لا ريب أن الصحافة الإلكترونية أو ما يطلق عليها صحافة الإنترنت قد غدت أحد أهم أعمدة وركائز الإعلام المعاصر، وأن مستوى تأثيراتها قد بلغ شأواً بعيداً، يضاهي –في كثير من الأحيان – الصحافة المكتوبة والمرئية، ويتمايز عنهما في أحيان أخرى.
ولا نبالغ التقدير حين نضع الصحافة الإلكترونية في الموقع التالي للإعلام المرئي، فسهولة الوصول إليها، وشمول تغطياتها خبراً ورأياً وتحليلاً، ومواكبتها للأحداث وسرعة معالجتها، قد منحها اهتماماً بالغاً، ورفدها بأولوية معتبرة على كثير من وسائل الإعلام، ما اضطر معظم الصحافة المقروءة إلى تدشين مواقع على الشبكة العنكبوتية، بل ودفع بعضها إلى مزيد من التطور المعلوماتي عبر التحديث المستمر لمواقعها، أسوة بزميلاتها من المواقع الأخرى، في ظل عالم متغير، سريع الحركة والتطور، لا يألف التقوقع والجمود بقدر ما يعيش التجدد الدائم والتطور المستمر.
وفي حالتنا الفلسطينية الراهنة، فإن الصحافة الإلكترونية قد لعبت خلال السنوات الأخيرة دوراً محورياً في خدمة القضية الوطنية، وفضح مخططات الاحتلال وتعرية ممارساته، ومعالجة الهموم والمشكلات الفلسطينية الداخلية، بقدر مرضٍ نسبياً، يتواءم مع مستوى الإمكانيات والقدرات المتاحة.
وقد أحرزت المواقع الإلكترونية الأولى ذات الصبغة الفلسطينية قدراً لا بأس به من النجاح، كونها تميزت بلون مقدر من النزاهة والموضوعية، وقدرة على إنضاج خطاب إعلامي واع ومسؤول، ومعالجات إعلامية رصينة، ترتكز على قواعد وطنية خالصة، وأصول مهنية إعلامية سليمة، ما جعلها موضع احترام وتقدير كبيرين، إعلامياً وشعبياً.
بيد أن الواقع الملتزم نسبياً الذي ميز الصحافة الإلكترونية لم يدم طويلاً، فقد داخلته حسابات سياسية وفئوية، شوهت جماله، ولوثت نقاءه، وجعلت منه ساحة خصبة لتصفية الحسابات، وإسقاط مواقف واتجاهات بذاتها، وأحالته إلى واقع ملبد بكثير من التشوه والاضطراب.
فقد ظهرت عدة مواقع إلكترونية، تتبع جهات تنظيمية معينة، وتحاول أن تشيد لها موقعاً في الفضاء الإلكتروني الرحب من خلال شبكة الإنترنت العالمية، لمنافسة بعض المواقع الأخرى التي لقيت رواجاً واسعاً في أوساط الجمهور الفلسطيني والعربي والإسلامي.
ورغم محاولة بعضها امتشاق الموضوعية والانفتاح، إلا أن عبقها الفئوي المضاد لمتطلبات المهنية والنزاهة الصحفية والإعلامية يزكم أنوف القراء، في ظل مقاربات تبتعد عن الحقيقة وتشوه الواقع في أحسن الأحوال، وتقترب من معاني الإقصاء والعنصرية في أسوئها.
ولئن كانت هذه المواقع محدودة العدد، إلا أنها تبقى عامل إرباك وتشويه للساحة الإلكترونية في فضائها الفلسطيني، وعنصر تشويه لأذهان القراء، وإلباسها لبوساً مشتتاً لأفكارهم وتصوراتهم ومعلوماتهم.
ويبدو دافع التحامل حاضراً بقوة في صلب تغطيات ومنشورات هذه المواقع في كثير من الأحيان، حتى أن عمى البصيرة الإعلامية يطغى كثيراً على أقنعة الحرص والتوازن التي تحاول هذه المواقع التسربل بها، فتبدو المواقف سافرة، والنوايا مكشوفة، والدوافع غنية عن أي بيان.
ولا يبدو ذلك مبرراً بأي حال من الأحوال، فحالة الاستقطاب الحاد والتجاذب الكبير على الساحة الوطنية الداخلية، لا تبرر –بحال- مثل هذه الممارسات، ولا تجيز امتهان المبادئ المهنية السامية، وتفريغ مواثيق الشرف الصحفي والإعلامي من مضامينها المشرفة، امتثالاً لأجندة بائسة وإرادة غير سوية، لا تأبه بالقيم والمبادئ والأصول قدر ما تعنى بالتشويش والتشويه وزرع الأباطيل.
