بين الثقافة والإعلام علاقة تجاور طبيعي تفرضه خصائص كل منهما، ومجالات اهتماماتهما وميادين عملهما، ولكن هذا التجاور - كما هو واقع في دنيا الناس - قد يكون تجاوراً إيجابياً، فيه تفاهم وتعاون، وقد يكون تجاوراً سلبياً، فيه الخصام والتنافر، وربما يكون - في بعض الأحوال - مجرد تجاور مكاني لا تفاعل فيه، لا سلباً ولا إيجاباً. فأي تجاور من هذه الأنواع هو ما نجده بين الثقافة مضموناً ورموزاً، وبين قنواتنا الفضائية العربية ؟!، هل هو التجاور الإيجابي المتفاعل، أم هو التجاور السلبي المتنافر، أم هو التجاور المكاني الذي لا روح فيه ؟! .
نخشى أن يكون هذا التجاور أقرب إلى الخصام منه إلى الوفاق، وأن يكون التفاعل بينهما مفقوداً أو يكاد، وإذا كانت الثقافة - في الماضي - تعتمد في انتشارها ووصولها إلى الجماهير على وسائل متعددة، فإنها اليوم - مع تطور وسائل الإعلام الجماهيرية واقتحامها للعديد من الحواجز - لا تستغني عن الإعلام، ولا يمكن أن نتصور لها دوراً فاعلاً ومؤثراً في المجتمع بدون تمتين علاقتها بالإعلام واستثمارها إمكاناته الكبيرة .
وأكاد أزعم بأن الإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيلة لنقل الثقافة وتوسيع دائرة انتشارها، بل إنه يقوم - بالإضافة إلى ذلك - بمهمة أخرى ذات أهمية كبيرة هي الإسهام في تحديث الثقافة وتجديد معطياتها وتطوير أدواتها وأساليب صياغتها؛ لتلبي حاجات الأفراد والجماعات، وتتجاوب مع إيقاع العصر بكل ما يتم به من حيوية وجاذبية وسرعة حركة .
الإعلام لا يستغني عن الثقافة:
ومن جهة أخرى فإن الإعلام اليوم لا يستغني عن الثقافة لأمرين اثنين : أولهما : أن الوظيفة التثقيفية لوسائل الإعلام تقع في الصميم من الوظائف التقليدية للإعلام منذ بدأ علماء الاتصال والإعلام تحديد تلك الوظائف وتقنينها، ولعل أول مَن قام بذلك الباحث الأمريكي هارولد لاسويل في عام 1948م، عندما جعل "نقل التراث الاجتماعي من جيل إلى آخر" وظيفة رئيسية من وظائف الإعلام الثلاث .
أما الأمر الآخر : فيتمثل في أن كل وظيفة من الوظائف الأخرى التي أشار إليها لاسويل أو أضافها فيما بعد باحثون آخرون - تتضمن بالضرورة بُعداً ثقافياً، فوظيفة الإخبار التي سماها لاسويل "مراقبة البيئة" - تغطي عدة جوانب ثقافية، كما أن وظيفة التفسير والتوجيه التي سماها "ربط أجزاء المجتمع علائقياً بالبيئة" لا يمكن أن تتم بمعزل عن القيم الثقافية السائدة في المجتمع، أما الوظيفتان الأخريان اللتان أضافهما مَن جاءوا بعد لاسويل - وهما وظيفتا الإمتاع والترفيه، والإعلان والترويج - فإن لهما صلة عضوية بالثقافة، من حيث صدورهما من خلفية ثقافية معينة بالضرورة، واستهدافهما تحقيق أغراض ثقافية في المحصلة النهائية، بصرف النظر عن تقويمنا لهذه الأغراض وفق معايير التحسين والتقبيح . ومن هنا نؤكد أن العلاقة الصحيحة المنشودة بين الإعلام والثقافة هي علاقة التجاور الإيجابي، التي تقوم على التفاعل الحي والتبادل المثمر والتعاون المستمر.
إن نظرة فاحصة على واقع المشهد الثقافي العربي - كما تعبر عنه قنواتنا الفضائية - تدلنا بوضوح على وجود خلل كبير في العلاقة بينهما، ويمكن أن نشير هنا إلى عدد من مظاهر ذلك الخلل :
أولها: ضمور الاهتمام بالثقافة الجادة النافعة في الفضائيات العربية، ويتمثل هذا في ضآلة نسبة البرامج الثقافية فيها، قياساً إلى نسب المواد والبرامج الترفيهية والرياضية وغيرها، ويضاف إلى ذلك أن البرامج الثقافية المحدودة التي تقدمها الفضائيات تفتقر - في الغالب - إلى الرؤية الشاملة والمتكاملة مما يجعلها مجرد أشتات من الثقافة العامة، التي لا يجمعها إطار فكري محدد، أو توجهها غايات استراتيجية، سواء أكانت إسلامية أو قومية أو وطنية .
