لا أحد ينكر أهمية ما قدمه الإعلام الفضائي العربي للساحة العربية، إعلامياً، وسياسياً، وثقافياً. في العقد الأخير أصبح هذا الإعلام البقعة شبه الوحيدة التي فيها حيوية سياسية وفاعلية مقابل جمود شبه كامل في جوانب الحياة السياسية والاجتماعية العربية. لكن ذلك لم يعنِ ولا يعني خلو هذا الإعلام من اختلالات ونقاط ضعف عديدة، ليس هذا مجال التعرض إليها. هذه السطور تتأمل في منهجية منتشرة عند تناول تلك الاختلالات ونقاط الضعف بل وأيضاً مجمل البث والأداء الإعلامي وبجوانبه الإيجابية. هذه المنهجية هي المقارنة بالإعلام الغربي، فمثلا يتم التبرير والقول إن الفضائيات العربية تعمل كذا أو تبث كذا لأن شبكات التلفزة الغربية تعمل أو تبث نفس الشيء. والأمر يتجاوز التسويغ والتبرير إلى ما قد يقع في دائرة النقد، بل في الشكل العام والمادة التلفزيونية المقدمة. فالسرعة في الإيقاع، والسطحية في تناول الموضوعات، وتفادي الغوص في الجوانب العميقة للقضايا أو الموضوعات المناقشة، هي كلها مقتبسة من الإعلام التلفزيوني الغربي من دون التأمل فيما إن كان ذلك الشكل والطريقة هما المناسبان للإعلام العربي الذي يشتغل في بيئة مختلفة تماماً عن البيئة الغربية.
التقليد العربي شبه المطبق للشكل والصورة والأداء الذي يقدمه الإعلام الغربي هو أمر يتم على خلفية بحثية وتنظيرية هشة للإعلام العربي بحيث لا تكون الخيارات منتقاة وفق رؤية وثيقة الصلة بالبيئة العامة. الإعلام عملية تعريفية، سياسية، ثقافية، اجتماعية معقدة وتؤثر في خلق وتكوين الصور العامة المسيطرة في مجتمع ما، كما في نوع وطبيعة التوافقات الاجتماعية والثقافية والتنميط العام للقضايا. وبكونه كذلك فإن دوره وتأثيره يختلف من مجتمع لآخر، بحيث إن تم قبول فكرة معينة أو نوع أداء يقوم به ذلك الإعلام في بيئة ما فإنه ليس من التلقائي والآلي أن نفس الفكرة أو ذات الأداء يمكن القبول به في بيئة أخرى من دون تحفظ أو تروٍّ. ابتداءً لنسجل بعضاً من الفروق الجوهرية على مستوى البنية السوسيولوجية والتنموية والسياسية بين الإعلام العربي والغربي ثم بعدها نتأمل في بعض التطبيقات.
الفرق الأول ثقافي تعليمي ويتعلق بطبيعة وثقافة ومستوى تعلم المشاهدين. الإعلام الغربي يشتغل في بيئة ليست فيها مستويات أمية عالية، بل يمكن القول إن نسبة الأمية صفر في تلك المجتمعات. وإضافة إلى عدم وجود أمية القراءة والكتابة تمتاز بيئة الإعلام الغربي بأنها بيئة مشاهدين ناقدة وهي خلاصة ثلاثة قرون من الحداثة السياسية والثقافية التي أعادت صوغ العقليات والمفاهيم وطرائق التحليل والنظر للأشياء بشكل يختلف عن السمات التي تميز الوسط العام للمشاهدين العرب. فهنا نرى نسبة أمية قراءة وكتابة مرتفعة جداً تصل في بعض المجتمعات العربية إلى نصف المجتمع. يُضاف إلى الأمية المباشرة أميات ثقافية مركبة. هذا يعني أن تأثير الإعلام الغربي في المجتمع الذي يتوجه إليه يختلف كثيراً عن التأثير الذي ينتج عن الإعلام العربي في المجتمعات التي يتوجه إليها. الإعلام الغربي يصنع الرأي العام ويؤثر فيه، وأحياناً يضلل الغالبية العظمى رغم كل ما ذكر، مع أن التضليل في أبشع صوره يحدث في مسائل الشؤون الخارجية أكثر بكثير من المسائل الداخلية.
