منذ سنوات والنقاش جار حول المنافسة بين الصحافة المطبوعة والصحافة الالكترونية. وذهب البعض إلى الحديث عن تلاشي الصحافة المطبوعة لصالح الصحافة الالكترونية التي تقل كلفتها كثيراً عن الصحافة المطبوعة. ومازال النقاش يتجدد رغم أن التجارب الأولية التي واكبت الأزمة المالية العالمية أدت إلى انهيار صحف مطبوعة وظهور صحف الكترونية لكن تجربة الصحافة الالكترونية مازالت تحبو ومن يدعي رواجها وتحقيقها أرباحاً إنما يجافي واقع الإحصاءات والأرقام التي تنشرها الصحف الالكترونية التي خاضت التجربة، حيث إنها لم تحقق أية أرباح ومازال استقطابها للإعلان لا يشكل 15 في المئة من كلفتها، فالأزمة ليست أزمة صحافة مطبوعة بل أزمة صحافة شاملة سواء المطبوع منها أو الالكتروني أو المسموع أو المرئي.
ولعل المتفائلين بمستقبل الصحافة الالكترونية إنما ينطلقون من افتراض أن المجتمعات كلها في طريقها إلى استيعاب وسائل تكنولوجيا المعلومات والإعلام وأن كل فرد سيكون حاملاً لجهاز حاسوب وفي كل بيت جهاز.. وهذا افتراض موضع شك.. كما أن الشريحة المتابعة للصحافة الالكترونية ليست الشريحة المنتجة أو المعلنة بمفهومها الواسع لأنها طبقة شابة والواقع أن ظهور وسائل إعلام جديدة يؤثر بشكل وآخر على الوسيلة الأسبق، فالإذاعة في البدء سرقت الأضواء من الصحافة المكتوبة.. والتلفزيون هيمن على الاثنين والصحافة الالكترونية بدأت تكتسب مساحة وربما ستكون هناك وسائل جديدة في الأفق لا أحد يعلم كنهها حتى الآن، لأن عالم تكنولوجيا المعلومات في تطور مضطرد على أن الصحافة الالكترونية والكتاب الالكتروني مازالا في طور التجربة من الناحية الاقتصادية الإنتاجية. ولا يمكن الجزم بأنهما سيسيطران على المستقبل لأن التلفزيون لم يبلغ الإذاعة كما أن الصحافة الالكترونية لن تستطيع إبادة الصحافة المطبوعة.
وأتخيل أنه سيكون هناك تقاسم في سوق القراء والإعلان بين هذه الوسائل مع أن المقارنة بين الصحافة الالكترونية وبين الصحافة المطبوعة من ناحية الكلفة هي كالمقارنة بين الإذاعة والتلفزيون، فالإذاعة قليلة الكلف وكذلك الصحافة الالكترونية من حيث العملية الإنتاجية، بعكس الصحافة المطبوعة والتلفزيون ومهما يكن فإن الإنسان القارئ بطبعه يميل إلى احتواء ما يقرأ لكي يعود إليه ويحتفظ به، فأنت لا تتصور نفسك تقرأ رواية الكترونية أو صحيفة الكترونية من دون أن تحاول العودة إليها وإعادة تصفح ما قرأت، والورق وحده يتيح لك ذلك ويشعرك بأن ما تقرأ هو خاص بك. إذ ثمة علاقة حميمة بين القارئ والورق لا يمكن استشعارها عبر شاشة الحاسوب، ولا يستطيع الإنسان مثلاً متابعة قراءة صحيفة الكترونية لساعة أو ساعات يومياً من دون أن يتعرض لأعراض في العنق أو النظر وتشتت في التركيز نظراً لعملية البحث عما يريده، فالفارق بين الصحافة المطبوعة والصحافة الالكترونية هو كالفارق بين تناول شطيرة محددة وبين التمتع ببوفيه مفتوح غني بالمأكولات. وأتصور أن كلفة الاشتراك في الصحف أو الكتب الالكترونية أعلى من كلفة شراء الكتب المطبوعة أو الصحف المطبوعة، وهذا بدوره يقلل من حجم الاشتراكات في وسائل الإعلام الالكترونية، وقد سعت الصحافة المطبوعة إزاء هذا الزحف الالكتروني إلى التوزيع مجاناً في كثير من البلدان غير العربية، لكنها لم تستطع إعادة صياغة التحرير الصحافي وإن حاولت. فالصحافة المطبوعة باتت مضطرة إلى التركيز على القضايا والتحقيقات والثقافة والفكر ودخول منزل القارئ من موقع الصديق الناصح وإسداء الاستشارات حول قضايا منزلية والاقتصاد المنزلي ونشر التحليلات السياسية والاقتصادية والرأي أكثر من التسابق نحو السبق الصحفي والخبر لأن وسائل الإعلام الأخرى كالتلفزيون والصحافة الالكترونية أكثر سرعة في نقل الخبر. وأعتقد أنه مع اضطراد استخدام الانترنت وظهور المزيد من الصحف الالكترونية أو صدور نسخ الكترونية من صحف مطبوعة كرديف لها سيتبلور لاحقاً إلى تحول الصحف المطبوعة إلى ما يشبه صحفا تحليلية ورأي ومنوعات وصور.
وقد كان هذا الموضوع موضع نقاش في منتدى دبي الإعلامي هذا العام ولكن الكاتب لم يدع إليه هذه السنة ربما لأنه قال كلاماً لم يعجب شخوصاً مهيمنة على مفاصل إعلامية في العالم العربي في ندوة ضمن أنشطة الدورة السابقة للمنتدى العام الماضي.
وهذا يعيدنا إلى القول إن الصحافة الالكترونية التي يروج لها الزميل عثمان العمير منذ فترة لها ميزة الانعتاق من الغباء الصحافي المهيمن على كثير من الصحف المطبوعة أي هيمنة الصحافيين الشفهيين من ذوي المؤهلات غير المهنية، ولك أن تتخيل ما هي. وهؤلاء هم من وجهنا لهم نقداً لاذعاً في الدورة السابقة. وعلى أية حال فإن الصحافة الالكترونية لن تجب ما قبلها ولكنها جناح إعلامي إضافي قد يحلق في آفاق أكثر رحابة من وسائل الإعلام الأخرى.