ظاهرة
غسل الأدمغة العربية عن طريق اجهزة الاعلام الغربية، ظاهرة تناولها الكثير
من المفكرين والكتاب والصحافيين العرب، وكان من ضمنهم اخيرا الكاتب
الصحافي عبد الرحمن الراشد، في مقالته «ممنوع النشر باسم حرية الصحافة»،
ونحن هنا لا نطالب بمقاطعة عربية لوسائل الاعلام الغربية، وايضا لا نحاول
الحث على غسل العقلية الغربية بأجهزة الاعلام العربية، ولكننا ننادي
بالتقارب الفكري والتفاهم عن طريق فتح باب الحوار واقامة جسر الاتصال بين
الشرق والغرب. ولكن
السؤال الذي يطرح هو: هل يمكن ان يجتمع كتّاب وصحافيون من بلدان وثقافات
مختلفة في جريدة واحدة، يكتبون بلغتهم الأم، ثم تترجم مقالاتهم وتصدر
الجريدة الواحدة في عدة لغات مختلفة ومع ذلك تكون مقبولة ومقروءة من قراء
لا تجمعهم لغة او عقيدة او تاريخ؟
لقد
نجحت الصحافة الغربية في الوصول للقارئ العربي من خلال ترجمة ما يكتبه
كتّابها وخاصة باللغة الانجليزية الى اللغة العربية. فترجمت مقالات
انجليزية كثيرة ونشرت في الجرائد العربية، بل ظهرت اخيرا المجلة الاميركية
المعروفة ـ نيوزويك ـ باللغة العربية.. ولكن لكي تكون العملية الاعلامية
وسيلة تبادل في الرأي وأداة لازالة العوائق والموانع الفكرية والثقافية،
يجب ان يكون هناك بث اعلامي من الجانب العربي ايضا. وقد يعتقد البعض ان
العائق الاساسي امام الرأي العربي يكمن في السيطرة الغربية الاقتصادية
والسياسية، وقد يكون هذا الى حد ما صحيحا، ولكن التحدي يكمن اساسا في
لغتنا العربية نفسها. فاللغة العربية فريدة لها خصائص تميزها عن اللغات
الأخرى مثل دقة التعبير والاعجاز والايجاز والمترادفات والمعاني الكثيرة
للفظ الواحد.
وقد
أفردت كتب اللغة والنحو مثل كتاب «النحو الوافي»، فصولا طويلة عن فرادة
واعجاز اللغة العربية. فنجد ان اللغة العربية تمتاز بدقة التعبير بألفاظها
وتفرع معاني الكثير من أفعالها. ففيها لكل معنى لفظ خاص، ففي اللغة
العربية على سبيل المثال لكل ساعة من ساعات النهار اسم خاص به. فالساعة
الاولى الذرور ثم البزوغ ثم الضحى ثم الغزالة ثم الهاجرة ثم الزوال ثم
العصر ثم الاصيل ثم الصبوب ثم الحدود ثم الغروب. وتتفرع معاني الافعال
بحيث يدل كل فرع عن معنى محدد، كتفرع فعل النظر الى رمق ولمح وحدج وشفن
وتوضح ورنا واستكشف واستشف. والعرب اقدر من غيرهم على الدلالة بلفظ قليل
على معان كثيرة لأن لغتهم تساعدهم على ذلك، وفي الامثال وكتب الفقه والشرع
والأدب امثلة كثيرة. وفي اللغة العربية مترادفات للاسماء تفوق أي لغة
أخرى، ناهيك من مترادفات الصفات. ومن خصائص اللغة دلالة اللفظ الواحد على
معان كثيرة. فللفظ (العين) على سبيل المثال، 35 معنى، وللفظ (العجوز) 60
معنى. ومن خصائص اللغة العربية ايضا ان لألفاظها وقعا على الأذن يكون له
تأثير موسيقي يختلف شدة ولطفا باختلاف التركيب فيؤثر في النفس تأثيرا خاصا
سواء كان نثرا او نظما. فإذا اضفنا الى ذلك طريقة التعبير العربية
الفريدة، واستخدام الدلائل والاشارات والامثال المعروفة فقط لقراء المنطقة
العربية، فإننا نجد أمامنا تحديا هائلا يقف في طريقنا الى الوصول الى
ترجمة صحيحة وكاملة تعبر تعبيرا صادقا عن آراء وافكار المفكرين والمثقفين
العرب.
