دروس من إندونيسيا.. ليس بالحرية وحدها يحيا الإعلام
كوالالمبور – صهيب جاسم
وقف أحد كبار الصحفيين في كلمته عن أزمات إندونيسيا، وقال بأن على وسائل الإعلام أن تتحمل المسؤولية عن مشاركتها فيما تعيشه البلاد من عدم استقرار وصراعات مختلفة الأسباب والجذور؛ لأنها لم تحسن استخدام الحريات التي تعيشها منذ سقوط حكم الجنرال "سوهارتو" مايو 1998، وكان ذلك في الاجتماع السنوي لجمعية "المحمدية ثاني" كبرى الجمعيات الإسلامية الإندونيسية يوم السبت (26-1-2002).
قد يعترض البعض على كلام الصحفي "يعقوب أويتاما" عندما تأخذهم حمية الحديث عن حريات التعبير والصحافة وينتقدونه.. لكن كلامه من وجهة نظر خبير في تحليل الإعلام فيه شيء من الصحة بالفعل، فالإعلام الإندونيسي أصبح آخر من يفكر في المساهمة في الحفاظ على وحدة إندونيسيا، ولم يعمل بشكل مخطط له على التحذير من مخاطر التقسيم بتقديم المعلومات ذات النتائج الإيجابية وإعادة صياغة ما سيكون له أثر سلبي، كأن يثير النزعات العرقية والدينية في حادثة صراع أو مواجهة كما حدث في أكثر من إقليم إندونيسي، عندما كان التنافس على نقل الأخبار الساخنة وتقديمها للجماهير التي تعيش في مناطق التأزم بطريقة غير "مرشدة" سببًا في زيادة الغضب والاندفاع للثأر من الآخر في أوج الساعات الساخنة للصراع.
10% فقط يعملون بأمانة
ويعيش الإعلام الإندونيسي منذ أكثر من أربع سنوات عهدا ذهبيا من ناحية حرية ما ينشر فيه -صالحا كان أو فاسدا- لتشهد ميادينه تغييرات وثورات نوعية وكمية في شتى أنواعه: المقروء، والمسموع، والمشاهد.
وفي الآونة الأخيرة ظهر الجدل حول الآثار الإيجابية والسلبية لهذه الوسائل وزادت المخاوف من أن قيودا ستفرض من قبل حكومة الرئيسة الإندونيسية "ميجاواتي سوكارنو بوتري" لو استقر لها الأمر في الحكم، خصوصا أن وسائل الإعلام الإندونيسية اقتربت من تحولها لسلطة رابعة بالفعل، مع أن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ما تزال في طور مرحلة انتقالية من عهد حكم عسكري إلى نظام ديمقراطي بمعنى الكلمة وليس باسمها فقط!
وعن هذا يقول "يعقوب" الذي يعمل في صحيفة "كومباس" والمملوكة من قبل التيار اليساري: "لقد شعرت بالذنب الكبير عندما اشتعلت الاضطرابات والأنشطة الانفصالية في البلاد في أمبون بجزر الملوك، وسامبيت في كالمنتان، وبوسو في سولاويزي؛ لأن صحيفة واسعة الانتشار مثل كومباس وأمثالها كان يمكن أن تقوم بما هو أكثر نفعًا بأن تساهم في إيقاف نزيف الدم بدلا من مجرد نشر تفاصيل ما يحدث من وجهة نظر إخبارية بحتة.
وعليّ أن أقر بأن فهم وحساسية وسائل إعلامنا للمشاكل الحقيقية وجذورها في إندونيسيا ما يزال ضئيلاً، ومعظم الصحفيين الإندونيسيين غير متخصصين، ولا يعرفون الكثير عما يكتبون عنه.
وفي يوم 31-1-2002 شن عدد من قيادات مجلس الصحافة الإندونيسي (هيئة رقابية غير حكومية جديدة) هجومًا شديدًا على مستوى المواد الإعلامية المنشورة، وقالوا بأن أقل من 10% من الصحفيين من يعمل بأمانة ومسؤولية، مقابل سيطرة الأخبار والآراء غير المتوازنة، وضعف روح المهنية في الغالبية الباقية "فحرية الصحافة تتسع، لكن الأخلاق الإعلامية على النقيض".
