هجرة جماعية في صناعة الصحف من النسخة الورقية الى الرقمية
إعداد عبد الإله مجيد: نشرت مجلة “نيويورك ريفيو اوف بوكس” NYRB، نصف الشهرية، تحليلا لوضع الصحافة الاميركية المطبوعة وبحثها عن سبل البقاء والاستمرار في عصر الانترنت. وجاء في التحليل: تجد صناعة الأخبار في الولايات المتحدة نفسها اليوم إزاء مفارقة قاتمة. فماليا لم تبدُ آفاق تطورها معتمة كما هي اليوم. وبحسب بعض المؤشرات، كان الربع الأول من عام 2009 أسوأ فصل في تاريخ الجرائد الاميركية التي سجلت مبيعاتها في هذا الفصل هبوطا قدره 2.6 مليار دولار. وفي العام الماضي انخفض التوزيع بنسبة متوسطها 4.6 في المئة ايام الاسبوع و4.8 في المئة أيام الأحد. وفي وقت سابق من هذا العام خفض بعض صحف تسليم الجريدة الى بيت المشترك الى ثلاثة ايام في الاسبوع فيما قررت جرائد غلق نسختها المطبوعة واخرى غلق ابوابها اصلا. وفي هذا الصيف لم تتمكن صحيفة “بوسطن غلوب” التي تخسر أكثر من 50 مليون دولار سنويا، من البقاء إلا بالرضوخ الى التخفيضات الجذرية التي طالبت بها شركة “نيويورك تايمز” المالكة في حين ان صحيفة “نيويورك تايمز” نفسها بسبب أزمة شقيقتها الصغرى “بوسطن غلوب” اضطرت الى اقتراض 250 مليون دولار من كارلوس سليم ايلو، أغنى رجل في المكسيك، بفائدة قدرها 14 في المئة سنويا.
ولكن في غمرة هذه الأجواء المكفهرة تشير احصاءات من الانترنت الى ان الاهتمام بالأخبار نادرا ما كان أكبر منه اليوم. وتقول احدى الدراسات ان مستخدمي الانترنت في عام 2008 أمضوا 53 دقيقة في الاسبوع بقراءة الصحف على الشبكة مقارنة مع 41 دقيقة في عام 2007. وازدادت الحركة في المواقع الاخبارية الخمسين الاولى بنسبة 27 في المئة. وفي حين ان هذا النمو اخترق كل الفئات العمرية فان دراسة أجراها مركز “بيو للابحاث” Pew Research Center، توصلت الى ان الشباب كانوا القوة الدافعة وراء هذا النمو. وبالنسبة لصناعة مثل صناعة الأخبار سَلَّمت منذ زمن الى الفكرة القائلة بانقراض زبائنها فان عودة الشباب الى الاهتمام بالشؤون العامة والدولية تشكل بصيص أمل نادر الحدوث.
كيف يمكن لصناعة يزيد حجمها على 50 مليار دولار ان تتردى حظوظها المالية بهذه السرعة فيما تبقى بضاعتها الخبر محط اقبال؟ التفسير المباشر هو انهيار ما كان لزمن طويل يعتبر قاعدتها الاقتصادية: الاعلان. فقد تراجعت تراجعا شديدا الأركان الثلاثة التقليدية للاعلان الصحافي وهي السيارات والوظائف الشاغرة والعقارات. والسبب مواقع على الانترنت مثل “كريغسليست” Craigslist و”اي باي” eBay وأزمة صناعة السيارات الاميركية واندماج المخازن والاسواق الكبيرة وبالتالي تناقص الصفحات المخصصة لاعلاناتها. في هذه الأثناء أدى اتساع الحيز المتاح على الانترنت باطِّراد الى انهيار اسعار الاعلان على الانترنت، وليس من المتوقع ان تتعافى حتى إذا تعافى الاقتصاد بصفة عامة.
انخفاض الايرادات المتحققة من الاعلان تفاقم بتأثير ظاهرة أخرى يرفض مالكوا الصحف مناقشتها، وهي جشعهم. فالتشديد بلا هوادة على الاستملاك والتملك والاندماج الذي ساد صناعة الصحف منذ عقود، ساعد على اخذ المال من مكاتب التحرير والاخبار الى جيوب المساهمين. كما انه نقل مركز صنع القرار من مواطنين محليين الى مجالس ادارات في شركات بعيدة. والأشد ضررا من كل ذلك ان المساعي الرامية الى بناء امبراطوريات اعلامية كبَّل شركات الصحف بديون ثقيلة كثير منها ناجم عن قروض لاستملاك شركات صحف أخرى.
