الأخلاق الحضرية
د. مشاري عبدالله النعيم
يذكرنا رمضان بما يمكن أن أسميه "الأخلاق المدينية" التي يحث عليها ديننا الحنيف ويشكل من خلالها سلوكا اجتماعيا عمرانيا يمكن اعتباره أحد الأسس التي يجب أن يرتكز عليها مفهومنا المعاصر للتطوير الحضري، فموضوع الأخلاق يمثل ركنا أساسيا في النظام الاجتماعي، والمدينة هي أحد أهم مظاهر "الجماعة" التي يحث عليها الاسلام، فهو دين "حضري" يحث على الاجتماع وعلى التقارب فلا تتم صلاة الجمعة إلا بوجود مجتمع مستقر حتى أن تعريف "المدينة" و"البلدة" و"المصر" مرتبط بمفهوم الجماعة الكثيرة أو القليلة، الأمر الذي يؤدي بشكل أو بآخر إلى نظام أخلاقي ينظم العلاقة بين الناس بعضهم ببعض وبين الناس وبيئتهم العمرانية.
ومن المعروف أن الأخلاق كانت بحاجة إلى سلطة قوية تحميها وتفرضها على مجتمع المدينة، فالأمر هنا لا يوكل إلى النوايا ولا يستقيم مع غياب المراقبة وقبل ذلك وجود النظام القانوني الذي يحمي الأخلاق والمتابعة الشخصية لولي الأمر
كنت أفكر منذ فترة طويلة في "عمارة صدر الإسلام" وتشكل الأخلاق الحضرية في تلك العمارة وكيف انعكس ذلك على مفهوم المدينة العربية/ الإسلامية في تلك الحقبة المهمة، فقد كانت "حقبة أخلاقية"، وأنا على يقين أننا نستطيع أن نتعلم منها كثيرا. فالبدايات دائما لها أهمية خاصة، وقد كان هناك وعي عميق بأنه لا أخلاق دون سلطة ولا سلطة دون إدارة ولا إدارة دون مراقبة، لذلك نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفكر في هذه الإدارة المبنية على مراقبة ولي الأمر الشخصية، فقد كان قبل وفاته، رضي الله عنه، يجول على الولايات شخصياً لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، وقد قال: "لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا". وذكر ابن الجوزي في مناقب عمر أنه قال لواليه على البصرة (أبو موسى): "أما بعد فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، إياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبغي السمن وإنما حتفها في سمنها"، في تأكيد واضح على المبدأ الإداري العام في إدارة المدينة الذي يحث على ترابط الراعي مع الرعية، فمبدأ "المشاركة" أحد المبادئ الأخلاقية الأساسية في متابعة حوائج الناس في المدينة.
ومن المعروف أن الأخلاق كانت بحاجة إلى سلطة قوية تحميها وتفرضها على مجتمع المدينة، فالأمر هنا لا يوكل إلى النوايا ولا يستقيم مع غياب المراقبة وقبل ذلك وجود النظام القانوني الذي يحمي الأخلاق والمتابعة الشخصية لولي الأمر وهو ما نلاحظه عندما وقع الحر في الكوفة والبصرة في عهد عمر رضي الله عنه، وكانت الكوفة أشد حرا في شوال، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه في البنيان باللبن، فقدموا عليه بخبر الحر واستئذانه أيضا، فقال: افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى البصرة بمثل ذلك. فهذه الحادثة تؤكد دور الحاكم في تكوين المدينة من الناحية الفراغية والتقنية والبصرية وتأثير "القيمة الأخلاقية" التي كان يحث عليها ديننا الحنيف من عدم تطاول في البنيان وعدم إسراف وهدر الأموال فيما لا طائل منه، وهي مبادئ لا تتحقق دون سلطة ودون إدارة قوية.
