يمكن أن يمتد المضمون الثقافي للعولمة إلى تاريخ يبدأ بالغزو التبشيري حيث شهد العالم محاولات مجموعة من الغرب الصناعي لاختراق ثقافات الأم والشعوب في عالم الجنوب[1]... والعولمة في هذا المضمار وهي تجدد بريقها مثلها مثل أي جديد في مرحلته الأولى حيث تؤدي في وقت واحد إلى انبهارات عظيمة من جهة وآلة تسفيه عظيم من جهة أخرى وهذان طرفان متناقضان، تمكن الإشكالية في سبل التوفيق بينهما، فضلا عما سيترتب على من سينبهر بها محققا غايتها، وما سيترتب على من يقف نِداً لها بحيث يدفعه موقفه المضاد هذا إلى التقوقع على الذات.
ويمكننا القول إن هذه الإشكالية يمكن تجاوزها من قبل من أبدى استعداده لها مع عدم تناسيه أن له ذاتا سورتها ثقافة عريقة عليه المحافظة على خصوصياتها تارة والعمل على تطويرها ومواكبتها مستجدات العصر بالشكل الذي لا يفقدها خصوصيتها تارة أخرى، والموقف تجاه العولمة اتخذ مسارات ثلاثة منها ما كان قبولا مطلقا، ومنها ما رفضا مطلق ومنها ما كان قبولا أو رفضا مقترنا بشروط، وهذه المسارات الثلاث تمثل ردود فعل على الفعل العولمي الذي ما برح يعزز آليات تجد منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو ثقافي، بحيث يرى البعض في تحدياته ما يضاهي تحدي الآليات الأخرى، لما له من قدرة على تمهيد العقول والنفوس لقبول أتوان العولمة الأخرى[2].
وفيما يتعلق بآثار العولمة ثقافيا فإنها تعمل على اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، أنها بذلك رديف الاختراق الذي يهدد بالعنف السيادة الثقافية في سائر المجتمعات التي تطالها تلك العولمة[3]، وذلك لم تكن الثقافة المكتوبة هي ثقافة العولمة بل ثقافة ما بعد المكتوب أو ثقافة السمعي- البصري، بكل وسائطها وأدواتها التي تحطم الحجز اللغوي وتصل إلى الناس في عقر دراهم متجاوزة في تعاملها حرمان الهويات الثقافية علما إن هذه الثقافة العالمية تخضع لشركات عالمية متعددة الجنسيات تكون الصورة هي ذاتها الأساسية في خلق الوعي الفكري، لأن (الصورة بمفهومها خطاب ناجز مكتمل يمتلك سائر مقومات التأثير الفعال في مستقبله، وهي لغة تستكفي بذاتها إذ لا تحتاج الصورة اختراقا مع الكلمة التي غدت وعيا فكريا على امتداد تواريخ السلف الثقافية إلى مصاحبة لغوية كي تنفذ إلى إدراك المتلقي فهي بحد ذاتها خطاب ناجز مكتمل سائر مقومات التأثير الفعال)[4]، كما أشرنا وفي ثنايا تلك الفاعلية تكمن شعبيتها وخطورتها في أن واحد ومع صيرورة الصورة سلطة رمزية على الأقوى النتاج وصناعة العتم والرموز وتشكيل الوعي والوجدان والذوق ولذلك أثاره الخطيرة على الصعيدين:
1- النمط الثقافي المنتج والمقترح عولميا.
2- درجة التناسب النمطية بين ثقافة المعولم وثقافة الأصل وما يترتب على تلاقحهما الثقافي من أفق مستقبل والذي يحدده الواقع المعاصر المعمول به[5].
فعلى الصعيد الأول:-
1- تسعى العولمة إلى بلورة ثقافة عالمية تتسم خاصة تستفيد منها الفئات لا مسيطرة على العمليات الاقتصادية والسياسية والإعلامية حيث تحتكر التقنية والإنتاج الإعلامي على المستوى العالمي، ومن ثنايا السيطرة والاحتكار ما يمكنها من التحكم في أهم الأدوات المطلوبة للتغير لترسيخ قم عالمية رأسمالية تكون قادرة على توجيه عمليات التحول الاجتماعي والاقتصادي في إطار تحقيق مصالحها[6].
2- انهيار ملكة التحوط القيمي ازاء تحول الوعي (الذي أغرقته الثقافة الإعلامية إلى مجال مستباح لكل أنواع الاختراق، وإذا أخذنا في الحسبان أن هجوم ثقافة الصورة على الوعي يجري في امتداد التراجع المروع لمعدلات القراءة في العالم تبينت لنا معالم النفق المظلم الذي تدخل إليه الثقافة والوعي في عصر الصورة والإعلام السمعي والبصري[7]).. ومن مظاهرة ضمور متزايد في جسم المعرفة بتشكيل منظومة قيميه تحل النفعية والفردانية والأنانية والغرائزية المجردة من المحتوى الإنساني.
