* جميل الحجيلان
هل صحيح أن كل ما يقوله الاعلام الغربي عن العرب تطاول وافتراء، وانه من افرازات «صدام الحضارات» الذي يجاهر به ويدعو اليه ساسة الغرب ومفكروه، وان الحملات الاعلامية المتعاقبة التي لا يكاد ينجو منها بلد عربي ليست الا وجها من وجوه حرب الاساءة والتشويه التي اعتمدتها اسرائيل سلاحا ماضيا في صراعها معنا منذ خمسين عاما. وهل نحن حقا مظلومون في ما يقال عنا وفينا، وكيف السبيل لدرء هذا الأذى ودفع هذه الشرور?
كثيرا ما تتحول هذه التساؤلات لحوارات ساخنة في مجالس النخبة العربية لتختلف حولها الآراء الى حد الانفعال دون ان ينتهي بها الحوار لقناعات تبنى عليها مواقف من التصدي العقلاني الجاد للتعامل مع هذه الظواهر المثيرة للغضب.
هناك من يرى ان في الاعلام الغربي، حقا، بعض التحامل علينا، لكنه اعلام لا يختلق الاباطيل. فنحن الذين نغضب لكشفه عوراتنا، فنكابر في ما نحن عليه من سوء حين تقتحم الصحافة الغربية ما هو مستور لدينا، بعيدا عن قيود الرقابة والتوجيه، بعيدا عن الملاحقة وقطع الارزاق التي قد تطال الصحفي العربي عندما يتجاوز الحدود.. ولأن العرب قد اعتادوا على اعلام رسمي يرضي الحاكم وقد لا يرضي المحكوم فإن الصراحة وكشف الحال التي يعالج بها الاعلام الغربي شؤوننا الداخلية تثير في الاوساط الرسمية العربية من ردود الفعل ما قد يضر ولا يفيد ويستهوي في الوقت نفسه اوساط العامة والمثقفين.
وهناك من يرى في الاعلام الغربي طرفا كارها مسكونا بحقده علينا، يغمض عينيه عن كل ما هو ايجابي لدينا يلاحق الصغيرة في حياتنا ليضخمها ويبالغ في تضخيمها ليحيلها لجبل من الامور الشائنة المعيبة امعانا في كرهه وتحامله علينا. لا يعنى بالاستقصاء الموضوعي المحايد، يفتقر الى التحليل، ويكتفي بالنظرة السطحية للأمور لا سيما في ما يتصل بالجانب الاجتماعي من حياتنا فتأتي كتاباته عملا مشوها مبتورا يدفع به الى معارف قارئيه ليلحق بنا الأذى من حيث يريد او لا يريد. وان الاعلام الغربي في مواقفه السياسية هو في الكثير من حالاته ترديد لما يسعى إليه اعداء الاسلام واعداء العرب من الاساءة إلينا.
لا يمكن الاسترسال في عرض دفوع الجانبين تبريرا لرؤيتهم لهذه القضية الهامة، الا ان الثابت هو اننا امام قضية لا يمكن ان ندير رؤوسنا عنها. الاعلام الغربي حقيقة ضخمة، كبيرة في حياتنا السياسية والثقافية ولن تنفع محاولات التقليل من شأنه وقدرته على الاساءة إلينا.. انه قوة هائلة لا قبل لنا بها، عريقة في النشوء، مذهلة في التطور، كاسحة في التأثير تغطي القارات الخمس بلا منازع لتزرع في اذهان الشعوب ما تشاء من الصور، وتدفع بهم الى ما تشاء من المواقف، لا تبالي في ما تتناوله من أحداث العالم بالعرض والتحليل الا ما تراه ـ خطأ أم صوابا ـ معبرا عن قناعاتها.
واذا كان الاعلام الغربي قبل خمسين عاما ضئيل الفاعلية في تأثيره علينا وعلى قضايانا فإن ثورة الاتصالات قد جعلت منه اليوم وسيلة تفوق بقدرتها على الزعزعة والاضرار قدرة الجيوش.