وثانيها: غلبة الاتجاه التغريبي في نسبة عالية من البرامج والمواد الثقافية والترفيهية التي تقدمها الفضائيات العربية، سواء في توجهاتها أو في مضامينها، أو حتى في أساليب عرضها، ويتمثل هذا - على نحو واضح - فيما تقدمه هذه الفضائيات للطفل العربي من برامج ومسلسلات وأفلام وإعلانات تمتلئ بمشاهد العنف والجريمة والسلوكيات المنحرفة، فضلاً عما تنقله من أوضاع وظروف وقيم فكرية وثقافية بعيدة عن ثقافتنا العربية، أو تتناقض معها بالكلية، ويتمثل الاتجاه التغريبي - أيضاً - فيما تقدمه الفضائيات العربية من برامج ومواد للمرأة العربية، لا تعبر عن القيم الدينية والفكرية للمجتمع العربي المسلم، بل تروج - على نحو أو آخر - لأسلوب الحياة الغربية، وتصور المرأة - في الغالب - بوصفها سلعة للمتاجرة، أو مجرد أداة للمتعة والإغراء الرخيص ! .
وثالثها: هزال المضمون الثقافي الذي تقدمه الفضائيات العربية، وافتقاره إلى الشمول والتنوع، ويغلب على هذا المضمون الموضوعات التقليدية وقضايا التراث المستهلكة، ويندر - مثلاً - أن نرى في هذه الفضائيات برامج متقنة، تستهدف تسهيل الثقافة العلمية ونشرها، ويقل اهتمام هذه الفضائيات بالبرامج التي تعنى بالثقافة السياسية والاقتصادية، وليس مجرد العروض الإخبارية الآنية، كما يشتكي رجال الأدب والإبداع من محدودية البرامج التي تهتم بالتيارات الأدبية ونتاجات المبدعين في الحقول المختلفة .
ورابعها : الميل إلى التسطيح واللجوء إلى الإثارة في الخطاب الفضائي، الذي تقدَّم به المادة الثقافية، ويتم هذا - بالطبع - بدعوى جعْل هذه المادة أكثر جماهيرية، مما ينتج عنه مسخها وتتفيهها ؛ لتكون أقرب إلى المواد الاستهلاكية الرخيصة، التي تقتات منها الفضائيات لزيادة حجم جمهورها وزيادة مبيعاتها .
وخامسها: غياب الحوار الهادف في البرامج والمواد المصنفة في الفضائيات العربية في باب البرامج والمواد الثقافية .
أمراض مزمنة وعلاج
إن معظم ما يقدم في هذا الإطار يميل إلى أساليب التلقين والتعليم المباشر، ويبتعد كثيراً عن روح الحوار والنقاش، ويعاني من أمراضنا المزمنة مثل أُحادية التفكير وشللية التناول والتعامل بروح الحزبية والانغلاق الفكري، وقليلاً ما تقع على برامج ومواد ثقافية تتجه إلى إيقاظ ملكات العقل ومخاطبة القدرات المنطقية للإنسان، وقليلة جداً هي تلك البرامج التي تحترم التعدد في طرح الآراء، وتسعى إلى إفساح المجال لاختلاف الاجتهادات وتنوع الرؤى، أما البرامج الحوارية الجادة فيغلب على كثير منها الانفعال الحاد وتعالي الصراخ وتبادل السباب والاتهامات؛ مما يحولها إلى ساحة صراع للديكة وفرصة لتصفية الحسابات وبذلك تفقد روح الحوار البنَّاء، الذي ينير البصائر، ويجلِّي الحقائق ويوفر المعلومات ويقارع الحجة بالحجة .
ولعلاج هذا الاختلال الواضح في العلاقة بين الثقافة والفضائيات العربية لا بد من تأكيد الحاجة الماسة أولاً إلى بلورة رؤية عربية ثقافية شاملة ومتكاملة، ينطلق منها العمل الثقافي المنشود في وسائل الإعلام المختلفة، بما فيها الفضائيات، إن المعضلة التي نعانيها لا تتجسد في اختلال العلاقة بين الإعلام والثقافة فحسب، فهذه المعضلة هي جزء من الأزمة الكبرى للأمة والمتمثلة في اهتزاز الرؤية نحو هويتنا الذاتية ومكوناتها الفكرية والثقافية وكيفية تحقيقها في واقع حياتنا المعاصرة؛ ولذلك لا ينبغي أن نحمِّل الإعلام - وحده - المسؤولية كلها في علاج المشكلة .
إن العلاج الناجح يحتاج إلى جهود العلماء والمفكرين والساسة والمخططين والإعلاميين والمثقفين والموجهين والمربين، وكل هذه الجهود لا يمكن أن تثمر إلا إذا انطلقت من رؤية حضارية واضحة المعالم، سواء على المستوى القومي العام للأمة أو على المستوى الوطني الخاص لكل بلد عربي .
وما ننشده في هذه الرؤية الثقافية العربية هو أن تكون رؤية أصيلة، تنبثق من ثوابت الأمة وفكرها المميز من جهة، وتكون رؤية ومنتجاتها من جهة أخرى، وبذلك يمكن تقديم ثقافة نافعة ومبدعة ومستنيرة تسعى إلى ترسيخ وعيها بهويتها الإسلامية، وتسهم في تحقيق غايات التنمية المرجوة لرفعة الأمة .