نعم ستشبع الجسد لكن على حساب هوائه الروحي والخلقي بحيث يتحول الإنسان من قارئ ومفكر ومبدع ومنتج إلى إنسان متلهي مستهلك عاجز عن التفكير والإبداع[8]، فهي في مضمونها ثقافة الكسب السريع والإيقاع السريع والتسلية الوقتية وإدخال السرور على النفس وملذات الحس وإثارة الغرائز، هي ثقافة (الجريء والجميلات) إنها قمع وإقصاء للخاص بعد اختراقه وهذا الاختراق إنما يستهدف العقل والنفس ووسيلتهما في التعامل مع العالم الذي هو الإدراك[9].
3- تسعى إلى تحقيق اندماج عالمي يتأتى عن منظومة مالية واحدة جوهرها أن تعيش العالم في إطار سوق واحدة لراس المال ومنظومة إعلامية واتصالية تتيح للقادرين الارتباط بالقنوات التلفازية ذاتها الموجودة في كل العالم موجهة لجمهور عالمي ليس محليا ومنظومة ثالثة هي المنظومة المعلوماتية المتجسدة في شبكة الانترنيت، تلك التي تتجاوز الحدود السياسية والخصوصيات الثقافية في محاولة القصد منها تجاوز ما يسمى بالخصوصية التاريخية والتعددية التاريخية إلى وحدانية التاريخ[10]، وهذا مما يفقد الإنسانية الشعور بالانتماء ويفرغ الهوية الثقافية من كل محتوى.
أما على الصعيد الثاني فإنها تسعى إلى:-
1- الالتزام بإيجاد وتعريف جديد للثقافة إذا افترضنا أن الثقافة تعني تعبيرا عن تمثيل الناس لمحيطهم وتعبيرا عن نظام اجتماعهم المدني، إذ سيصبح مطروحا علينا أن نفكر في معنى أن تنشا في وعي الناس الثقافة أو قيم ثقافية لا تقوم صلة بينها وبين النظام الاجتماعي الذي ينتمون إليه[11]، وباسم المتأففة يتم القضاء على ثقافة لصالح أخرى.
2- ستعمل على إحياء التعددية الثقافية.. مما (يؤدي إلى إيجاد ما يسمى بثقافة الصفوة (العولميون))[12]، سيكون هناك من يحاول السلفية والحفاظ على التراث وخصوصيته كرد فعل على هجماتها الكاسحة.
3- تراجع دور العملية الثقافية- الاجتماعية تلك العقلية التي كانت أكثر عراقة وتأثيرا في تطور وإدارة هذه المجتمعات وذلك بسبب الاختراق الكاسح للعمليات الاقتصادية والإعلامية[13]والثقافية وما يترتب عليها من إشكاليات اسمها الثنائية القيمية أو ازدواجية المنظومة والقيمة بالعمل على تعميم ثقافة الاستهلاك وهي ثقافة يسهم في فعاليتها الثقافية الجماهيرية تلك التي تدفع المستهلك نحو تلبية اكبر عدد ممكن من هذا الكم الهائل من الحاجات المصطنعة التي في حقيقتها لا تهتم بذات الإنسان إنما تهتم بجيبه، إنها فقط تحقق الفرد للمادة وليس المادة للفرد، وبعد أن تدفع الثمن غاليا لاقتناء تلك الحاجات نكتشف أن امتلاكها لن يطفئ نار حمى الاستهلاك[14] فيها وأراء مثل هذه الثقافة الاستهلاكية ينشا الخصام الثقافي، الذي تكون إحدى انكسارا ته ضياع الإبداع الثقافي والهوية الثقافية.
ويمكن رسم المعادلة الثقافية في ضوء العولمة على النحو الأتي:-
الجهة المعولِمة (ثقافة استهلاك) + الجهة المعولَمة (ثقافة جماهيرية) (المستقبلة، المسوغة).
- ثقافة أصيلة رافضة (الجهة المعولمة) مثالها:
إن الله لا يحب المبذرين، ما زاد على نفعه فهو حرام ـــ تصادم ثقافي، وازدواجية المنظومة، وأفول الهوية الثقافية.
في العولمة وانعكاساتها على الواقع الاجتماعي (الأسرة أنموذجا) بافتراض إن البعد الاجتماعي في مضمونه يعني (قدرة المرجعيات أو المؤسسات الاجتماعية على أداء وظائفها وبفعالية[15]). وهو ما ينطوي في ثناياه على علاقة الأخر بالكل أو العكس (علاقة الفرد- بالأسرة) أو علاقة (الأسرة- بالفرد).
