين مختلفين، فيكون مجموع أصواتها أربعة أصوات منها ثلاثةتستخدم للكلام Parler والرابعة للإعلام أو التنبيه. · أن الإذاعة الأخبار وتداولها لين القبائل المتجاورةكما يقول ديلافينيت (14) أصبحت حوارا وليست منولوجا، وهذا الحوار يثري موضوع الخبرالمذاع، بحيث لا نصبح أمام "خبر" ولكننا نعيش في الخبر ذاته .. هذهالمعايشة تصل بنا ـ إذا لم تكن الكلمة قوية إلى نوع من المسرحة الإعلامية .. فهلمن الضروري أن نذكر هنا أن هذه المسرحة الإعلامية أصبحت أسلوبا يستخدم في الفنالإذاعي اليوم؟ في كتابه "الراديوفي إفريقيا السوداء (15)" يقول على لسان الإفريقيين : "إننا نصدقالراديو لأن كل ما يقدمه لنا من معلومات تقال لنا ولا تكتب برغبتنا، وهذا يتفق معمدينتنا الإفريقية التي ليست من المدنيات التي تقوم على كتابة،ولكنها تقوم علىالكلمة المنطوقة .. نحب هذا النوع من الإذاعة لأنه يتوجه إلى كل فرد منا، وأنه ليسمن المهم ان تتعلم القراءة والكتابة لنفهم الرسائل التي تصلنا ". ".. نحب الراديولأنه بالنسبة لنا يحل محل الرسالة المذاعة في صخب فهو ينقل أي شيء وإلى أي مكان.ومن جهة أخرى يستخدم وسيلة الكلمة المنطوقة". "ولقد حاولنا التعرفعلى الصوت الذي يتكلم، ونقول من يا ترى المتحدث؟ هل نعرفه معرفة جيدة ونراه يوميا،ونقنع أنفسنا أن صوته جميل ، وأنه الآن قوة، لا تجعل منه صوتا عاديان وأن ما يقولهليس فيه شيء من الخطأ، وإن من الفائدة بالنسبة إلينا أن نسمعه، وإن كنا لا نرىصاحب الصوت .. وفي ذلك شيء غامض ". وإذا كان الراديو قداحتفظ بالنسبة للإفريقي بالشيء الخفي الغامض فغن مرجع ذلك إلى التقنية الحديثةوالفن الإذاعي الحديث، حيث لا نرى المذيع ولكننا نسمعه، والواقع أن الحلقاتالشعبية من التراث الفني أكبر وأغرز، وربما كانت أهم من بعض الآثار الفنية، التياشتهر مبدعوها، لسبب أو لآخر، يكمن في مقومات الابداع، أو ينبعث من علاقة المبدعينبقمة الهرم الاجتماعي ، والتي تمثل السلطة أوالجاه، أو لنزعة سلوكية عند أصحابالقرائح المعبرة، جعلتهم يخرجون على النموذج التقليدي للإنسان في بيئته وعصره،ومهما يكن من شيء، فإن ما نسميه الآن بالفنون الشعبية لا يزال في مكانه البارز مننشاط الجماعة، يقوم بوظائف حيوية وجمالية في وقت واحد، وهذه الفنون الشعبية هيالتي تفسر أصول الفنون الرفيعة وهي التي تعطي في الوقت نفسهن الأبعاد التي تلتمسفيها الدلالات في الآداب الرسمية أو الرفيعة(16). ولا بد أن نتذكر أن روادالنهضة الأدبية عندنا قد حاولوا أول الأمر أن يضعوا مناهج جديدة في تاريخ الأدبونقده، وكان من أهم ما ارتكزت عليه مناهجهم(17). أولا: أن الأدب الشعبيجزء لا يتجزأ من التراث القومي. ثانيا: أن الشعر مثلاإنما تلتمس أصوله في الغناء والرقص. ومع ذلك فإن هؤلاء الروادفقد حاولوا تأصيل مناهجهم الجديدة ولكنهم ظلوا يعتصمون بقوالب ثابتة في تقويمالحضارة بصفة عامة والفن بصفة خاصة، مما جعلهم يتسلقون على التراث الشعبي ويجعلونالثقافة مرادفة للتعليم ويحتفلون بفن الكلمة وقلما يلتفتون إلى الفنون الأخرىزمنية كانت أو تشكيلية، أنا الآن فقد أثمرت الدراسات الإنسانية الجادة تصورامختلفا لوجود ذاتي أم اجتماعي وسواء أكان رسميا أم شعبيا وهذا التصوير يرتكزبطبيعة الحال على المفهوم الجديد للثقافة الذي يستوعب معارف الإنسان وخبراتهومهاراته على مدى حياته وهي محصلة لا تتحقق بتعلم القراءة والكتابة فحسب، وإنماتتحقق بالمحاكاة والتجربة والخطأ والتلقين المباشر وغير المباشر. ولعل أهم نتيجة يستخلصهاالباحث