الفقر والثقافة وأشياء أخرى
بقلم.ساجدة الموسوي
سألني سائل : هل هناك علاقة بين الفقر والثقافة ؟
أجبته : في الغالب الأعم نعم فالفقر يتسبب في فراغ يدفع الإنسان إلى البحث عما يملأ به هذا الفراغ, وبما أن الفقر يحرم المرء من متع كثيرة كالسفر والنقل المريح والمأكل والملبس تبقى المتعة الأخيرة للفقير ألا وهي القراءة , إضافة إلى أسباب أخرى كالتأمل الذي يدفع الفقير للبحث عن أجوبة لتساؤلاته الفلسفية الحائرة فيهرع للكتاب عسى أن يجد فيه أجوبة ً على الأسئلة التي ظلت تؤرقه.
وعلى مدى عقود مضت لم تكن القراءة تكلف ثمنا ً باهضا ً لأن الكتب والمجلات كانت تباع بأسعار معقولة , وكانت إضافة إلى ذلك المكتبات العامة ومكتبات المدارس والجامعات والمراكز الثقافية معبأة بأحدث الكتب والإصدارات في مختلف فنون المعرفة والثقافة . وحكى لي أحد الأدباء ممن درس في شبابه في قرية نائية وكان السفر للمدن مكلفا ً لهم قال : كنا أربعة أصدقاء كل شهر يشتري أحدنا كتابا ً نتداوله بيننا وفي نهاية العام نتقاسم هذه الكتب فقرأنا لنجيب محفوظ وتولستوي وطه حسين وشوقي والرصافي وغيرهم من الأدباء , وقال لي أحد الكتاب أنه كان من المدمنين على شراء الكتب المستعملة لأنها أرخص ثمنا ً وكان يجد فيها ما يتمناه من قصص مترجمة وروايات وكتب في النقد والفلسفة وما إلى ذلك , وآخر قال لي أنه كان يستعير من أصدقائه الكتب الجديدة فإن لم تعجبه أعادها وإن أعجبته أعارها لآخر من أصدقائه الفقراء , ولي صديقة كلما أسافر تكلفني بكتاب أو أكثر من آخر الاصدارات العالمية وكنت أسألها إن كانت ترغب في فستان جميل أو عطر , تجيبني : أنا لبوسي وعطري الثقافة ...
إن الحديث كما تقول العرب ذو شجون فكيف إذا كان عن الكتب لمن يحب الكتب ؟
عاد سائلي فقال ولكن لماذا لا يشجع الغنى على القراءة ؟ أجبت : الغالبية من الأغنياء تمتلئ أوقاتهم بكل ما هو مسلي ومفيد وهم يعتبرون الحفاظ على الثروة والمال الذي هيأ لهم كل ما يحتاجونه في الحياة أهم من الكتاب والثقافة ... كما أن اندماجهم بالأوساط المترفة يجعل اهتماماتهم بعيدة عن الكتب وهمومها .. وكما أن لكل قاعدة شواذ فإن الكثير من أولاد الأغنياء اهتموا بالتعليم والثقافة وبعضهم أصبحوا أعلاما ً في الأدب والطب والهندسة وغيرها من العلوم أو الفنون , وهؤلاء أغلبهم تربوا في أسر تحترم العلم والثقافة لأنهم وجدوا فيها ما يعلي شأنهم أكثر من المال والجاه فهما من الغنى الزائل أما غنى الثقافة والمعرفة فهو باق وخالد .
كان ما تحدثت به ينطبق على زمن ربما مضى عندما كان الفقير على فقره يستطيع دخول المدرسة ويتعلم ويسعى للوصول إلى الكتاب الذي لم يكن ثمنه فاحشا ً , ماذا نقول اليوم ( وأنا أتكلم ضمن الإطار العربي العام) عندما أصبح دخول المدرسة يعني ميزانية خاصة للأسرة العربية , وحين ترتفع نسب الأمية لتبلغ في وطننا العربي ( 80 ) مليون أمي ! وحين يصبح الكتاب عملة نادرة , وتشح المكتبات العامة حتى لا تصبح في متناول الفقراء , وحين يزداد الفقر في بلادنا العربية إلى ما يقرب من النصف ( من هم تحت خط الفقر ) وربع فوقه ! والمغني يصدح صوته في المقاهي العربية (الأرض بتتكلم عربي .. الأرض الأرض ) , وأنا أكلم الضمير العربي علـّـه يتحرك لمحاربة الفقر والجهل والمرض , ذلك الثالوث المقيت الذي تخلصت منه دول الشمال وبقينا رغم كل ما لدى أمتنا من ثروات نعاني منه بقسوة لا نستحقها.