سوا.. السياسة الأمريكية على أنغام البوب
ربما كانت حرب الخليج الثانية آخر حروب القرن الماضي تجسيدا حيا لما لعبته محطة (CNN) التليفزيونية الأمريكية من تأثير داخل الولايات المتحدة وخارجها في عالمنا العربي، من خلال مخاطبة النخبة أو حتى العامة مستعينة بالصورة؛ ومن هذا المنطلق واسترشادا بالخبرة التاريخية في فترة الحرب الباردة بين الشرق والغرب، حيث لعبت الإذاعات الموجهة تحت الرعاية الأمريكية دورًا تحريضيًّا لشعوب الكتلة الشرقية، كشف الكونجرس الأمريكي الستار عن فكرة قديمة ظهرت قبل أحداث سبتمبر/ أيلول بفترة بعيدة، لكن بعث فيها الحياة لخوض معركة طويلة الأمد مع العالم العربي والإسلامي عبر موجات الـ"إف إم".
ولم يمضِ وقت طويل حتى ظهرت إذاعة "سوا" الأمريكية كأداة من أدوات الحرب الإعلامية ضد العالم العربي، بعد أن نجحت في استخدام الإعلام في صياغة "عقلية" المواطن الأمريكي بعد الأحداث، واستخدامه ضد الشعب الأفغاني أثناء الحرب في أفغانستان؛ حيث كانت تعمل بعض الكتائب الإعلامية جنبا إلى جنب مع الكتائب المدججة بالسلاح، بل إن هذه الكتائب تم تزويدها بطائرات تعمل كمحطات إذاعية متحركة تقوم بإلقاء المنشورات، ومخاطبة الأفغان عبر مكبرات الصوت للتخلي عن طالبان، ولقتل بن لادن، والتعلق بالولايات المتحدة كمخلص للأفغان والبشرية جمعاء.
وحتى لا نستطرد طويلا نعود إلى لب الموضوع، وهو إدراك أمريكا للحدود غير المتناهية للإعلام، وتأثيره، وأهمية التوجه الإعلامي للمنطقة العربية من أجل إحداث تغيير جوهري في العقلية العربية، بعد أن وقفت أمريكا حائرة أمام سؤال فرضته الأحداث، وهو: لماذا يحمل العرب لنا كل هذه الكراهية؟
"سوا".. من المحيط للخليج!!
تعود فكرة إذاعة سوا -التي تعني باللغة العربية الفصحى "معًا"- إلى ما قبل أحداث سبتمبر/ أيلول بفترة طويلة، لكن الفكرة اكتسبت تأييدًا كبيرًا بعد تلك الأحداث، خاصة داخل الكونجرس، وكان نورمان باتيز المدير التنفيذي لـ"ويست ورد وان" التي تعتبر أكبر شركة إذاعية في الولايات المتحدة هو صاحب الفكرة التي يهدف من ورائها إلى كسب جمهور الشباب العربي عبر استخدام برامج شبيهة ببرامج الإعلانات التجارية الهادفة إلى ترويج سلعة ما، ولكن في حالة "سوا" تصبح الأخبار والقيم الأمريكية هما السلعتين موضوع الإعلان.
وقد استهلت إذاعة "سوا" بثها المباشر في مارس/ آذار الماضي 2002 على موجة (FM) والذبذبات القصيرة، فضلا عن موقع الإنترنت، وعن قنوات "نايل سات" و"أرب سات" و"يوتل سات" و"هوت برد"، وهي قنوات إذاعية رقمية تبث البرامج بواسطة الأقمار الصناعية.
وتقدم إذاعة سوا موجزا للأخبار كل نصف ساعة، يتضمن أحدث الأخبار عن السياسة الأمريكية، وتطورات منطقة الشرق الأوسط وبقية دول العالم، ولا يستغرق الموجز أكثر من بضع دقائق، تعود بعدها الإذاعة إلى الموسيقى الراقصة وأغاني البوب العربية والأجنبية؛ حيث تشغل موسيقى البوب نسبة 85% من إجمالي الإرسال، بينما تحتل الأخبار المنتقاة التي تخدم السياسة الأمريكية نسبة 15%.
ويُعتبر هذا الأسلوب في العرض الإذاعي الذي تتميز به "سوا" مختلفًا تماما عن أسلوب "صوت أمريكا" الذي يتضمن البرامج التحليلية الجادة، بالإضافة إلى البرامج الثقافية الأخرى.
