يستحيل إقامة أصول مجتمع ديمقراطي ومنفتح، يعبر عن كل مكتسبات الفكر الإنساني دون مدخل السؤال الإعلامي).فالعلاقة ميكانيكية وعلّية تجعل من الإرساء الإعلامي الجيد مرشدا وموجها، في حين يتمرأى المجتمع نفسه من خلال ذلك، كي يقيس درجات تطوره وتقدمه).إن الإعلام بجميع مكوناته، وبغير اختزاله إلى مجرد واجهة للجسم السياسي، تُشهد العالم، أننا قطعنا حقا مع مجتمع الدولة الممركز للسلط في يد الأشخاص، إلى واقع آخر مستقل عنها، يدبر مصالحه بناء على فصل للحقل المدني وتبيين واضح لاختصاصات كل طرف من أطرافه).أقول، بأن الإعلام جسد دائما، بؤرة صراع قاتله ونقطة قوة ضاغطة تعمل على ترجيح كفة حقيقة تاريخية دون غيرها).لقد، بقيت العلاقة داخل المجتمعات الكليانية لا متوازنة ومختلة بشكل فظيع، فالممسكون بزمام دواليب الدولة يوظفون بكل ما أوتوا من فهلوة وشطارة إديولوجيا الإعلام قصد تبرير بنية النظام المجتمعي، على المنوال الذي يبتغونه مع توجيهه خدمة لمصالحهم).هكذا، كلما تصدع هذا الثابت نتيجة مبررات نضالية مختلفة، إلا رسم ذلك مؤشرا على تموضع المجتمع في خط الحرية، على الأقل امتثالا لأدبيات الخطابات التقدمية.
لكن نجاحات التقنية المعاصرة، خلقت في حقيقة الأمر التباسا كبيرا بخصوص التداخل المفصلي بين الإعلام والصراع السياسي وكذا تحققات الديمقراطية، فتحول العالم إلى منظومة ميكروفيزيائية جراء الثورة الإعلامية الهائلة، واندثار للوسائط بين الفرد والخبر، ضرب صميميا المخططات والأساليب التقليدية للاستحواذ على الحقيقة وتسويقها، بحيث تحولت مع كل الحيثيات إلى قيمة مشاعة وأضحت حقا مشتركا بين جميع الأفراد، لا فرق في ذلك بين من يمتلك رمزية ولوج لعبة الصراع أو الآخر المتجرد منها).إذن، امتياز تفويض المعلومة لم يعد استثناء، مثلما كان الأمر في الماضي، حيث بقي الجهاز الرسمي، الوصي المطلق والفاعل الأوحد، بخصوص تحديد طبيعة الممكن وغير الممكن).اليوم، انتهى هذا الامتلاك، بل أكثر منه أصبح المواطن إكس (نتذكر هنا قناص تارجيست) سندا خبريا، مما يؤكد بأن سلطة الإعلام لم تعد أسطورة).في هذا الإطار أشار البعض مثلا، وقد انتهت المعارضة السياسية كجسم مهيكل داخل بلد كالمغرب، إن مهارة الهاتف المحمول، ستشكل قبل كل شيء القوة التحريضية الأولى.
إذا حتم علينا اجتهاد الإعلام، الانتقال إلى مرحلة تمثله باعتباره حقا فرديا، فالمستجد يقتضي كذلك إعادة صياغة مختلف جوانب منظومته التأويلية والمفهومية).لقد تحول، عن كونه مجرد خبر في جريدة أو تعليق تلفزي وإذاعي، بحيث تعددت وتداخلت حيواته بكيفية دقيقة جدا).كلنا، يعلم القاعدة التاريخية، التي تشير منطقيا إلى أن التراكم الكمي، سيبلور في النهاية تطورا نوعيا).عندما، نسقطها على حاضر الإعلام المغربي، سنصل إلى نقطتين أساسيتين في غاية الأهمية، من أجل مجابهة الإشكالات الملحة ثم استحضار المجتمع الجديد بمقومات سوية، فلا شك، أن أهمها يستدعي إعلاما متنورا وناضجا، أقصد بذلك الأهداف والمضامين).بمعنى ماذا يريد إعلامنا من ذاته؟ وبأية أطروحات؟ بالتأكيد، تعتبر أكثر المناهج إجرائية تلك التي تحتكم أساسا وفقط إلى صميمة الهدف (يقودنا بشكل آخر نحو سؤال الوجود)، ثم كيفية تفعيل برنامج تحقيقه؟ ولأن الإعلام، قد أحدث ثورة في قلب المجتمع وبدّل منظورات تفكيره، فسيؤطر بمنطقه هذا، جل الأسئلة المجتمعية وفق إطار إبستمولوجي واضح المعالم والنتائج.