من هذا النظر الجديد إلى علاقة اللغة بالفن هي تصحيح خطأ شائع فقد تعلمتمنذ نصف قرن أن الأدب العربي لم يعرف التمثيل وأن الشعر بخاصة غنائي كله وقد أخذرواد النهضة هذا الرأي عن بعض الاتجاهات الفلسفية التي ترتكز في أحكامها علىالواقع الحضاري وإنما تأثرت بعض الاتجاهات العصرية التي كان من أهمها أن العقليةالعربية تتسم بالتجريد وأنها لا تعرف التشخيص والتجسيم والتمثيل، ومن ثم افتقرفكرها إلى التفسير الأسطوري كما افتقر أدبها إلى القصص والتمثيل ولم تعد في حاجةإلى دحض ذلك الرأي فقد تولت الدراسات العلمية الجادة تصحيحه على أساس موضوعي لاعاطفي وحسبنا أن نميط اللثام عن حقيقة واحدة هي أن الجماعات الإنسانية كلها قد مرتبالمرحلة الأسطورية وأن الشعوب العربية قد عرفت الأطوار الأولى للتغيير الدراميوهذه الحقيقة تتضح بجلاء إذا نحن نظرنا إلى اللغة الفنية، في اصلها العريق وفيوسائلها الصوتية والحركية والتشكيلية(18). · أن الجماعات الإنسانية تستجيب لمختلف الظواهر الطبيعيةوالتحول من حالة اجتماعية إلى أخرى وهذا فصل الربيع قد تختلف صورة الاحتفال به بينشعب وآخر ولكن الرموز والدلالات والوظائف واحدة والناس في كل مكان على الأرضيحتفلون بالخصب بتواصل الحياة بالغرس والحصاد بالمطر بالفيضانات الموسمي، بالزواجبالميلاد .. الخ. · والبعد الدرامي الذي يكسب اللغة الفنية حركة وتنوعاوتأثرا لا يلتمس في تلك الاحتفالات الطقسية أو الموسمية وحدها وإنما أيضا في تلكالعادات والتقاليد التي لها أصولها السحرية والتي تستهدف حماية الإنسان والحيوانوالنبات من الآفات.. والأوصاب ـ حسب زعمهم ـ ولا يزال الفلاح في أريافنا لا يزالالفلاح في ربوع آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكيتين يمارس طقوسا غير معقولة ورثهامن عصور قديمة موغلة في القدم وهذه الحفلات الصاخبة الكثيرة المتنوعة في أعيادالطبيعة والطقوس السحرية وشبه السحرية التي يقوم بها الفلاحون إلى الآن لها قوامهاالدرامي الواضح الذي يستوعب الكلمة والإيماء والإيقاع والمادة المشكلة جميعا. · واللغة الفنية من أبرز وسائل التطوير في حياة الإنسانلما تتسم به من القدرة على التغيير ومع الاحتفاظ بالأصالة ي وقت واحد وإذا اختلفتاللغات الفنية باختلاف وسائل التعبير فإنها تتفق في المصدر والسياق التاريخيوالوظيفة حيوية كانت أو جمالية بيد أن استقلال كل وسيلة عن الشعيرة القديمةالمتكاملة فد جعل اللغة الفنية بمدلولها الشامل كما تتشعب اللغة اللسانية إلىلهجات لهجة تتوسل بالكتلة أو اللون أو الخط ولهجة تتوسل بالكلمة وثالثة تتوسلبالصوت واللحن ورابعة تتوسل بالحركة أو الاشارة، ومن هذا كله تخضع لهجات اللغةالفنية لقانون واحد في أطرها العامة ومسارها الثقافي وتشترك في مقومات رئيسية جعلتمصطلحات هذه اللهجة يمكن أن تستخدم في الحكم على لهجة أخرى وتقويمها فنحن نستعملمصطلح الإيقاع في فنون التشكيل كما نستعمله في فنون الحركة والتمثيل، وتستخدمألفاظا تدل على البناء أو التراكيب فيها جميعها وقد تتوصل بأحد مصطلحات الحركةلوزن الشعر وتقعيد موسيقاه(19). وقبل أن نخلص من هذا العرض لما بين "اللهجاتالفنية" نرى لزاما علينا أن نجيب على سؤال لا يزال مطروحا أمام الدارسينوالنقاد وهذا السؤال هو إذا كانت الفنون تصدر عن لغة واحدة أو أصل لغوي واحدتنتظمه حركات الجسم الإنساني قيل من الممكن الآن ترجمة أثر فني يصطنع وسيلة خاصةبه إلى أثر فني آخر ولكي نكون أكثر وضوحا فإننا نتساءل هل من الممكن أن نترجمقصيدة من الشعر تقوم على الكلام المنظوم إلى تمثال صيغ من مادة صلبة ملموسة؟ وما نريد أن ندخل في الاختلافات الكثيرة الني أثمرتهاالمدارس الفنية المختلفة بل يكفينا أن نذكر حقيقتين تبدوان متعارضتين الأولى أناللغة الفنية لا تقوم بذاتها وإنما تقوم بجهد خاص يشكلها بأسلوب خاص ومن العسيرتبعا لذلك أن ننقل خصوصية الجهد والأسلوب إلى مجال آخر وهذا الرأي يصدر عن النظرالذاتي للفنان ويجعله الأصل الأول والأخير في تشكيل اللغة الفنية ومن الآخذين بهذاالنظر من يلتمس خصوصية التجربة أو الموقف الإنساني عند هؤلاء فرده لا يمكن أنيتكرر والتجربة أو الموقف مهما امتص من عناصر الحياة المعاصرة أو الماضية لايتكرران بتفاصيلهما. أما الفريق الثاني فيذهبإلى الفن وسيلة حيوية وهامة من وسائل الاتصال بين الناس، فاللغة ليست نشاطا فرديامقصورا على مبدعيه أو منشئيه أو صاغته ولكنه يستهدف في المقام الأول انتزاع البقاءمن عوامل الاضمحلال والذبول ويستهدف في المقام الثاني نقل خبرة إنسانية وشعورإنساني إلى آخرين، وأصحاب الرأي الأول يذهبون إلى أن ترجمة أثر فني إلى شكل آخربوسيلة أخرى أو لهجة أخرى لا يمكن أن يتحقق والمرء نفسه لا يستطيع أن يترجم أثرامن أثاره إلى لغة فنية أخرى، فالشاعر مثلا يستحيل عليه أن يلخص قصيدته في كتلةمشكلة أو صورة تقوم على الحظ واللون وأصحاب المذهب الثاني يرون أن هذا النقل ممكنولكن بشروط فلا بد أن يكون الناقل من أصحاب المواهب الفنية أولا، وأن يستكمل دراسةالأثر الذي يريد أن ينقله ثانيا ولقد ظهرت في حياتنا المعاصرة وسائل تدوين أو تسجيلجديدة، تعيد إلى اللغة الفنية وحدتها من ناحية وقدرتها على النقلة من لهجة فنيةإلى لهجة فنية أخرى، فقد ظهر الراديو الذي أعاد إلى اللسان مكانته وأكد أن الكتابةالتي كدنا نستغني بها عن التلفظ المجهور ليست إلا وسيلة تعسفية لنقل المسموع إلىمنظور وإعادة تمثله مسموعا بتلك المصطلحان تسجيل المنظور من التلخيص والتركيز إلىحكاية السياق الواقعي. وازدهر هذا التسجيل بالقدرة الخطية وظهرت الصورة المتحركةالتي خلصت على التكبير والتصغير والإسراع والإبطاء والتلوين واقترن اللسان بالصورةوظهر التلفزيون وكان المسطع الناطق يتحول إلى منظر مجسم متحرك ومتكلم في وقت واحدوبهذه الوساطة الجديدة في التسجيل مع ازدهار الطباعة الآلية أصبح السؤال مطروحا هلمن الممكن أن يترجم التمثال إلى قصيدة أو تترجم الرواية إلى مسرحية أو تمثيليةسينمائية أو تلفزيونية(20). وما لنا نذهب بعيداوالحياة تختبر وسائلها ووسائطها بلا انقطاع وقد برز في عالم الفنون والآداب أسلوبالترجمة من وسيلة فنية إلى أخرى ومن الشواهد الناطقة على قيمة هذه التجارب تحويلبعض الروايات إلى مسامع إذاعية بعد أن كثر تحويلها إلى مسرحيات وليس من شك في أنالنقاد التفتوا إلى الفروق بين الأصل وبين الترجمة التفتوا إليها في الأثر الذييستحدثه الشكل الجديد بالمقياس إلى القديم، يصلها النظارة من شكل قائم على التصورأو التمثل الخيالي وذلك لأن القصة المدونة تقوم بالقراءة ومهما كانت قدرة الألفاظعلى التصوير والمحاكاة فإنها من غير شك تعجز عن الوفاء بالتفاصيل والتقنيات الخاصةبطاقة المسرح، والصورة المتحركة الناطقة هي الفيصل الحقيقي في اقتراب الترجمةالفنية من الأصل وما يوجبه من وقائع ومسامع ومشاهد(21). المادة الخام في البرامجالثقافية : الكلمة : تقع الكلمة المنطوقة فيقلب التجربة الاذاعية، ولقد حدث أن أصبح "الأدب" يعني شيئا منفصلا تماماعن الصوت .. شيئا يعيش على صفحات الورق .. ومن السهل