الفرق الثاني متعلق بطبيعة الملكية والتمويل الذي يقف خلف كل من الإعلامين، وتأثير ذلك على نوع المادة التلفزيونية التي يتم بثها. الإعلام الغربي قائم على قواعد تجارية بحتة بحيث يمول نفسه بنفسه عن طريق الإعلانات الترويجية وبيع الصور والبرامج وغيرها. الإعلام العربي في المقابل وفي عمومه، مع وجود بعض الاستثاءات، يعتمد على التمويل الحكومي أو شبه الحكومي وليست هناك سوق إعلانية قوية يمكنها أن تسند الكم الكبير من الفضائيات الموجود حالياً. معنى ذلك أن ركض ولهاث الإعلام الغربي خلف نمط معين من الأداء، حيث سرعة الإيقاع، والإثارة، والجلبة، والبرامج السريعة يمكن أن يكون مفهوماً لأنه يبحث عن توسيع دائرة المشاهدين الذين يعتقد أن الطريقة الأفضل لجذبهم إليه هي اعتماد ذلك النوع من الأداء. في المقابل ليست هناك ضغوط "سوق" على الفضائيات العربية لتتبنى نفس النمط من الأداء لأنها سواء اعتمدته أم لم تعتمده. وهذا يرتبط مباشرة بالفرق الثالث، وهو مستوى النمو الاجتماعي الذي يشتغل فيه الإعلام، وله علاقة أيضاً بالمستوى الثقافي والتعليمي. ففي الحالة العربية نحن إزاء مجتمعات نامية ما تزال في منتصف إن لم نقل في بداية طريق التنمية المستدامة، اجتماعياً واقتصادياً. ونظراً للتأثر الشديد الذي تظهره هذه المجتمعات بأية صيرورات سياسية وعلى أي مستوى من المستويات، مثل الإعلام هنا، فإن عمق تأثير الإعلام في المجتمعات النامية، خاصة عندما يقلد إعلام المجتمعات المتقدمة، يكون كبيراً إن لم نقل خطيراً.
لنأخذ مثلاً البرامج الحوارية ذات الصبغة التهجمية والتي هي مستوردة بالكامل من أداء الإعلام الغربي. تلك البرامج لا تعمل على تعميق الاستقطاب السياسي والأيديولوجي في المجتمعات المتقدمة بسبب وجود حياة حزبية وآليات نشاط سياسي غير الإعلام. في المقابل فإن نسخ نفس تلك البرامج وتبنيها في الإعلام العربي يترك آثاراً سيئة عندما يستقبله مشاهدون في بيئة نصف أمية ويغيب عنها الانفتاح السياسي المعقول. هل هذا معناه شطب البرامج الحوارية الساخنة واستبدالها ببرامج مملة طيلة فترة البث التلفزيوني؟ طبعاً لا، لكن المطلوب إعادة صوغها بحيث تبتعد عن طبيعتها الاستقطابية والتفتيتية الراهنة.
مثال آخر يكثر الاستشهاد به في سياق المقارنة بين أداء الإعلام العربي والإعلام الغربي وهو استسهال بث ما يمكن أن يؤثر في خلق أجواء تطرف وتحريض في المجتمعات العربية. هنا أيضاً يتم الاعتماد على منهجية المقارنة حيث يُقال إن الإعلام الغربي يبث مواد شبيهة أو مقاربة في مضمونها. لكن التأمل في تأثير تلك المواد التلفزيونية وبثها المستمر على المجتمعات العربية لابد أن يُرينا أن ما تفعله هو إزاحة الرأي العام العربي نحو التطرف وقبول صيغ ثقافية واجتماعية ليست وسطية.
ختاماً، الإعلام الغربي يعرف بنفسه، على العموم، بأنه عملية إعلامية تعريفية تنقل المعلومات للمشاهدين. إذا كان ذلك الإعلام يملك ترف تبني تعريف كهذا، فإن الإعلام العربي لا يملك نفس الترف وهو من ناحية عملية لا ينطبق عليه تماماً. الإعلام العربي الفضائي يلعب دوراً أكثر بكثير من أن يُحصر في العملية الإعلامية ونقل المعلومات، حتى لو ادعى عكس ذلك. تأثيراته المختلفة تستلزم بحثاً معمقاً في اجتراح نظريات ومناهج ومدرسة إعلامية خاصة تقطع مع الأساليب الراهنة حيث النسخ والتقليد، وتهتم أكثر بدورها في تنمية وتنوير مجتمعاتها، وليس تثويرها من دونما بوصلة.