وبشيء من التفحص والمتابعة والاستقراء لواقع وتغطيات هذه المواقع، يمكن تلمس حال الافتقار إلى التوازن والتغطية الموضوعية، والانحياز إلى ممارسة الخداع والتضليل، والتركيز على تحريف الحقائق والمواقف، وتشويه الوقائع والأحداث، وإن بدا ذلك مغلفاً بنوع من التلميح أو الاستبطان، أو بشكل غير مباشر على هيئة السم في العسل أحياناً.
ولعل الانطباع الأولي الذي تفرزه الوهلة الأولى في سياق بحث أداء ومعالجات هذه المواقع يخلص إلى تعمدها الاصطياد في الماء العكر عندما تسنح لها الفرصة، وعدم التواني في الإساءة إلى تنظيمات سياسية بعينها على الساحة الوطنية، ومحاولة تشويه مواقفها وتلويث سمعتها.
وكي لا يكون الكلام خبط عشواء، أو ضرباً في الفراغ، يمكن الاستيثاق من خلال بعض الشواهد والأمثلة التي لا يمكن إنكارها أو التنصل منها، وأولاها حادثة مقتل الفتاة البريئة يسرى العزامي شهر أبريل/ نيسان الماضي.
في تفاصيل موضوع هذه الحادثة لم يكن الأمر بحاجة لتحميله أكثر مما يحتمل أو ما لا يطيق، فالوقائع بينة مكشوفة، والملابسات حاسمة وقطعية، ودائرة الحدث مقدرة بقدرها دون إفراط، إلا أن هذه المواقع قد بثت على صفحاتها تقارير تحريضية ومقالات معوجة، تزرع الفتنة وتنشد الوقيعة والخصام، دون أدنى اعتبار وطني أو ديني أو أخلاقي.
وكم عجبت لمستوى الابتذال والإسفاف الذي انحدرت إليه هذه التقارير، وما حوته من معلومات مفبركة ومعطيات مختلقة، لا تقصد سوى التشويه والتحريض والاتهام، وما شملته من آراء التمست في الحادثة أرضاً خصبة غناء، لتفريغ مكبوتها، وتصفية حساباتها مع من تعتبرهم خصومها، ومحاولة تأليب الشارع واستعدائه ضدهم، والانفضاض عنهم في المعارك الانتخابية المقبلة.
كنت أتصفح التقارير العتيدة، وأتبسم بحسرة من قسوة ما أرى وأقرأ و أشاهد، مشفقا على أهلها، الذين لم يراعوا ديناً ولا وطناً، ولا خلقاً أو ضميراً، فيما ملف الحق والحقيقة الخاص بالفتاة المرحومة يشمخ أمام ناظري بأدلته وشهوده التي لا تقبل التأويل، ليفضح سوءات أولئك النفر الذين تنكبوا الجادة وانحرفوا عن المسار، وارتضوا العيش على هامش الصدق والنقاء ومقتضيات المهنية والنزاهة والانفتاح.
ولا أدري أي وطنية سوغت لأولئك ابتكار أحاديث إفك جديدة، من هذا الطراز، وأي مهنية تلقي بظلالها على من يمتهنها ويلقي بها وراء ظهره، ولا يستدعيها إلا وقتما يشاء وتشاء مصالحه واحتياجاته.
كان من الأحرى أن تنقل الحقيقة مجردة كما هي، بدون أي تحريف أو تلاعب أو تزوير أو اختلاق، وأن تنحى كافة الاعتبارات الحزبية والمصلحية البائسة جانباً، إعلاء لمصلحة الوطن، وخدمة للحقيقة، وصوناً لقيم العدالة والحرية والإخاء والوفاء في مجتمع يراد له أن يكون حراً ومتحرراً من كل المفاسد والآفات.
مثال آخر عن اعوجاج بعض أشكال التغطية الخبرية لهذه المواقع يتمثل في إدراجها بين الحين والآخر أخباراً مقصودة، لا وثوق منها ولا دليل عليها، بل هي مفبركة ومن صنع الوهم والخيال، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تقريرا إخباريا استند إلى ما أسماه "مصادر جيش الاحتلال" في عرض إحصائية مزعومة تتحدث عن العمليات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وحظ فصائل المقاومة في النيل من القتلى الإسرائيليين، وكان واضحاً ومكشوفاً السعي لإعلاء شأن فصيل معين، وبخس حق الآخرين.
لو كان الأمر نقلاً محضاً للخبر عن مصادره الأصلية لهان وصغرت تداعياته وضعفت ملامته، غير أن القصة تبدو شبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة، فلا تفاصيل استيضاحية تؤكد المضمون الوارد، ولا أدلة توثيقية تثبت صحته، فهل يجوز لصحافة محترمة ومواقع إلكترونية تنشد التميز أن تتقزم معاييرها وسياسة النشر فيها -إن حسنت النوايا- إلى درجة العرض الجزافي الساذج مهنياً، والمعالجة السطحية ذات المزاجية الرديئة والاختلال الكبير؟!