- تعد الأسرة الوحدة الاجتماعية الأساسية في الإنتاج والتلقين الثقافي من هذا المنطلق تم التركيز عليها للتعرف على فاعلية دورها ازاء التحولات العولمية التي يشهدها المجتمع.
فالأسرة إجماعا تعد الوحدة الاجتماعية الأساسية التي تهدف إلى المحافظة على النوع الإنساني وتقوم على المقتضيات التي يقضيها العقل الجمعي والقواعد التي تقررها المجتمعات المختلفة ويعبر نظام الأسرة نواة المجتمع لذلك كانت أساسا لكل النظم[16].
تشكل الأسرة تقليديا وحتى الوقت الحاضر إلى حد بعيد رغم التغيير نواة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي--- رغم ما يقال بشان النسج العلائقي الذي يربط الآباء بأبنائهم، كنسج يعمل وبفعالية ايجابية فاعليته يغذيها بعد الولائية التاريخية--- فإنني أقول وأنا اكتب لقرن جاوز العشرين أن النسج العلائقي قد تحل فاعليته إذا ما أدركنا أن هاجس العائلة أو شريانها المحرك يقترن ببعدين احدهما اجتماعي قوامه الولائية العطفية والآخر اقتصادي قوامه التعاون من اجل المردود والكسب المعيشي- بافتراض أن البعد الاقتصادي اخذ في فاعليته بالتجاوز على البعد الاجتماعي إذ أن احد الانعكاسات الاجتماعية للعولمة.
تشكيل منظومة قيمية قوامها النفعية والفردانية والمادية وفي ذلك ما يربك صيرورة العائلة وكما وضعت كمرجعية قيمية أساسية.
ذلك أم مطرقة تحولات العصر أخذت تمد بأثرها وبشكل واضح على العائلة كوحدة اجتماعية اقتصادية منها توسيع نطاق المدن ومسؤوليات الدولة وخاصة من حيث سيطرتها على القطاع العام الذي أصبح يشمل مختلف مرافق الحياة – بعد أن كان أفراد العائلة يعملون معا ولحسابها في الرعي وتربية المواشي في البادية وفي الزراعة في الريف وفي التجارة والحرف والمدن--- مما أسهم في تشكيل وحدة القرن الأخير في إنها حلت الدولة والمؤسسات العامة والخاصة محل العائلة فاتسعت مجالات التوظيف مما حد من الاعتماد المتبادل بين أفراد الأسرة وخاصة الممتدة وما سيتركه من اثر في انحلال تماسك الأسرة لان استقلالية الأفراد الاقتصادية سيكون لها على الأغلب انعكاسات مهمة من حيث استقلالية الأفراد الاجتماعية ونزوعهم نحو الحرية وحق الاختيار بعيدا عن تدخل الأسرة[17].
أيضا ستسهم العولمة بإعلاميتها المغرية في الحد من فاعلية النسج العلائقي لان الإعلامية ببثها ستكون الأفيون المهدئ الذي يملي فراغ اللائقية الاجتماعية التي طالما ميزت الابوانية والأبناء فيما بينهم- إذ تعتبر مجمل الفضائيات عوامل تجذب الجمهور إلى قضاء أوقات غير قصيرة أمام التفلزيون خاصة وان هذه القنوات في حالة من التنافس من اجل اكتساب جمهور واسع ولفترات أطول ولما كانت أوقات الفراغ في أوساطنا لم تجد لها عمليات تنظيم إلا بالنسبة إلى فئات محددة لذا فان القنوات الوافدة تجتذب نسبيا عالية من الجمهور لقضاء أوقات تعرض طويلة ولظاهرة التعرض الطويلة مظاهرها الكثيرة منها تقلص أوقات التفاعل الأسري خصوصا والتفاعل داخل المجتمع ومنظماته من جهة أخرى.
وتشير التنظيرات الاجتماعية إلى تفاعل الإنسان مع الإنسان وتفاعل الفرد مع عائلته وما لهذه التفاعلات من نتائج متعددة منها ما ييسر للمجتمع بوحداته من تحقيق أهدافه ذلك أن التفاعلية هي أساس نسيج العلاقات الاجتماعية الذي يربط الأفراد والجماعات. فالتفاعلية الإنسانية تقود إلى التعاون والتمسك والاتصال والمشاركة وإدراك الدور والتكيف الثقافي[18].