ولكن
ماهية الترجمة الصحيحة؟ طبقا لنظرية ـ Toury ـ للترجمة فإن الترجمة
الصحيحة يجب ان يتوفر فيها شرطان: المصداقية والقبول. المصداقية، والمقصود
بها، مطابقة معنى ومضمون النص المترجم للنص الاصلي. القبول، والمقصود به،
ان يكون النص المترجم مكتوبا بلغة تماثل نفس المستوى الذي يكتب به الكاتب
بلغته الأم، وان يكون للنص المترجم نفس التأثير على القارئ الاجنبي كما
للنص الاصلي من تأثير على القارئ الذي يشارك الكاتب لغته.
هذه
النوعية من الترجمة يمكن تحقيقها في الصحف المشتركة المتعددة اللغة، اذا
تم اعداد المقال بواسطة فريق مكون من ثلاثة اعضاء وليس بواسطة الكاتب فقط،
العضو الاول هو الكاتب الذي يكتب النص الاصلي للمقالة. والعضو الثاني هو
المترجم وهو الذي يترجم المقال ويعمل على ان تكون الترجمة صادقة، أي
مطابقة تماما في المعنى والمضمون لما كتبه الكاتب. ويشترط في المترجم ان
يجيد اللغتين اجادة تامة، وان تكون لغته الأم هي لغة الكاتب. والعضو
الثالث هو المدقق، وهو الذي يراجع المقال ويتأكد انه مكتوب بأسلوب مقبول
للقارئ الاجنبي. ولا يشترط للمدقق ان يتقن لغة الكاتب ولكن يجب ان تكون
لغته الأم هي لغة القارئ. ويفضل ان يكون المدقق ايضا كاتبا في نفس
الصحيفة، تلك الصحيفة المتعددة اللغة، ويكتب باللغة الثانية التي تصدر بها
الصحيفة. ولكي ينجح العمل وتكون المقالة واضحة وفعالة ومقروءة بين القراء
ذوي الثقافات واللغات المختلفة، يجب ان يتم العمل في جو من التوافق
والتجانس بين اعضاء الفريق، حيث يعمل المراجع والمدقق كمستشارين للكاتب
يساعدانه على الوصول بآرائه وافكاره عبر العوائق الثقافية واللغوية الى
القارئ الاجنبي. وحيث يكون الكاتب منفتحا ومتفهما لعمل المراجع والمدقق،
قابلا لعرض آرائه وافكاره بطرق مختلفة او بديلة.
ان
مسؤولي الاعلام في البلدان العربية سيدركون، ان لم يكونوا قد أدركوا فعلا،
اهمية وصول ما يكتبه كتّابنا الى القارئ الغربي. وهناك الآن صحف عربية
تصدر باللغة الانجليزية والفرنسية وغيرهما، مثل صحيفة عرب نيوز والاهرام
ويكلي، ولكن هذه بداية فقط، فيجب ان تضم الاستراتيجيات الاعلامية العربية
المستقبلية قريبا مشروعات اعلامية مشتركة بين الصحف العربية والصحف
الغربية، مشروعات تهدف الى تأسيس صحف عالمية تكون مقبولة ومقروءة، ليس فقط
بين قراء العالم العربي ولكن بين قراء العالم الغربي ايضا.
ولهذا
فإذا كانت الشركات العالمية والمؤسسات المالية المشتركة هي سمة الجزء
الأخير من القرن العشرين، فهل ستكون الصحف المتعددة الثقافة واللغة هي
السمة التي ستفرض نفسها على بداية ومستقبل القرن الحادي والعشرين؟ ان
تكنولوجيا الاتصالات والعولمة والنظام العالمي الجديد وما انفجر في نطاقه
من مشاكل دولية، خاصة بين الأديان والثقافات الشرقية والغربية، جعل وجود
هذه الصحف امرا حتميا لا بد منه للتفاهم وللتقارب الفكري في المجتمع
الدولي لتجنب فتن وكوارث عالمية، الانسانية في غنى عنها.