لم يكن للصحافة قبل عدة عقود تأثير يتجاوز حدود المحيط الذي تصدر فيه. فما كانت تنشره جريدة صادرة في باريس او نيويورك يظل محصورا في قرائها التقليديين، وجاءت اعجوبة الاقمار الصناعية والطباعة عبر الفضاء وشيوع الانترنت لتزيل ما كان قائما من حواجز وعقبات. وأصبح المقال الذي يحمل الأذى والبهتان جاهزا لمن يسعى إليه خلال ساعات من صدوره..! وإلى جانب هذا الاحساس بالانبهار يأخذني شعور آخر مزيج من العجز والاحباط وأنا استعرض قصور الاعلام العربي في مواجهة هذا الجبروت.. فشعوب العالم، في معظم الاحوال، لا تعرف عنا وعن قضايانا الا من خلال ما تتلقاه من الاعلام الغربي. والعرب لا يملكون من الصحافة والفضائيات الا ما كان عربيا يتدافع نحوه المعلقون العرب كأن العالم يرصد اقوالهم ليقف على الحقيقة من قضايانا..! والحال هو ان وسائل اعلامنا على ضعف حالها، وانغلاقها على نفسها، وعجزها عن الانطلاق عالميا قد اصبح بعضها مجالا للمزايدات وحرب المواقف والتضليل، لا تجرؤ على مكاشفة المواطن العربي بالحقائق وهي التي جعلت منه رهينة لمبالغاتها منذ ابطال صوت العرب قبل اربعين عاما حتى ابطال بعض الفضائيات في يومنا هذا.
ما العمل اذن كي يواجه العرب الاعلام الغربي مواجهة عقلانية تمنح دفوعهم مصداقية القبول، بعيدا عن انفعالات الكبرياء. اعتقد ان سبيلنا الى ذلك أمران: تحصين الجبهة الداخلية من خلال استكمال النقص والاصلاح، والحوار المتواصل الهادئ مع الاعلام الغربي على اختلاف مشاربه.
ولعل اقرب مثل يتناول الحالة التي نشكو منها ما تتعرض له المملكة العربية السعودية من ضغوط اعلامية غربية منذ احداث سبتمبر التي جعلت من المملكة الهدف الذي تنهال عليه السهام والرماح. وما تزال الحملة ضارية محمومة لا تريد ان تفهم ولا تريد ان تعي. ولا بد من الاعتراف بأن ما ارتكزت عليه الحملة الاعلامية منذ احداث سبتمبر اكثر ضررا وأبلغ مدى من أية حملات اعلامية سابقة. ومن الحكمة ألا نستهين بأثر هذه الحملات. فالرأي العام العالمي تحدد مساراته ومواقفه من الدول والشعوب وسائل الاعلام شئنا أم أبينا. وقد رأينا كيف تعمد الدول الكبرى الى الاستعانة بالاعلام وهي تعد لعمل سياسي ضخم من أجل تهيئة الرأي العام الداخلي والخارجي لقبول ذلك العمل وتأييده كما حصل في افغانستان والعراق. ولن يفيدنا في شيء ان ندفع بالقول بأنها حملات مغرضة ـ حتى وان كانت فعلا مغرضة ـ بل علينا ان نرصد باهتمام مواقف وسائل الاعلام ونفتح معها حوارا صبورا طويل النفس هادئا نبدأه بالخصوم قبل الاصدقاء ونتيح لها مداخل الاطلاع على ما تريد حتى لا يدفع بها انغلاقنا على النفس لتصورات واهمة واجتهادات خاطئة او شائعات يروج لها المرجفون.. ولقد انتهت بي اربعون عاما من العمل الاعلامي والدبلوماسي لقناعة كونتها تجارب السنين بأن الحوار ينفع ولا يضر وان مكاسبه اكثر من احباطاته وان الانسان لا يولد كارها لانسان آخر وان مواقف الانسان، اي انسان، من الاحداث والناس تحددها مصادر المعرفة التي يتلقاها، لا سيما من اعلام قوي النفوذ، طويل الذراع، دائم التواجد، سريع التأثير، كالاعلام الغربي في اوروبا والولايات المتحدة الامريكية. ولن يحقق الحوار مقاصده الا اذا احترمنا ذكاء الآخرين واعترفنا بقدرتهم على فهم الحقائق في عالم زالت فيه امكانيات التواري خلف الواجهات.
منقول من
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]