أخيرا وليس أخرا ويبقى السؤال مفتوحا سؤال لطالما استوقف الباحثة ما الأبعاد أو السمات التي ستميز العائلة المعاصرة ذات الجذور العريقة في ولائيتها- وهي تشهد انشطارا اجتماعي واقتصادي في آن واحد– نعم لحد الأن انشطارها لم يبرز على السطح- وفي ذلك أقول نحن كاجتماعيين مطالبين بإيجاد والتسمية الأنسب لمن أقصدهم وهم رعيل الشباب ممن انشطر عن عائلته لكن عوزه المادي لازال يفعل فعله وهو يدفع به إلى الاستعانة الاقتصادية بالعائلة ألام وما يترتب عليها من التزامات معنوية على الابن وان يؤديها تجاه عائلته وقد تكون لمثل هذه العلائقية المصلحية أثرها وانعكاسها السلبي فعلى الواقع المعيشي الذي يحيياه مع زوجته أو وسط عائلته النواة.
العائلة عموما تشهد إنشطارا لكن علينا أن ندرك جيدا انشطارها (ومظهري- استقلالية سكن) فقط مع تبادلية علائقية (قوامها- معنوي ومادي) هذا اُسمي مثل هذا النمط أو النموذج التنظيمي ونحن ندرك أن العائلة تأخذ احد الشكلين أما العائلة التقليدية وأما العائلة الحديثة.
علما أن التعليم ودخول المرآة ميدان العمل كانت بمثابة المرجيات الأساسية التي أسهمت في التفعيل الانشطاري مرجعيات لم تقتصر على هذه الإشكالية بل أخذت تمد باشكاليتها، حيث ارتفاع معدلات الطلاق الذي سوف يمثل تحديا للعائلة الأبوية لما يترتب عليه من ظهور عائلات تكون المرآة فيها ربة الأسرة[19]--- التأخير في سن الزواج وما يترتب عليه من انحرافات سلوكية[20]--- عموما سيسهم وعي المرآة بذاتها ودور أنوثتها في مطالبتها بحقوقها السياسية والاجتماعية الذي سيضيف تحديا أخر لتركيبة العائلة التقليدية[21].
وفي بحثنا عن إجابات حيث نسال أو نسال نجد أنفسنا أمام إشكالية اسمها تراجع منظومة القيم الاجتماعية لحساب منظومة القيم الاقتصادية وأؤكد (نحن أمام) هذا النوع الاستشرافي يؤكد أن عنان القيمة الاجتماعية بمنظومتها لازال في قبضة الأسرة كمرجعية قيمية لتحل محلها اللانتمائية.
إشكالية يجسدها التنظيم الاجتماعي للأسرة وهو يأخذ أبعاد ثلاث لينعكس في أشكال أسرية ثلاث هي على النحو التالي:-
الأسرة التقليدية، الأسرة الحديثة، الأسرة المستحدثة
الأسرة التقليدية = أصالة التراث + راسب التبعية والتخلف + سوء فهم النص القرآني.
الأسرة الحديثة = أصالة التراث + عصرنة الموروث + قيم عصرية.
الأسرة المستحدثة = (عائلة القشر الفارغ) ما تشبث بحديث الغرب وتكنلوجيته (الأسرة المعولمة).
(ما ينطوي تحت ما يسمى معادلة الأنماط الاسروية في ضوء العولمة)
الخاتمة:
لعل في قوله الكاتب العربي حسن حنفي/ العولمة ليست قدرا محتوم لا يمكن الفكاك منه ولا قانونا تاريخا تخضع له كل الشعوب فالتاريخ ليس مجرد قانون موضوعي إنما يتقابل هذا القانون مع حريات الأفراد وعمل الجماعات- العولمة جزء من جدل التاريخ احد أطراف الصراع في مقابل الخصوصية أو الإرادة الوطنية أو الاستقلال الوطني.
ما يمكننا من القول بإرادة العراق الوطنية المستقلة إذ ما يزال إعلامها يبدأ بثه بأي من القران الكريم فضلا عن دروس في القران الكريم كادلوجية تربوية أسياسية مثل هذه الوقفات تمثل تحديات تسهم في الحيلولة دون تحقيق ما العولمة من غايات لاسيما الثقافية مها بالتالي الحفاظ على الوحدة الاجتماعية متجسدة بالأسرة كأنموذج كونه يمثل الشريان المغذي لمنظومة القيم الاجتماعية وهي تشهد إشكالية قوامها التعددية في التنظيم الاجتماعي ليأخذ أشكال ثلاث قوامها العائلة التقليدية والعائلة الحديثة والعائلة المستحدثة.
بإفتراض أن العائلة الحديثة هي ما امتثل سلمها القيمي للأصيل من التراث والقدرة على عصرنة الموروث.. أعود حيث بدأت ما دامت القيمة الاجتماعية منظومة ما زالت قبضتها ضمن السور العائلي فان الإشراف المستقبلي قد يكون للعائلة الحديثة.