أن ننسى أن عددا كبيرا منالأعمال الأدبية الخلاقة العظيمة في العالم تمثلها الناس بروح مناقضة لذلك تماما،أي باعتبارها شيئا منطوقا(22). لقد كان موليير ينصحالناس بقوة ألا يقولوا مسرحيات وأن يشاهدوها وهي تمثل . ونصيحة بسيطة، ومع ذلك فهيصعبة التطبيق ، وقد يبدو من التهور حتى بالنسبة لها ومتحمس ـ أن يصدر الإنسان حكماموسيقيا بناء على مجرد قراءته للنوتة الموسيقية لإحدى المعزوفات، كذلك فإن منالصعب تحديد المغزى الحقيقي لمعظم الكلمات، تماما مثلما نجد من الصعب تحديد معنىأية علامة أو نبرة موسيقية منعزلة، ولكن من سوء الحظ أن كل كلمة وأية كلمة يمكنللإنسان أن يقرأها وأن يكسوها بنوع من ما من المعاني ما دامت الكلمات هي العملةالمتداولة وما دام من الممكن وضع تعريف لكل منها(23). ويقصد بالمادة الكلاميةكل ما تقدمه الإذاعة من الكلمة المنطوقة دون استخدام أي من الفنون الإذاعيةالأخرى، سواء أكانت خلفية موسيقية أم مؤثرات صوتية أم فواصل ترفيهية أم غيرها،وتتحدد أساليب الكلمة المنطوقة وتتخذ أشكالا متباينة منها الحديث الذي يلقيه متحدثواحد، والحوار بين أكثر من متحدث، والندوة التي تجمع عددا من المتخصصين في مجالمعين، ومنها أيضا الأسئلة والأجوبة(24). وتواجه الكلمة المنطوقةمنافسات تتزايد مع تطور الفنون الإذاعية شأنها شأن الكلمة المطبوعة التي تنافسهاأساليب أخرى تتصدرها الصورة، على أن الكلمة المنطوقة ظلت رغم ذلك سيدة الموقف،ولعل ذلك يرجع إلى أنها في اكثر الحالات أداة اتصال طبيعي، وأن المستمع يستقبلفيها مضمونها دون أن تتصرفه عنه محسنات منافسة، وقد واجهت إدارة الإحصاء بهيئةالإذاعة المصرية "كمثال" صعوبة في عزل المادة اللامية عن غيرها وتصنيفهافي مصنف واحد، إذا كثيرا ما تتداخل في برامج تتضمن فنونا إذاعية أخرى وفي حدودالمستطاع حددت المادة الكلامية بالآتي (25) : 1 ـ البرامج الإعلاميةوتشمل النشرات الإخبارية والتعليقات السياسية والرسائل السياسية. 2 ـ البرامج السياسيةوالتعليمية عامة. 3 ـ الأحاديث والندواتوالقصة أو الرياضية والعلوم من البرامج الثقافية. 4 ـ الأحاديث الدينيةوالفتاوى. 5 ـ 50% من برامجالخدمات. 6 ـ 50% من البرامجالخاصة. 7 ـ وقد حددت نسبة الـ50% من برامج الخدمات والبرامج الخاصة استناد إلى دراسة تجريبية انتهت إلى أنحوالي نصف هذه البرامج تقريبا تكونه مادة كلامية وفق التعريف الإجرائي الذي أشارإليه البحث(26) وفي هذه الحدود حصرت ساعات إرسال المادة الكلامية التي قدمت خلالعام 70/1971 من الإذاعات المحلية فبلغت 43ق 9734ت بنسبة 21.76% من إجمالي إرسالتلك الإذاعات أي بما يقل عن الربع. ومن هذا البحث يتضح أننسبة المادة الكلامية في البرنامج العام 28.38% وصوت العرب26.29% والبرنامج العاموصوت العرب منهما البرنامج الثاني الثقافي 29.13% مما يشير إلى أهمية المادةالكلامية في البرامج الثقافية التي تغطي المجالات العلمية والأدبية والفنية حتىيفيد الإنسان العربي والمصري من الثقافة بكل ما فيها من تجارب وتيارات جديدة،وربطه بالثقافات المحلية والعالمية وإحياء التراث القديم. على أن لغة الإذاعة لاتتمثل في الكلمة المنطوقة فحسب، وإنما في الموسيقى والمؤثرات الصوتية، ذلك أنالتركيبة الصوتية في الراديو تؤثر على الوجدان بطريقة مماثلة لتأثير الموسيقي .