وقد حظيت إذاعة "سوا" بموافقة 4 دول عربية للقيام باستقبال إرسالها، وإعادة بثه على موجات الـ"إف إم"، وبذلك أصبحت سوا تتمتع بـ4 نقاط تقوية في كل من: عمان والكويت ودبي وأبو ظبي.
وتعمل إذاعة "سوا" على مدار الساعة بـ5 لهجات عربية محلية من مصر والسودان والعراق والسودان والشام ودول الخليج، وهذا التنوع يعطي الإذاعة جاذبية لمختلف الشباب العربي المستهدف أصلا من قبل الإذاعة التي ربما تسعى في الأيام القادمة إلى استخدام اللهجات الخاصة بدول المغرب العربي أيضا.
"سوا".. مع الشباب
وتُعد إذاعة سوا واحدة من الخدمات الدولية الأمريكية التي يشرف عليها ويمولها مجلس أمناء الإذاعات الدولية الأمريكية، وقد رصد لها 35 مليون دولار، وعلى الرغم من أنها قد بدأت إرسالها برعاية الشقيقة الكبرى "صوت أمريكا".. فإنه سرعان ما تخلت واشنطن عن صوت أمريكا لصالح إذاعة سوا الجديدة لكسب الشباب العربي الذين تقل أعمارهم عن 30 عاما.
ولذا فإن الإذاعة تعتمد على الإيقاع السريع في أدائها الإعلامي بما يتناسب مع الشباب، وتحمل العديد من الشعارات، التي من جملتها "أجمل الأغاني، وآخر الأخبار.. من المحيط إلى الخليج".. "ابق على تواصل مع العالم".. "استمعوا لنا ونحن نستمع إليكم".. "24 ساعة.. سبعة أيام في الأسبوع"؛ وذلك لجذب المستمع العربي والإمساك به طوال الوقت، خاصة أنها تسعى لأن تعمل بكامل طاقتها لتصبح بديلا عن "صوت أمريكا".
وقد يدعونا تركيز الإذاعة على فئة الشباب إلى طرح السؤال الملح هو: لماذا الشباب؟ إلا أن الإجابة لن تكون من الصعوبة بمكان إذا عرفنا أن فئة الشباب الذين لا يتجاوزون 15 عاما تمثل نصف سكان الوطن العربي، حسب إحصائيات الأمم المتحدة، ويدرك الأمريكيون أن فرصتهم في التأثير على هذا الجيل الذي لم تتبلور توجهاته السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية بعدُ هي أكبر من استهداف الجيل الذي تخطى الثلاثين من العمر.
سوا أم وجها لوجه؟
ولمعرفة هذه الأهداف يحسن بنا أن نورد تصريحا لمستشار مجلس إذاعة سوا ومدير القسم الإخباري "موفق حرب" في هذا الصدد الذي قال فيه: "لم تنشأ المحطة من منطلق تحسين الصورة.. بل إيجاد صورة غير مشوشة وتعكس الحقيقة؟"، ويقول أيضا: "ليس من واجب أمريكا خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول أن تبادر إلى تحسين صورتها، أو أن تعتذر إلى أي شخص في ظل قتل المدنيين الأبرياء في نيويورك"، لكن الذي لم يقله حرب هو أن هذه الإذاعة جاءت لتواجه الإذاعات العربية التي حشدت جزءًا من طاقتها لمواجهة الآلة الإعلامية الأمريكية وحملتها المعادية للعرب والمسلمين.
وما لم يقله حرب أيضا هو أن هذه المحطة جاءت لتسويق السياسات الأمريكية في منطقة الشرق والعالم، في إطار خطة لفرض الهيمنة الأمريكية ونظام القطبية الأحادية وتحرير العالم العربي والإسلامي من قيمه الذاتية، وإنتاج نسخ عربية جديدة تتماشى مع العولمة الأمريكية من خلال بث القيم ووجهات النظر الأمريكية بين الأغاني والسطور، وليس كدعاية فجة واضحة؛ وهو ما يزيد من خطورتها الإعلامية.
والمتتبع للإذاعة لا يخفى عليه مدى انحيازها تجاه السياسات الأمريكية، وتشددها تجاه الملف العراقي؛ حيث تعكس وجهة النظر الأمريكية التي يعبر عنها صقور إدارة الرئيس بوش، فضلا عن أن هذا الانحياز هو علامة مميزة لأدائها تجاه القضية الفلسطينية، وهي سمة مميزة لكل وسائل الإعلام الأمريكية تقريبا، وبالذات إذاعة صوت أمريكا على مدى ما يقرب من 50 عاما، هي عمر الإذاعة وعمر الصراع العربي الإسرائيلي.