وإذا كان وجود الرؤية الثقافية الشاملة هو أساس العلاج للخلل الواقع في علاقة الإعلام بالثقافة في مجتمعاتنا العربية - فإننا لا ينبغي أن نغفل عن عنصرين أساسيين آخرين من عناصر العلاج، وهما : تهيئة الكفايات البشرية التي يقع على عاتقها همّ صناعة تلك الثقافة في وسائل الإعلام، وتوفير الدعم المادي لتمويل إنتاج البرامج والمواد الإعلامية التي تجسد تلك الثقافة المنشودة وتقدمها للجمهور في إطار رفيع من الحرفية والإتقان المهني والإبهار الإعلامي .
ولا ينبغي الاستهانة بهذين العنصرين ودورهما الكبير في تحقيق الغاية المرجوة، فليس المطلوب أن تُملأ الفضائيات العربية بالبرامج والمواد الثقافية كيفما اتفق، إن صناعة المادة الثقافية إعلامياً فن له أصوله وقواعده ومتطلباته، ولا يصلح كل مثقف أو متخصص ليقدم برنامجاً ثقافياً أو متخصصاً، كما لا يصلح أي مذيع أو معد نصوص تلفازية للقيام بمهمة إعداد وتقديم برنامج ثقافي أو علمي .
إننا بحاجة إلى طبقة خاصة من الإعلاميين والمثقفين والعلماء والمتخصصين ممن تمكنوا في مجالات تخصصهم أو إبداعهم من جهة، واكتسبوا الدربة والمران الاحترافي والرؤية الإعلامية التلفازية من جهة أخرى، وهذه الطبقة تحتاج إلى إعداد وتأهيل وصقل وتدريب .
أما مسألة التمويل فلا يمكن للثقافة أن تنافس بالإنتاج المتألق الجذاب إلا بتوافر تمويل كافٍ، وهذا التمويل لا يتوقع أن يأتي من أصحاب القنوات الفضائية الذين يبحثون عن العوائد السريعة لاستثماراتهم، ومن هنا فلابد من تضافر جهود الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة، وشركات ومؤسسات القطاع الخاص من جهة أخرى؛ للمساهمة في تمويل المشروعات والبرامج الثقافية في الفضائيات العربية .
ومن المؤسف أن تبخل الحكومات العربية والمؤسسات الرسمية الوطنية منها والمشتركة في الإنفاق على هذا الميدان وأن تتخلى عن مسؤولياتها تحت أعذار واهية، متجاهلة أن الإنفاق على المواد الثقافية هو - في حقيقته - استثمار وطني تجني ثماره الأجيال عبر الزمن، وهذا ما نجده في الكثير من الدول المتقدمة باهتمامها البالغ بالاستثمار في المجالات الثقافية كتمويل صناعة الكتاب، وتنفيذ المشروعات الثقافية، وتطوير تقنيات الاتصال والمعلومات وغيرها.
ومن المؤسف - أيضاً - أن المؤسسات والشركات العاملة في القطاع الخاص في العالم العربي لم تدرك - إلا مَن رحم ربي - مسؤوليتها القومية والوطنية في ضرورة مساهمتها في دعم وتمويل البرامج والمواد الثقافية الجادة في وسائل الإعلام وبخاصة الفضائيات، بينما نجد في الدول المتقدمة اهتماماً متنامياً من الشركات والمؤسسات الخاصة للمساهمة السخية في تمويل هذا اللون من البرامج ورعايتها، يحفزها في ذلك شعورها بالواجب الاجتماعي من جهة، وتقديرها للأثر الإيجابي بعيد المدى لمثل هذه النشاطات في تأكيد صورتها الحسنة ومكانتها بين أفراد المجتمع من جهة أخرى، كما أننا نجد أن الجمعيات والهيئات الخيرية في تلك الدول تشارك أيضاً في دعم المشاريع الثقافية ورعايتها، بما فيها البرامج الثقافية في وسائل الإعلام، وتعد ذلك عملاً استثمارياً، حتى وإن لم يحقق لها عوائد مادية مباشرة .
إن إعادة النظر في هذه العلاقة المختلة - بين الثقافة والفضائيات العربية - غدت ضرورة حضارية ملحة، وتتأكد هذه الضرورة في ضوء الخطوات المتسارعة "لعولمة" الإعلام التي تتيح لثقافات الآخرين الفرصة للتمدد والانتشار في عمقنا العربي، وتمكَّن لتصوراتهم الفكرية ومناهجهم الثقافية وإفرازات قيمهم الاجتماعية وأنماط حياتهم - من أن تغزو بيوتنا وتخترق عقول أجيالنا .
ولقد آن الأوان لإصلاح تلك العلاقة المختلة قبل أن ينتهي بنا الأمر إلى أن تصبح فضائياتنا العربية معاول هدم لصالح أولئك الذين يريدون لأمتنا ألا تنهض من جديد، ويكون لها موقع محترم بين الأمم.