حين نصنف تمظهرات النقاش، الذي تكتسيه المدارات اليومية لإعلامنا ـ حتى ولو غابت الجدية والقصد ـ سنلاحظ بأنها تنصب على محور الصراع بين تيار الحداثة والمحافظة، من خلال إشكالات تستفسر المقولات الكبرى : طبيعة النظام السياسي؟ العلمانية؟ التيوقراطية؟ السياسات الاقتصادية؟ المنحى الثقافي؟ التنوع الإتني؟ التمركز والجهوية؟ نموذج الحياة المدنية والتأرجح بين فهم أرثوذكسي عقائدي للهوية، وكذا الصيرورة الكونية؟...، تلك هي البنيات الضمنية المحددة للبوليميك الإعلامي، غير أن مجالات النقاش غالبا ما تفقد أوجهها المعرفية، فيضيّع الحس الإعلامي ركائزه التربوية ثم ينزاح بالمجتمع نحو حافة الإفلاس).حقا، لا يكمن دوره في استخلاص حلول نهائية، فذلك منوط بالمثقفين والسياسيين، لكنه إجمالا يعكس درجات الإشعاع أو الانهيار القائمة مجتمعيا).بالتالي، نوعية الأسئلة التي يستفز بها جموع النخبة، تبقى جازمة لتفعيل ميكانيزمات المسارات البناءة.
قلت ينبغي التركيز أساسا على التصاميم والمحتويات، ببرغماتية ناجعة لكنها نبيلة تضع الإنسان قضية لها).كيف ذلك؟ إذا أخذنا في الحسبان العوامل التي تلفّ آنيا مصيرنا سنجد بأنها تسير كليا وفق خط مناقض للممكنات التي قد ينبثق معها المجتمع المغربي الجديد : ارتداد سياسي، جمود ثقافي، إخفاق للمؤسسات التأطيرية، أمية تنخر الأوساط المتعلمة، أما الأمية التقليدية فلا زالت أرقامها مهولة، هيمنة الثقافة الشفوية بشكل كبير، الإحساس المتزايد بالظلم الاجتماعي وهو ما يؤدي إلى تقويض سياقات العقل وإفراز ذوات مريضة وفصامية، ثم أخيرا تورّط الناس أو بالأحرى توريطهم في بنية استهلاكية، جعلوا منها قواما مجتمعيا مطلقا غير قابل للمراجعة، وحين نتفحص ثقافتها نقف بسرعة على مكرها).
بناء عليه، سينجر الإعلام إلى مصيدة جدلية عقيمة وغير منتجة تماما، تستعيد القياس السوفسطائي: "أيهما أسبق، الدجاجة أم البيضة؟".هكذا، أي موقع للإعلام؟ هل يمتثل بدوره للأقدار الحتمية فينقاد وراء لغة السائد كي "يفتخر" ب "جماهيريته؟ أم يتسامى، حتى يجعل من نفسه قوة دافعة لانتشال المجتمعي من حضيضه؟ في إطار المنحى ذاته، تحضرني طبيعة النقاش السياسي الذي ساد المقرات الحزبية، ابتداء من أواسط الثمانينات واستمر كذلك إلى مجيئ حكومة التناوب التوافقي، حيث الدعوة إلى المقاربة الجزئية والمباشرة لقضايا التمدرس والتطبيب والنقل وتخفيف وطأة ولوج الإدارة..).بمعنى، انحدر سعي التقدميين من زخم خلخلة أسس النظام ككل لبناء مشروع مجتمعي حقيقي، وهو ما فتح في الماضي مشارب واسعة على مستوى الفعل والكتابة والتنظير والتعبئة، إلى سياسة سياسوية ونضالية ضيقة تخدم أهدافا ديماغوجية، وإلا فكيف ستضمن مثلا، حق كل واحد من أفراد الشعب في التمدرس، دون ربط ذلك بتعبئة وطنية عامة لتطوير المدرسة العمومية؟ تطلع مقدس، تعضد بنياته جميع القوى، ويقتضي اجتهادا يوميا وشاملا).بنفس المنطق إذن، فالإعلام الذي يبتغي لذاته أن يكون إعلام قرب كما يقال، عليه التسلح بالحذر وإلا فسينتهي إلى المطب الذي أتلف ما تبقى من إرث الحركة الوطنية.
الفترة التي نعيشها، حساسة بكل المقاييس، خاصة والأمر يبدو كأننا شعب يفقد ذكاءه وحواسه تتلوث مع مرور الأيام، بحيث لم تعد لنا قدرة على فهم القيم التي نصدرها).هكذا، فعوض أن نناقش الأفكار والمفاهيم، انتقلنا إلى أفراد يحتفلون طفوليا بالأحداث والحكايا