وقد ظهرت العديد من الدعوات لمقاطعة الإذاعة كغيرها من المنتجات الأمريكية، وأضافت بعض اللجان الشعبية لمقاومة التطبيع إلى مهمتها مهمة جديدة، هي مواجهة هذه الإذاعة، وبيان خطرها الثقافي على الهوية العربية والإسلامية، ومقاطعة المطربين الذين تذاع أغانيهم على موجات هذه الإذاعة.
صوت أمريكا.. ميراث الفشل
ولعله من المفيد أن نرجع إلى الوراء عشرات السنين، نسترجع تاريخ أمريكا والغرب مع الإذاعات الموجهة؛ حيث أولت الحكومة الأمريكية من عشرينيات القرن الماضي اهتماما كبيرا –كغيرها من الدول- لقدرات الراديو كوسيلة للدعاية الدولية، تعمل جنبا إلى جنب مع الدبلوماسية في تحقيق النفوذ والتأثير، وأصبح الراديو منذ ذلك الوقت سلاحا من أسلحة الحرب النفسية، وأداة رئيسية في العلاقات الدولية، واتسع الاستخدام السياسي للراديو خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وقد وصل عدد الدول التي استخدمت الإذاعات الموجهة بعد الحرب العالمية الثانية إلى 25 دولة، وكان التنافس بين أجهزة الدعاية الألمانية وهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) شديدًا جدًّا لاستمالة الجماهير في أوروبا وبقية أنحاء العالم. وقبل انتهاء الحرب كانت الدول المتحاربة والدول المحايدة (55 دولة) تغطي غالبية أنحاء العالم بأكثر من 340 جهاز إرسال، تبث 4275 ساعة أسبوعيا بأكثر من 40 لغة.
وقد بدأت إذاعة صوت أمريكا في تقديم خدماتها المنتظمة الموجهة للعالم العربي منذ عام 1950، وكانت توجه 500 ساعة من البرامج أسبوعيا بـ34 لغة، وعلى خلاف هيئة الإذاعة البريطانية اهتمت إذاعة صوت أمريكا بالأعداء الأيديولوجيين أكثر من الأصدقاء؛ حيث كانت تعمل كناطق رسمي باسم الفرع التنفيذي المسئول عن السياسة الخارجية الأمريكية، وهو جزء لا يتجزأ من وكالة الاستعلامات الأمريكية، وقد كان مكلفا بثلاث مهام رئيسة:
• أن يعمل كمصدر موثوق به وموضوعي للأخبار.
• أن يقدم سياسات الولايات المتحدة.
• أن يقدم صورة جذابة للمجتمع الأمريكي.
ولما كانت الأخبار والتعليقات القصيرة والموسيقى والبرامج الخفيفة من أكثر الأشياء جذبا للمستمعين؛ فقد اعتمدت إذاعة صوت أمريكا هذا الأسلوب مع التركيز على الطبيعة السريعة للمجتمع الأمريكي وتاريخ هذا المجتمع وثقافته، ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبته إذاعة صوت أمريكا في شرح السياسة الأمريكية تجاه البلدان المستهدفة، وتبرير سياستها في الشرق الأوسط، وعلى الرغم من القدرة الهائلة التي كانت تتمتع بها إذاعة صوت أمريكا كإذاعة موجهة استخباريا.. فإن تأثيرها في العالم العربي ظل محدودا؛ لأن المستمع العربي لم يكن متلقيًا سلبيًّا إلى هذا الحد، وكان يدرك تماما أن موقف الولايات المتحدة لا بد أن ينعكس بالضرورة على موقف الإذاعة من قضايا المنطقة؛ وهو ما كان يجعله حذرًا في تلقي المعلومات، خاصة أنه يدرك مدى الانحياز الأمريكي لإسرائيل.
ولعل أبرز مثال على فشل صوت أمريكا في إحداث التغيير المطلوب كان في إيران والعراق التي قالت المصادر الأمريكية: إنهما يدخلان ضمن الحملة التي تقودها أمريكا لإحداث تغيير سياسي فيهما، بعد فشل سياسة الحصار والعقوبات الاقتصادية والتواجد العسكري في منطقة الخليج، ولو كانت الإذاعة قد نجحت فيما سعت إليه -على الأقل فيما يخص إيران والعراق- لما تم إنهاء مهمتها، واستبدال إذاعة جديدة بها ترغب أمريكا في أن تنطلق إشاراتها إلى العالم العربي، وهي متحررة من أي ميراث للفشل.
نقل للفائدة