مختبر صناعة الكفاءات !!
د.عبدالله القفاري
يأتي هذا السؤال ضاغطاً في كل مناسبة تقرأ فيها ملامح إنجاز أو آثار إخفاق. ما الدور الذي تضطلع به الكفاءة الإدارية على رأس أي قطاع باعتباره العنصر الأكثر أهمية في تقدير الانجاز أو مسؤولية الإخفاق؟
هل هناك فعلًا مختبر لصناعة الكفاءات التي يمكن تقديمها لقيادة المؤسسات والقطاعات؟ أم أن الكفاءات تعلن عن نفسها، وتأخذ مكانها عبر رحلة إدارية أو تسلسل لا يتطلب مختبرا لصناعتها، طالما أنها تتموضع حول عنصر إبداعي لا يمكن إخفاؤه في الشخصية القيادية، ولا يمكن تجاهل نتائجه في مسيرة أي قطاع أو منشأة أو مؤسسة.
مختبر صناعة الكفاءات هو سجل حافل بالانجاز، يعتمد على صناعة الكفاءة الموهوبة منذ المراحل الأولى لتعاطيها مع الوظيفة العامة وقياس أدائها ورصد قدراتها ومحاكمة إنجازاتها.
لا أعتقد أن هناك مجتمعات خاصة في ما يطلق عليه الدول النامية تخلو من شروط وعلاقات ليس عنصرها الوحيد كفاءة الانجاز في تصعيد الكفاءات لسلم القيادة الإدارية، إلا أن هناك خللا كبيرا تدفع ثمنه المجتمعات من رصيدها التنموي وإمكاناتها الذاتية إذا فقدت القدرة على تقدير العناصر المستحقة للتصعيد الإداري لتصل إلى قمة المسؤولية وتتولاها بكفاءة الانجاز واستحقاق الجدارة.
لا يلام المجتمع عندما يرمي بمسؤولية الإخفاق على رأس الهرم الإداري في أي قطاع يطال حياته ومستقبله، مع أن كل عمل قيادي إداري هو عرضة لصراعات وعقبات ربما أفشلت حتى الأفكار الكبرى التي يمكن أن تتبناها بعض القيادات الإدارية. هناك قوى أخرى تلعب دورا مؤثرا في مشهد الانجاز أو الإخفاق، إذ تصبح مصالحها ومراكزها ونفوذها عرضة للتأثر أو الخسارة، فتدافع عن مواقعها ومصالحها عبر ممانعة تصل إلى حد تعطيل أي جهود تضع مصالح المجموع قبل مصالح الفئات النافذة، ناهيك عن اللوبيات والتحالفات التي قد تسقط تلك العناصر الإدارية الفاعلة في حالة أن تصبح قراراتها ومشروعاتها لا تؤخذ بالاعتبار، أو تتجاوز مصالح تلك الأطراف.
أمام تحديات كبرى تواجه المجتمع، واستحقاقات لا تنتظر، ينظر الناس بعين الأمل إلى الكفاءة الإدارية التي تتولى منصبا كبيرا في قطاع ذي صلة بحياتهم باعتبارها المخلص، خاصة إذا كان قدومها بعد تعثر وانكشاف وتراجع، ويعلقون منذ ساعات التعيين الأولى أمنياتهم الطيبة بجوار مطالبهم المتعثرة أمام المسؤول الجديد. ويحمل هذا بعدا نفسيا لدى هؤلاء، باعتبار أن التغيير في بعض الحالات عملية ايجابية، لعلها تعالج ما تعثر وتنقذ ما يمكن إنقاذه وترسم ملامح مستقبل يكون شاهدا على مرحلة إنجاز في عهد جديد. إلا انه ليس بالضرورة أن تستمر تلك الحالة من التفاؤل، خاصة عندما يصبح التعثر مستمرا والانجاز متراخيا والوعود الجميلة تذهب أدراج الرياح، فحينها لن يروا شهاب الدين أفضل من أخيه.
وقد تمر سنوات طوال على مسؤولين يتسنمون مناصب ومسؤوليات، وتلك القطاعات تعاني خللا وعجزا فاضحا عن بلوغ غاياتها وأهدافها، ومع ذلك تبقى تلك المؤسسات تعاني من ظلال إدارة لا تتسم بالكفاءة. هذه الظاهرة تستدعي أيضا سؤال الإبقاء على عناصر إدارية لا يعني بقاؤها سوى أنها جزء من حالة قدرةٍ، وإمكانات متقدمة ونجاح متواصل وهذا ما يفترض، لا أن يكون استمرارها إعلاناً عن إخفاق مستمر أو تيسير يومي لا يتحدى المعوقات، ولا يحقق الطموحات أو يطال الأهداف الكبرى.