ويذهب "ماكويني"(27) إلى أن أي شكل من أشكال الفن التي تعيش في الزمن لابد أن يعتني بالشكل الموسيقي. إن المحاضر شخصا مملا إنلم يهتم بتنويع ما يحمل حديثه من عوامل الحيوية، وسرعان ما يتحول الكلام البحت إلىشيء ممل لا معنى له، لأن كلمات لا (ريتم) وبلا تنويع في الإيقاع وبلا شكل مجددللعبارات وبلا أداء منسق على أساس من الحاسة الموسيقية للشخص الذي ينطقها سرعان مايصبح لها وقع الرصاص الثقيل على عقل المستمع(28). وفي ختام حديثه عنالتجربة الإذاعية يقول دونالد ماكويني : كثيرا ما قيل : إن لم ينقل البرنامجالإذاعي موضوعه كاملا ويوضح عند سماعه مرة واحدة فهو برنامج فاشل، قد يكون في هذاالرأي بعض الصحة إلا أنه لو ساد لدل ذلك منطقيا على أحد أمرين : إما أن الإذاعةالمسموعة مجرد وسيلة بدائية لنقل ما هو أبيض أو ما هو أسود دون أن تكون لها القدرةعلى نقل مستويات من المعاني أكثر عمقا، أو أن المستمع يتمتع بإدراك يفوق الطاقةالبشرية.. وقد نشأ اعتقاد سائد بوجوب التمسك بوجهة النظر هذه فضلا عن أن هناكاتجاها يقاوم الاعتقاد بوجود أية قيمة في أي شيء لا نستطيع لمسه باليد، فحتىالكتاب ـ الذي يسمح لنا بأن نعود إلى صفحاته السابقة لنلقي نظرة على فقرة صعبة فيهـ قد يوصف على الفور بأنه "غامض" إذا لم تكن رسالته واضحة وضوح الشمس.إن أي عمل فني لا رسالة له ليس جديرا بتسميته عملا فنيا، وهناك دلائل على أن بعضالمستمعين يعتبرون تكرار إذاعة أي برنامج إهانة لذكائهم، ولا نجرؤ على تصور المصيرالذي يمكن أن يلقاه بعض المستمعين على يد معارفهم لأنهم يشعرون بميل إلى سماع"بستان الكرز" مرتين!! ومن المؤكد أنه لا عودةإلى الوراء في الإذاعة المسموعة فالعمل المذاع ابن اللحظة ويتلاشى بمجرد سماعه،فإذا كانت للنص الإذاعي قيمة خاصة مع وجود مخرج جيد يرشد "عين" العقلإلى أعماق لا يتوقعها، فإن العمل المذاع يتطلب تركيزا وانتباها ايجابيا، ولا يساويهنا بين الجودة والتعقيد، ولكن ماكويني يؤكد على أن التعرف على أية تجربة ذات قيمةفنية تستحق الوجود يمكن أن يكسبها غني أكبر، كما يعتقد أنه كلما ازداد مضمون العملالفني عمقا كلما ازدادت حاجتنا إلى دراسته دراسة أدق وذلك مثلما تعود مرة أخرى إلىلوحة مرسومة إلى معزوفة موسيقية لتكشف فيها آفاقا جديدة أو ظلالا جديدة منالمعاني. ومما يرثى له أن الإذاعةتبلغ حدا كبيرا من "السهولة"أدى إلى نمو مقاييس زائفة للقيم الفنيةوافترض المستمعون أنه ما دام العمل المذاع لا يتسم بالسهولة فمن المحتم في هذهالحالة أن يكون غامضا ومدعى علم ومتخبطا دون هدف، وغالبا ما يحدث هذا، إلا افضلالأعمال الإبداعية في أية وسيلة تتطلب انتباها واعيا لا مجرد تلق سطحي خال منالتفكير(29). ونخلص من ذلك إلى أن أيعمل فني إبداعي في الراديو أو التلفزيون يستشير ولا يصف، فهو لا يستطيع أن يقدممجرد المظهر المادي ولا التجربة الاجتماعية للمسرح، أن ما يقدمه هذا العمل اقرببكثير إلى ما يحدث في أكثر أنواع القراءة للنفس إبداعا : تجربة شخصية معاشة بأعماقالنفس ومرئية ببصيرة داخلية، إلى أي مدى ينجح العمل الفني الإذاعي في تحقيق ذلك ؟هذا أمر لا حدود لمداه .. يقول "ادوارد مماكفيل ويست" : "الحقيقةأن الراديو أكثر قابلية من المسرح والشاشة لتحمل درجات أكبر من الإعداد الدرامينظرا للمرونة القصوى التي تتمتع بها وسيلة الإذاعة وقدراتها الواسعة النطاق علىالإيحاء المبدع .. حتى الحديث (30) "المباشر" يتضمن عنصرا دراميا ينشأعن تركيز المستمع على شخصية المتحدث غير المرئي، كما ينشأ عن شكل الحديث نفسه الذييجب أن يعد بطريقة تثير الانتباه وتحتفظ به من بداية الحديث إلى نهايته(31). لغة البرامج الثقافية فيالبرنامج العام وصوت العرب: إذا كانت الإذاعة تقدمنشراتها