ما يثير دهشتي واستغرابي أن الإحصائية التي أوردها ذاك التقرير تبالغ كثيراً، وتمارس شطحات تستعصي على القبول والتصديق، فالبون شاسع بين نتائجها ونتائج الدراسة التوثيقية التحليلية التي أعددتها شخصياً مطلع العام الحالي عن ذات الموضوع، وبذلت فيها جهوداً مضنية على أساس علمي إحصائي في ضوء معايير مهنية موضوعية، وأظهرت أرقاماً مغايرة تماماً للأرقام المدعاة.
وازدادت الفضيحة بروزاً حين اضطر أحد هذه المواقع إلى سحب التقرير من التداول، وإلغائه عن صفحته الإلكترونية بشكل نهائي، إثر الردود الواسعة التي فندت مضمونه، وحللت مزاعمه، واستدعت ما يضاده من حقائق دامغة ومعطيات موثقة.
ورغم ذلك فإن هذه المحاولات الرامية إلى تكريس أفكار ومعطيات خاطئة لتحقيق أهداف ومكاسب فئوية، لا تبلغ مرادها أو تحقق مرتجاها، ولا تقنع أحداً بقدر ما تُسعد بعض الهاربين من الواقع، وبعض اللاهثين وراء أمجاد لم يبلغوا ذراها أو يتنسموا عبيرها.
مثال ثالث على ضعف وهشاشة وانحياز التغطية الخبرية لهذه المواقع يتجسد في اعتماد المصادر والمعطيات الإسرائيلية كمصدر متقدم ورئيسي للمعلومات التي تتمحور حولها التغطية الخبرية لهذه المواقع، فالمعلومات الواردة في الصحافة الإسرائيلية أو وسائل الإعلام الإسرائيلية تحظى بأولوية مقدسة عما سواها، مهما كانت درجة غبنها وتشوهها أو حجم الخطأ أو الافتراء الوارد فيها، أو مستوى التحريض والاستعداء الكامن بين ثناياها.
وإذا ما أدركنا عبر نوع من التفحص الدقيق والمسح الموضوعي أن غالبية المعلومات الواردة إسرائيليا تستهدف تشويه فصيل فلسطيني بذاته والتحريض ضده، يصبح مفهوماً سر إصرار هذه المواقع على اعتماد الرؤية الإسرائيلية من خلال التظاهر المكشوف بنشر معلومات ومعطيات وآراء إسرائيلية دون تدخل تحريري فيها!
إن النقد السالف لا يستهدف إقصاء العامل الإسرائيلي أو المعطى الإسرائيلي من أجندة العمل الإعلامي الفلسطيني، غير أن المسافة تبدو شاسعة والشقة هائلة بين من يرتكز في تغطياته ونقولاته على أساس مهني ملتزم، ينبذ الرديء ويستجلب السليم ويمايز بين الصالح والطالح، أو يعرض النقل متبوعا بتعليق أو إشارة أو توضيح، وبين من يجد في نفسه متعة التعامل مع الرؤية والمعلومات الإسرائيلية، ودوام عرضها بشكل مقصود وغير مسؤول، بعيداً عن أي اعتبار وطني أو أخلاقي.
والأمثلة كثيرة، لا يتسع المقام لتفصيلها، ومنها محاولة هذه المواقع تسويق بعض الشخصيات والترويج لبعض الأفكار والسياسات على أساس مصلحي بحت، ومحاولة تجميل وتحسين صورة الجهات التنظيمية التي تتبع لها، وتنقيتها من أدران الفساد ورداءة الأداء، وقيام بعضها بعدم نشر الردود والتعليقات التي لا تتوافق مع رؤيتها ونهجها، دون أي اعتبار أو تقدير لحرية الرأي والتعبير، أو الاعتبارات المهنية التي تبيح الرد والتعليق حيال الموضوعات المطروحة.
وذلك كله لا يحجب حقيقة الدور الهام الذي تضطلع به هذه المواقع، إذ تسدي خدمة خبرية جيدة في العديد من الأحيان، وتناقش الكثير من القضايا الهامة والمحورية التي تهم الجمهور الفلسطيني، إلا أن مثالبها ونقائصها تشوه صورتها وتلوث دورها وتطغى على عموم أدائها ومعالجاتها.