إذاً، حين يتعلق الأمر بسوء الادارة فان صناعة الصحف تنتمي الى مدرسة واحدة مع صناعة السيارات الاميركية. ولكن بخلاف شركة جنرال موتورز فان الصحف تقدم منتوجا ما زالت له قيمة عند الزبون. والسؤال هو كيفية تحويل هذه القيمة الى مردود مالي.
مع احتضار النماذج الاستثمارية القديمة يجري اختبار نماذج جديدة على جناح السرعة. وفي هذا الاطار اصبحت صحيفة “كريستيان ساينس مونتر” في نيسان/ابريل الماضي أول جريدة بين الجرائد الاميركية التي تُوزَّع وطنيا، تُنهي نسختها اليومية المطبوعة وتركز على الانترنت. فالصحيفة بعدما خسرت نحو 20 مليون دولار في عام 2008 قررت ان تتخلص من التكاليف المترتبة على الطباعة والنقل (ما زالت تصدر طبعة اسبوعية). ورأى مراقبون في هذا القرار ايذانا بهجرة جماعية في صناعة الصحف من النسخة الورقية الى النسخة الرقمية. ولكن نظرة على الأرقام تشير الى خلاف ذلك. فعلى الرغم من الزيادة في حركة الزوار الذين يدخلون مواقع الصحف الالكترونية فان غالبية قراء الصحف على الشبكة لا يبقون فيها. وتقول احدى الدراسات ان من اجمالي الوقت الذي يمضيه القراء مع الصحيفة 96 في المئة يقضونه على النسخ المطبوعة وأكثر من 3 في المئة بقليل على الشبكة. وعلى الغرار نفسه فان من مجموع 38.5 مليار دولار أُنفقت على الاعلانات الصحافية عام 2008 بينما أُنفق 3 مليارات دولار فقط على الشبكة. وبأرقام كهذه فان الورق لن يختفي عما قريب.
القضية المصيرية بالنسبة للناشرين هي ايجاد طريقة لزيادة الايرادات قدر الامكان من النسخة الورقية والنسخة الالكترونية على السواء. وتشهد صناعة الصحف تغيرا جذريا في هذا المجال. فمنذ تسعينات القرن الماضي عندما ظهرت اول المواقع الاخبارية على الانترنت كانت غالبية الصحف متاحة بلا قيود أو شروط. واعلن انصار الصحافة الرقمية “ان المعلومات تريد ان تكون حرة”. فاستجاب الناشرون على الوجه المطلوب. ولبعض الوقت أثبتت هذه الاستراتيجية جدواها. فمع تزايد الحركة على الانترنت تنامت الايرادات المتحققة من الاعلان ايضا. ولكن مع هبوط الاعلان باطراد منذ عام 2006 فقدت الفلسفة القائلة بتوفير الصحف مجانا على الانترنت بريقها. ومن المتوقع ان يعمد العديد من الناشرين ابتداء من العام المقبل الى بناء “أسوار سعرية” حول مواقع صحفهم أي تقاضي ثمن مقابل الدخول على هذه الصحف. والتحدي الذي يواجه الناشرين هو تحديد ارتفاع السور بحيث يكون بالعلو المناسب. ويستأثر بالقدر الأعظم من الاهتمام النموذج “الهجيني” الذي يتيح قسما من الصحيفة مجانا والقسم الآخر بسعر، ساعيا الى كسب مشتركين وفي الوقت نفسه الحفاظ على دفق ثابت من قراء النسخة الالكترونية.
هنا يبرز نموذجان رئيسيان. فان صحيفة “فايننشيال تايمز” تستخدم “مقياسا” أو “حصة”، إذ يُسمح لزوار النسخة الالكترونية من الصحيفة بالاطلاع على بعض المقالات مجانا كل شهر، ومَنْ يريد الاطلاع على أكثر عليه ان يشترك. وحقق هذا للصحيفة 117 ألف مشترك يدفعون 299 دولارا في السنة. ولأن هؤلاء القراء من الميسورين والمتعلمين فان المعلنين يتوجهون اليهم وبالتالي فهم يولِّدون ريعا كبيرا من الاعلان.
اما السياسة التي تنتهجها “وول ستريت جورنال” أكثر تساهلا. فهي تسمح لزوار نسختها الالكترونية بالاطلاع مجانا على كل مقالاتها في السياسة والثقافة والمواضيع ذات الاهتمامات العامة الأخرى. ومَنْ يريد الاطلاع على تقاريرها الاقتصادية والمالية وحده الذي يدفع مقابل هذه الخدمة.
مثل هذه الاجراءات تستفز دعاة الدخول المجاني على الانترنت. ومن بين اعلاهم صوتا اريانا هافنغتون رئيسة تحرير موقع The Huffington Post ذي الشعبية الواسعة بمواده الاخبارية ومدوناته وأحد مؤسسي الموقع. فهي تقول “ان الحدائق المسوَّرة ليست حدائق ناجحة”.
ايلاف