وقد يضج الرأي العام بما يتوفر للتعبير عنه من صحافة وسواها، حول بعض السياسات التي تتبعها قطاعات تلقي بظلالها على مصالح المجتمع وتهدد نموه، وتمكن من الثغرات في بنيته، فلا تستدعي تلك التساؤلات التفاتة تجعل من المسؤول أمام محاكمة عادلة ومنصفة من جهات تملك سلطة البحث والتحقيق والمساءلة.
لكل هذه الشواهد وغيرها ... تلح فكرة أي مختبر تصنع فيه الكفاءات، وأي ملامح تجعل منها نجوما إدارية في مناصب عليا تقوى من خلالها على إبداع منظومة قادرة على مواجهة متطلبات الحاضر لمجموع بشري يضع كل ثقته بها، ناهيك عن استحقاقات مستقبل قد يكون شاهدا لها أو عليها.
وفي المقابل لا يمكن تصوّر مجتمع كبير يتقدم فيه التعليم العالي والتخصص والبعثات ويراكم تجربة إدارية أصبحت جزءاً من مسيرته وتطوره في مختلف المجالات، وهو خلوٌ من حضور جيد لكفاءات حققت نجاحات متواصلة في القطاعات التي عملت فيها أو ساهمت في إدارتها، كما يتوفر كم كبير من طاقات يمكن اختبارها وتجريبها وتقديمها في مشهد إداري. وهذا محكّ مهم يجعل مختبر صناعة الكفاءات علامة مميزة وحاضرة وشاهدة على القدرة.
وفي مشهد الإخفاق العربي تنموياً تطرق كثيرون إلى الفشل الإداري، وهناك من جعل العنصر الأساسي في تمكين هذا الفشل مرتبطا بتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة. وعندما أصبح أهل الثقة - مع التحفظ في تقدير عناصر تلك الثقة - مقدمين على أهل الكفاءة حد احتكار المناصب العليا في الوظيفة العامة، تراكمت في المشهد التنموي سلسلة من الأخطاء الفادحة والعجز الفاضح ليكون شهادة على تلك الأنظمة لا شهادة لها. والأخطر من هذا شيوع الثقافة الانتهازية في جيل تلك القيادات الإدارية، ناهيك عن استغلال المناصب لتحقيق الإثراء غير المشروع، والتراخي في حماية المال العام، لتصبح تلك من الظواهر العربية التي ألقت بظلالها الكارثية على منظومة القيم الأخلاقية والوظيفية.
ولا يمكن اختبار الكفاءات إلا على محك التجريب وضمن معادلة الإنجاز. لا يمكن أن يكون مختبر صناعة الكفاءات شهادة علمية أو تسلسلاً إداريا باهتا، أو امتثالا قلقا لإجراءات بيروقراطية، قدر ما هو تجربة في مفاصل الانجاز والإبداع والقدرة الذاتية تجعل الترقي جزءاً من مشروعية استحقاق.
مختبر صناعة الكفاءات هو سجل حافل بالانجاز، يعتمد على صناعة الكفاءة الموهوبة منذ المراحل الأولى لتعاطيها مع الوظيفة العامة وقياس أدائها ورصد قدراتها ومحاكمة إنجازاتها.
المختبر الكبير لصناعة الكفاءات يبدأ من المناصب الدنيا وعلى مقومات التكليف بقضايا محددة، ومن ثم تقاس نتائج التجربة وتوضع في سلّم الانجاز المتوالي حتى الصعود لمناصب أخرى أكثر أهمية.
والشهادة بالاستحقاق ليست تزكية فردية بل إنها يجب أن تكون شهادة جماعية تستند إلى وقائع نجاح يمكن قياسه وتقدير آثاره.
"القوي الأمين" توجيه رباني في إدارة المجتمع. وفي مختبر صناعة الكفاءات يتم اكتشاف هذا القوي الأمين. فأمانة بلا قوة، قد تكون تسييراً حذراً قلقاً من مواجهة القضايا الكبرى، وتراخياً في مواجهة خصوم يهددون مشروع إنجاز يستهدف صالح المجموع. والقوي بلا أمانه كارثة تضاف إلى كوارث مشهد الوظيفة العامة التي قد تصبح وسيلة للإثراء واستغلال المنصب. يداري القوي ضعف أمانته بتحالفات ومواجهات يكسب من خلالها أحيانا بقاء الحضور لكنه لا يقوى على مواجهة سؤال: من أين لك هذا؟
وفي بيئة اجتماعية قد يصعب عليها تقدير الكفاءات، ربما كان من الأولى أن يعلن مع قرار التكليف سجل انجاز المكلف ليصبح في عين المجتمع، وليدرك أن هذا التكليف لم يأت إلا عبر سلسلة طويلة من الأداء المتميز والانجاز الحافل، ناهيك أن قرار التكليف يأتي لمواجهة مهام وقضايا يجب معالجتها، وهذا ما يجعل البقاء في هذا المنصب مرتبطاً بالانجاز، ومن ثم يكون فرصة لقياس ما تحقق بعد فترة كافية تجعل الحكم على الكفاءة حكماً موضوعياً ومنصفاً..