الإخبارية في لغة عربية فصحى مفهومة من جانب المستمع، فلماذا لا تقدم جميعبرامجها بالفصحى، لقد كانت الإذاعة المصرية منذ إنشائها في 1934 وحتى عام 1940متقدم برامجها بالفصحى، وفي الأربعينات تسللت العامية حتى سيطرت أخيرا على معظم البرامجفي هذه الأيام في الوقت الذي كانت فيه نسبة الأمية مرتفعة في الثلاثينات ومابعدها(32). ولم تكن البرامج فقط هيالتي تقدم بالفصحى بل إن الأغاني أيضا كانت بالفصحى ، ويذكر الأستاذ علي عيسى (33)تجربة منذ سنوات قدم فيها البرنامج العام روايته "كيلوباترا" التي كانتمقررة على طلبة الثانوية العامة، ويقول : تعجب إذا علمت إن أطفالي كانوا في ذلكالوقت ما بين العاشرة والحادية عسر وكانوا يفهمون كل أحداث التمثيلية ، كما قدمالبرنامج العام تجربة أخرى في العام الماضي وهي برنامج "إنك لعلى خلقعظيم" وكان البرنامج بالفصحى، أما البرامج الثقافية فإنها تقدم بالفصحى. وليس المقصود بالفصحى هناـ فصحى التراث السلفية ـ ولكن المقصود بها اللغة المشتركة ـ لغة الاتصالبالجماهير، التي تبنتها الصحافة أول الأمر ـ بعيدة عن تقعر فصحى التراث وغرابتهامن ناحية وعن الوقوع في أسر العاميات واللهجات المحلية من ناحية أخرى.. ثم آزرتهاوسائل الاتصال السمعي والمرئي بالجماهير، الأكثر حداثة وهي الإذاعة والسينماوالتلفزيون وهذه اللغة المشتركة تكشف عن ملاءمة لغتنا العربية لاحتياجات العصرالحديث ومتطلباته ، وتحقق نفاذها الأوسع والأكثر انتشارا إلى جماهير المستمعين عبرأقطار الوطن العربي، مجتازة حدود المتعلمين والأميين معا(34) وأصبحت بذلك اللسانالذي يحقق المعادلة الصعبة بين القومية والمحلية في اللغة عبر إذاعتي البرنامجالعام وصوت العرب. وعلى صعيد التطبيق، فقدأصبحت هذه اللغة تتسم بالتخلص من العبارات والكليشهات المحفوظة والمتوارثة،وألوانالزينة اللفظية والتأنقات البلاغية التقليدية، متجهة إلى تحقيق بلاغة عصرية من نوعجديد تتمثل في المباشر والتجديد والمرونة والعمق والقدرة على الحركة ومراعاةمستويات المستمعين واحتياجاتهم، وأصبحت هذه اللغة تمثل الوسط المشروع ، الذي لابدأن يراعيه كل إذاعي يتوجه بالمادة الإذاعية (خبرا كان أو تعليقا أو برنامجا ثقافياأو تمثيلية أو منوعا) إلى جمهور المستمعين، لا يصعد عنه ولا يهبط دونه، ولم يعدالسؤال المطروح : الفصحى أم العامية ، لكنه اصبح : لغة اتصال ناجحة أم لا، لغةتحتفظ بالمقومات الرئيسة للفصحى. وإذا كانت هذه اللغةالمشتركة ضرورة في البرنامج العام فهي إلزام في صوت العرب، لأن هذه اللغة المشتركةتجمع بين أبناء الأمة العربية التي يتوجه إليها صوت العرب ، وبالتالي فهي وسيلةالاتصال المفهومة لدى الجماهير العربية مهما كانت درجة ثقافتها أو تعليمها. · وأخيرا : والناس تنتظر من الإذاعة والتلفزيون النموذجالحسن، ونحن نرخص على أن يكون المذيع حسن الصوت واضح الكلمات ـ أي أن يكونمانيكانا لغويا وصوتيا فنقتدي به صغارا وكبارا ،ولكن إذا وجدنا المذيع أو المتحدثأو الضيف أمام الميكروفون أو على الشاشة يستخف باللغة العربية فليس على الناس إلاأن يفعلوا نفس الشيء .. متوهمين أن هذه هي الصورة المثلى للكلام والحديث .. ومنهنا كانت غلطة المذيع فادحة. · أما من أين نبدأ تعليم اللغة العربية واحترامها وحرصناعليها، فلنبدأ من أي مكان .. من الإذاعة من المدرسة .. من الصحف والمجلات .. منالندوات .. اللهم أن نبدأ بصورة مركزة ومستمرة أما النتائج فمؤكدة وسوف تجيء علىمهل. لأن تقويم اللسان المعوج يحتاج إلى مقت وصبر وتشجيع .. ولذلك كانت سعادتيعظيمة بأن للعرب صوتا عربيا فصيحا ينطلق من القاهرة(35). إن استعمال الفصحى المشتركة في البرامج الثقافية بخاصة،أمر أساسي لتحديد معالم لغة الإذاعة العربية بعامة، سينما وأن اللهجة العامية فيأي قطر عربي ليست إلا عربية محرفة، دخلها ألفاظ وتراكيب أجنبية بحسب التأثيراتالتي تعرض لها كل قطر عربي على حدة، وأن التحريف في العامية ليس مطردا وليس واحدا،فهو يختلف من قطر إلى قطر، ويختلف في القطر الواحد من بلد إلى بلد ويختلف في البلدالواحد من حي إلى حي، بل يختلف في الأسرة الواحدة حسب الأجيال التي ينتمي إليهاأفراد الأسرة، طيقا لعامل التغير الذي يعتري اللهجات العامية بصورة ظاهرةسريعة(36). وتتفاوت مظاهر الاختلاففي هذه البيئات فهي مثلا تقل في الأسرة الواحدة،وتبلغ اشدها بين قطر وقطر إلى درجةيتعذر معها أن يتفاهم أبناء قطر مع أبناء الأقطار الأخرى سواء عن طريق التخاطب أمعن طريق الكتابة، وهذا يتضح في بعض الأمثلة التي تستخدم فيها اللهجات العامية منبلاد عربية مختلفة، فالمثال الأول للعامية الجزائرية يقول(37): فإذا ترجمت هذه القطعةالعامية إلى العربية الفصحى،وجدناها تعني حكاية تدور بين تاجر لا يحسن النطق وبينالزبائن الذين يساومونه ، فلذلك ذهب الرجلان إلى السوق ليشتريا فرسا، فصادفا هذاالتاجر يبيع فرسه فسألاه عن ثمن الفرس، فقال لهما خم خم خم .. فقال أحدهما لصاحبه: هيا نمشي، لأننا سنكون قد اشترينا فرسا آخر قبل أن يصل إلى حرف السين، فهل يمكنلعربي في خارج الجزائر أن يفهم هذا الكلام .. العامي .. بغير الاستعانة بمترجم،وكأن حكاية مكتوبة بلغة أجنبية غير العربية(28). وهذه الصعوبة نفسها تنشأعندما نقرأ في إحدى القصص السودانية المعاصرة جزءا من حوار بالعامية السودانية،يقل : "جال : شيخ السوجوين؟ جال ليهو الوليد أحمدباهو، ومنصور رجال ليهو : أي يا أسطى .. جال : السوج اصلوا خلاص براهو مرج من يديمن ايام . الرازح كله الله .. اني ما دير اغشاك، يلاك يا عثمان نشيق منعم، ما تجيفكدى في خشم الباب وتكورك(29) ". هذا الكلام أيضا لايستطيع عربي خارج السودان أن يفهمه إلا بعد الترجمة إلى العربية الفصحى وهي : قال : أين شيخ السوق، قال له الوليد أحمد : هذا هو ، قالمنصور له : نعم وحلم ، قال : إن السوق قد أفلتت من يدي منذ أيام ، الرازق هو الله،أنا لا أريد زيارتك ، هيا بنا نرى منعم ، لا تقف هكذا في فتحة الباب وتكثر منالكلام(40). وهكذا لو أوردنا أمثلةمختلفة من شتى الأقطار العربية مستقاة من لهجاتهم العامية، فإننا سوف نصادف صعوبةبالغة في فهمها، مما يعرقل إلى حد بعيد التفاهم الذي ينبغي أن يكون موجودا بينأبناء الأمة العربية بعامة. وهل لنا أن نتساءل هلالعاميات عامل انقطاع بين العرب في الوقت الحاضر ؟ بحيث لا يفهم لهجة قطرآخر كما تبين مما سبق، كما أنها عامل انقطاع أيضا بيننا وبين تراثنا العربي، وهوتراث كان له دور كبير في بناء الثقافة الإنسانية، وفي تاريخ العلوم الحديثةباعتراف الغربيين أنفسهم، فقد استطاع العرب الأوائل بعد عصر الفتوحات أن يتمثلواحضارات الأمم القديمة وأن يضيفوا إليها من إبداعهم وعبقريتهم في كل المجالات، مماجعل ثقافتهم وعلومهم ركيزة للتقدم الإنساني في العصور الوسطى(41). كانت مؤلفاتهم العلمية فيالطب والرياضيات والفلك والطبيعة والكيمياء والزراعة .. من المراجع الأساسية عندالغربيين وكانت تدرس في جامعاتهم حتى وقت قريب فكتابات ابن سينا في الطب، كما يقوللوبون لم يكف أساتذة جامعة مونبلييه بفرنسا عن شرحها