والتماساً للعدالة والإنصاف يجدر التأكيد على تفاوت سقوط هذه المواقع في مزالق التعصب والانغلاق وعدم الموضوعية، فالاختلاف قائم، وحجم الأخطاء والنقائص يتباين من موقع إلى آخر، إذ لا يمكن وضع الجميع في سلة واحدة، فهناك الأكثر تطرفاً، وهناك من يتوسط حيناً أو يخفف حيناً آخر، وهناك من يوازن بين هذا وذاك، وهناك من يسفر عن وجهه دون وجل، فيما يحاول آخر أن يتبنى نهجاً أكثر ذكاءً، باعتماد التلميح دون التصريح والميل إلى الأسلوب غير المباشر في كثير من الأحيان، وأهون الأضرار فتح موقع ما صفحاته أمام مساهمات القراء، أخبارا وتقارير ومقالات، التي يحمل بعضها بذور الفتنة، ودعاوى التحريض والتشويه، بزعم الحياد دون أي معيار وطني أخلاقي أو مهني موضوعي.
إن هذه النقائص والسلبيات التي تعتري عمل هذه المواقع تشكل خللاً بالغاً في طبيعة الفهم الصحفي، وإضراراً كبيراً بغايات وآفاق الدور الإعلامي الذي يتجاوز النعرات والحزبيات، ويتلاحم مع الهموم والتطلعات الوطنية بمفهومها الواسع، ناهيك عما تكرسه من نفور وضغائن وأحقاد، لا نعتقد أن الساحة الإعلامية في نطاقها المحدود، والساحة الوطنية في إطارها العام الشامل، بحاجة إلى ذرة منها أو شيء من تجلياتها.
لا يكمن القلق والانزعاج وراء شيوع مثل هذه الممارسات السلبية في طبيعة القائمين على هذه المواقع، فذلك أمر يمكن بحثه ونقاشه ومتابعته معهم، على قاعدة الحوار المهني الخالص، وإنما تكمن أم المعضلات في طبيعة الجهات الداعمة لهذه المواقع، وخلفياتها المتحجرة، التي لا تفقه سوى لغة التشويه والاتهام ولا تحسن سوى نهج التعصب والانغلاق.
ومع الإقرار بهذه الحقائق المرة والمسلمات الواضحة، لن ينقطع أملنا أو ينحسر تفاؤلنا صوب احتمال التعديل والإصلاح، فالخطأ ليس مقدساً، والتمسك به ليس قدراً، وما يجب أن يدركه الجميع أن التنافس ليس عيباً، وحتى المزاحمة على الهيمنة والاستئثار لا تشكل مثلبة أو نقيصة، ما دامت في فلك التنافس المشروع، الذي يراعي الآداب ولا ينتهك المبادئ والقيم والحرمات، فالوطن يتسع للجميع، وليس بوسع أحد أن ينفرد بتقرير مصيره أو يحجب جهد وإسهام الآخرين عن العمل لبنائه وتدشين حاضره ومستقبله، ولن يكون بإمكان أي كان أن يقصي أحداً أو ينفي دوره وحضوره عن حلبة العمل والإصلاح الوطني.
لن نبالغ القول حين نؤكد أن الخطوة الأولى والمدخل الأساسي للإقلاع عن سلبيات الممارسة والمعالجة الإعلامية لهذه المواقع وردم آثارها المؤذية، لا تتجاوز اعتماد المهنية أساساً، والنزاهة نهجاً، والصدق طريقاً، لأي عمل أو ممارسة أو معالجة إعلامية، تمهيداً لاستعادة ثقة القراء، واكتساب المصداقية المتضررة، والدخول في مصاف المواقع ذات الاحترام المشهود والالتزام المهني والأخلاقي الرفيع.
ولئن شاءت هذه المواقع كسباً أصيلاً ورواجاً كريماً، فإن لغة التعصب ونهج الانغلاق لديها يجب أن يكون شيئاً من الماضي، وأن تطوى سيرته وآلياته إلى الأبد، فلا مناص من نشر أشرعة الانفتاح، وانتهاج كل ما يعزز الحوار وآفاق الوحدة والوفاق، على أرضية الالتزام بالمصلحة الوطنية وثوابت القضية التي تجابه تحديات متنوعة وتغيرات شتى، تقتضي التلاحم لا الخصام، والانفتاح لا الانغلاق، والعمل المشترك لا الاستنكاف والانفراد.
وختاماً، فبإمكان هذه المواقع أن تخدم فصيلاً معيناً أو جهات محددة، فلن يحرمها أحد حق التوظيف الإعلامي في سياق دعم وتعزيز السياسات والمفاهيم والمواقف الحزبية الخاصة بالأحزاب والجهات التي تتبعها، إلا أن ذلك كله ينبغي أن يدور في فلك النزاهة المهنية والالتزام الموضوعي، وألا يكون –بحال- على حساب القيم والمبادئ الأخلاقية، ومفاهيم الانتماء الوطني المسؤول.