تمثّل وسائل الإعلام سلطة ما، ربّما تكون رابعة، بالنّظر إلى استعمال توكفيل لهذا المصطلح في السّياق الأمريكيّ، فالصّحافة حسب رأيه سلطة تضاف إلى السّلطة المركزيّة الفيدراليّة والسّلطة المحلّيّة، والسّلطة الجمعيّاتيّة، وربّما تكون رابعة بالنّظر إلى الاستعمال الفرنسيّ، فهي سلطة تضاف إلى السّلط الثّلاث التّقليديّة : التّشريعيّة والتّنفيذيّة والقضائيّة.
طبعا لم تعد السّلطة الرّابعة تقتصر على الصّحافة المكتوبة بل اتّسعت إلى وسائل الإعلام والاتّصال السّمعيّة البصريّة والأنترنيت. ومع هذا الاتّساع، اتّسعت سلطة "السّلطة الرّابعة"، واتّسع تأثيرها والتصقت بهذه الوسائط صفة الجماهيريّة، وأصبحت جزءا من اسمها : mass-media.
نقتصر في هذا الملفّ الأوّل عن "السّلطة الرّابعة" بالبحث في علاقتها بالثّقافة والفكر، وفي خصائص الثّقافة التي تنتجها الوسائط الحديثة، باعتبارها وسائط جماهيريّة.
يمكن أن ننطلق في طرح الأسئلة من تعريف جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovetsky لـ"ثقافة الجموع" في كتابه "امبراطوريّة العابر" : "ثقافة الجموع هي ثقافة استهلاك، كلّها مصنوعة من أجل المتعة المباشرة، ومن أجل ترويق الفكر. يكمن إغراء هذه الثّقافة جزئيّا في البساطة التي تعتمدها. لا بدّ [في ثقافة الجموع هذه] من تجنّب التّعقيد، ومن تقديم تواريخ وشخصيّات يمكن تعريفها آنيّا، ولا بدّ من تقديم منتوجات ذات تأويل أدنى."
إلى أيّ مدى تجوز المرادفة بين "ثقافة الجموع" و"ثقافة الاستهلاك"؟ وهل "التّفاهة" سمتهما؟ وكيف نعرّف هذه المقولة الجديدة؟ ما نوعيّة ثقافة التّرفيه وما علاقتها بالفكر النّقديّ؟
ثمّ ما علاقة وسائل الإعلام وثقافة الجموع بمنطق السّوق وبتبضيع النّتاج الثّقافيّ وبثقافة الرّبح المجانيّ المنتشرة في الفضائيّات؟ وما علاقتها بالأنشطة الإبداعيّة التّقليديّة كالأدب والفنّ؟
وإذا كان الإعلام في التّفكير السّياسيّ الدّيمقراطيّ سلطة رابعة مضادّة للسّلطة، أو مراقبة للسّلط الثّلاث ولشتّى انحرافاتها، فإلى أيّ مدى حادت الكثير من وسائل الإعلام الحديثة عن مهمّتها السّياسيّة هذه، لتنتج الدّعاية والدّيماغوجيا، ولتشجّع الاستجابة الشّرطيّة بدل التّفكير والنّقد والإبداع؟
ما نوعيّة النّماذج التي تنتجها وسائل الإعلام وما طبيعة النّجوم التي تنتجها؟ ومن هم "مثقّفو الميديا"؟ وأيّ تصوّرات للسّعادة تنتجها؟ وما نوعيّة العواطف التي أصبحت تنسب إلى الإعلام فيما يعبّر عنه في بعض اللّغات الأوربّيّة بـ" العواطف الإعلاميّة"؟
وإذا كان الإعلام سلطة رابعة، فمن يمتلكها، وأين تكمن مسؤوليّته وأين تقف حرّيتها؟ ومن يحاسب أجهزة الإعلام؟ ومن يمثّل سلطة مضادّة لها؟
سبق أن فتحنا ملفّا يهمّ الإعلام جزئيّا هو ملفّ " الرقابة بوجوهها وأقنعتها المختلفة"، ونشرنا مساهماته في كرّاس من كرّاسات الأوان. وقد طرحنا هذا الملفّ من وجهة نظر الإعلام في مواجهة السّلطة. لكنّ مستجدّات كثيرة تدعونا إلى فتح الملفّ الموازي، عن الإعلام باعتباره سلطة.
ملفّ ندعو كتّابنا وقرّاءنا الكرام إلى التفكير فيه خلال هذه الصّائفة، وننشره في شهر سبتمبر/ أيلول.
التعليق على هذا المقال