إلا منذ خمسين عاما فقط(42). وكانت مؤلفاتهم الأدبيةأيضا من شعر ونثر لها أثر واضح في الأدب الغربية في القرون الوسطى، اعترف به مؤرخوتلك الآداب، وفي ذلك يقول جب : "لعل خير ما أسدته الآداب الإسلامية لآدابأوروبا أنها أثرت بثقافاتها وفكرها العربي في شعر ونثر العصور الوسطى(43)". وتأسيسا على ذلك ، فإنالقول بأن الفصحى هي اللغة الاتصالية في الإذاعة بوجه عام وفي البرامج الثقافيةبخاصة، سواء في البرنامج العام أو صوت العرب، قول يقوم على أساس شتى العلوم فيالماضي وهي في قدرتها على تناول شتى العلوم في الماضي وهي في سبيل الاتساع لها فيالحاضر كما أنها أثبتت قدرتها على التعبير عن أسمى العواطف والمشاعر الانسانية،ولا يستطيع أحد أن ينكر ما في آدابها من حكم وزهديات وغزل عذري عفيف(44). أما العامية فهي لا تقوىعلى أن تكون لغة للعلم والأدب، لأنها لا تقوم على قواعد وأصول مكتوبة وليس لها نحوخاص، فالأمر فيها متروك لأذواق الناس وأهوائهم، وأن ما بذله بعض المستشرقين مندعاة العامية في سبيل إيجاد قواعد للعامية فقد أكد استحالة وضع هذه القواعد، لابالنسبة للهجات الأقطار العربية المختلفة. الهوامش : 1) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم : مؤتمرالوحدة والتنوع في الثقافة العربية المعاصرة، القاهرة : ذ ـ 11/5/ص 207. 2) د. عبد الحميد يونس : اللغة الفنية، مجلة عالم الفكر،الكويت 14م2. 3) نفسه . 4) نفسه . 5) المرجع السابق، ص 15. 6) نفسه. 7) نفسه. المرجع السابق، ص 16. 9) نفسه. 10) نفسه. 11) الدكتور عبد الحميد يونس : اللغة الفنية ـ مرجع سبق،ص 18. 12) C.a. Cingria(Ses troubadourset la radio) la chambre decros, p.19-23 Paris1947. 13) Cherifkharindar, (Tradition orale et radio dans grandeurset faiklesses de la radio Op. Cit. P.93.) 14) Revue de ParisDecembre1955.p.64. 15) Afrique –Monde , ed. Saint poul, 1963.p.192 16) المرجع السابق ، ص 38 وما بعدها. 17) عبد العزيز شرف : اللغة الإعلامية ـ القاهرة المركزالثقافي الجامعي، هيئة الكتاب. 18) المرجع السابق، ص 39. 19) المرجع السابق ، ص 40، 41. 20) المرجع السابق، ص 42،43. 21) المرجع السابق، ص 43. 22) دونالد ماكويني : فن الراديو ـ الفن الإذاعي ، عدد38 في 11 يناير 1967. 23) نفسه. 24) إذاعة ج.م.ع. في عامها التاسع عشر بعد الثورة، ص 74. 25) نفسه. 26) المرجع السابق، ص 74. 27) المرجع السابق ، ص 30. 28) المرجع السابق، ص30،31. 29) المرجع السابق ، ص 31، د. عبد العزيز شرف، فن التحيرالإعلامي ، القاهرة هيئة الكتاب. 30) نفسه. 31) نفسه. 32) مجلة الإذاعة والتلفزيون : في 22/5/1976. 33) نفسه. 34) المنظمة العربية للتربية والثقافة : مؤتمر الوحدةوالتنوع ـ مرجع سبق ذكره، ص 29. 35) نفس المرجع. 36) المنظمة العربية للتربية والثقافة : مؤتمر الوحدةوالتنوع ـ مرجع سبق ذكره. 37) مجلة المشرق 1925 ـ السنة 3423 ص 127 . 38) نفس المرجع السابق ، ص112. 39) إسحاق إبراهيم إسحاق : قصة أعمال الليل والبلدة،الخرطوم 1970. 40) المنظمة العربية للتربية والثقافة : مؤتمر الوحدةوالتنوع ـ نفس المرجع السابق، ص 113. 41) المنظمة العربية للتربية والثقافة : مؤتمر الوحدةوالتنوع ـ نفس المرجع السابق، ص 113. 42) جوستاف لوبون : حضارة العرب ـ الكتبة العصرية ـالقاهرة، ص 518. 43) هاملتون جب : تراث الإسلام ، ص 189ـ190. 44) المنظمة العربية للتربية والثقافة : مؤتمر الوحدةوالتنوع ـ نفس المرجع السابق، ص114.