كما أن هناك آدابا عامة تنظم مجتمع المدينة حث عليها ديننا وشكلت مع الايام مبادئ أخلاقية مؤثرة في عمران المدينة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والجلوس في الطرقات.. قالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا وما حقه قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (رواه مسلم). كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر بعض أبواب الخير قوله: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة" (رواه الترمذي في السنن وحسنه، وحسنه الألباني في السلسلة). فنحن لسنا بحاجة إلى وجود صندوق قمامة في كل زاوية وركن لكننا بحاجة إلى تبني سلوك اجتماعي أخلاقي يحث عليه ديننا، فالأمر هنا يمتد إلى المساهمة في نظافة المدينة من خلال "إماطة الأذى" كما أنه يمتد إلى بناء مجتمع أخلاقي مديني عميق ينظم العلاقات البينية، فيجب أن نتبسم في وجه بعضنا ويجب أن نسمع لعابري السبيل ونرشدهم إلى وجهتهم ونستضيفهم ان لزم الأمر (فمساكن عمان والامارات الشمالية في الإمارات يوجد بها غرفة خارجية تسمى "سبلة" مخصصة لعابري السبيل)، وهي امتداد لعرف قديم قامت عليه مبادئ المدينة العربية/ الاسلامية المبكرة، فعلى سبيل المثال أقام عثمان بن عفان رضي الله عنه بيوتا للضيافة لعابري السبيل في عدد من المدن من بيت مال المسلمين (مال الزكاة) وهو توجه مبكر يعبر عن التوجه الأخلاقي للعمارة المبكرة في الاسلام، وقد أخذ عثمان هذا التوجه من الرسول الكريم الذي جهز مكانا مظللا في الجهة الشمالية من مسجده صلى الله عليه وسلم كان يسمى "الصفة" يأوي إليه الغرباء ممن ليس لهم مأوى أو أهل، وقد قال ابو هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال "وأهل الصفة أضياف الاسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد".
ويمكن هنا التفكير في "أسبلة الماء" التي كانت ومازالت جزءا من الوعي الاجتماعي الأخلاقي في كثير من المدن العربية وجزءا من تركيبتها المعمارية الجمالية (خصوصا في مدينة القاهرة القديمة) على أنها أحد نواتج الأخلاق الحضرية التي تشكلت مبكرا للاعتناء بابن السبيل وللتعبير عن "الضيافة والترحيب" بكل غريب مهما كان وأينما كانت وجهته. أما الوعي بالنظام الاجتماعي الحضري فيمكن فهمه من وصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأحد ولاته فقد قال: "واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله سهمه، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، عهدا منه عندنا محفوظا..." إلى أن قال: "ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار ذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونه من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه وفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم". ودون شك أن هذا الوعي العميق بمجتمع "المدينة" وطبقاته يذكرنا بمبدأ "المدافعة" التي لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لحل الخراب بالمجتمع الانساني، كما أن الله يقرر أن الناس طبقات وانه جل جلاله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، لكن لا يعني هذا أن هناك طبقة أفضل من أخرى إلا بتقوى الله وبما يقدموا لأنفسهم من خير. التكامل هنا بين طبقات المدينة جزء من "الفضاء الأخلاقي" للمدينة العربية المبكرة فقد كانت تحث على التقارب والتكامل لا على الانعزل والانفصال.
والحقيقة أن موضوع "الأخلاق الحضرية" وتأثيره على المدينة العربية المبكرة يستحق الكثير من التفصيل، فهناك الكثير من المبادئ الأخلاقية التي شكلت مدننا في بداياتها ومازال تأثير تلك المبادئ شاهدا في بعض التكوينات العمرانية خصوصا في المجاورات السكنية، فالوصية بالجار موضوع يستحق أن نفرد له مقالا خاصا، فقد كان الجانب الأخلاقي المرتبط بالجار مؤثرا جدا في النظام العمراني وتشكلت حوله العديد من التقاليد ومن الحلول العمرانية التي تستحق الذكر والتعلم منها في هذا الشهر الفضيل.