منافسة الرسمي
ومن الناحية الأخلاقية وبعد عقود من العلمنة الثقافية والدينية والتغريب السلوكي، جاء عهد الحريات الإعلامية ليفتح مجالا أوسع للإفساد الأخلاقي، وتضييع أوقات القراء والمتفرجين بقصص الفضائح المتدنية، المالية منها والاجتماعية والسياسية وصور الجنس والإثارة، فعندما أسقط "سوهارتو" من الحكم في مايو 1998 كان هناك 289 مطبوعة فقط في البلاد تخضع جميعها لرقابة مشددة تخفي الحقائق، وتدعم حكم العسكر، وتعرض بسببها من حاول إيجاد مساحة للرأي الآخر على صفحات مطبوعة إلى الإغلاق، خصوصًا أنهم كانوا مطالبين بالحصول على رخصتين للطبع والنشر، أحدهما مدنية من وزارة الإعلام، والأخرى من السلطات العسكرية.
ولكن خلال عام (98-1999) ارتفع عددها إلى 1168 مطبوعة حصلت على تسجيل رسمي من الحكومة فيما عدا ما كان يصدر كملحق دون رخصة مسبقة، وما كان يصدر بشكل غير منتظم.
وبعد أن كانت "رابطة الصحفيين الإندونيسيين" الواجهة النقابية الوحيدة لهم زاد عدد المنظمات المشابهة لأكثر من 30 رابطة، وكان 641 منها صحفًا مصغرة تحوم حول الصور الإباحية وقصص الفضائح، وقد واجهت أعداد كثيرة منها الإغلاق لأسباب اقتصادية كغيرها من مؤسسات البلاد التجارية.
وفي ساحة الإعلام التلفازي والإذاعي لم يتبق للحكومة رسميا إلا قناة تلفزيونية ومحطة إذاعية مقابل سيل من القنوات والمحطات التي تنافس جميعها القناة الأولى الرسمية بكل المعايير، وبعد أن كانت الأخبار المصورة مقتصرة على التلفزيون الحكومي حتى مطلع التسعينيات يجد المتفرج اليوم 13 قناة خاصة جذبت أكثر من 60% من نفقات سوق الإعلان في العام الماضي.
حبيبي والحريات
لم يترك الرئيس "بشار الدين حبيبي" الذي خلف "سوهارتو" حكمه إلا بعد أن عدل قانون الصحافة ليكفل حرياتها وذلك في 23-9-1999 ويضمن القانون – الذي يعمل به إلى يومنا هذا - حرية الصحافة في تحري وكشف ونشر المعلومات والحقائق، ويمنع أي رقابة أو تقييد رسمي لعملها، ويعاقب من يحاول التضييق عليها، وبهذا فإن دوره الإيجابي هذا لن ينسى من قبل مؤرخي الحياة الإعلامية والسياسية لإندونيسيا.
وأهم ما جاء في التعديل الجديد أنه لا حاجة للوسيلة الإعلامية للحصول على رخصة قبل طبعها.
واستمر خلفه "عبد الرحمن وحيد" في نفس المسار الذي صار من الصعب تغييره أو معاكسته بقيود رسمية وفي 28-10-1999 أعلن إلغاء وزارة الإعلام، لكن الرئيسة ميجاواتي وبقرار متوقع منها أعادت إحياء الوزارة مع فارق في سلطتها عما كانت عليه في عهد الجنرال سوهارتو.
مع أن هذا لا ينكر وجود الكثير الآخر من المطبوعات التي استفادت منها جماهير الجمعيات والأحزاب والحركات الإسلامية والتيارات الإصلاحية والديمقراطية، كما أن الصحف اليومية المحافظة وواسعة الانتشار وجدت فرصتها الذهبية بالتحدث عما تحب التحدث عنه وبحرية غير موصوفة وغير موجودة بالنسبة لصحافة الكثير من دول العالم النامي والفقير في شؤون الأحزاب والاقتصاد وحقوق الإنسان والفساد المالي والإداري وحياة الرئيس والوزراء والنواب.. وغير ذلك مما يعد من المحرمات في إعلام ما يسمى بالعالم الثالث.
هذه الحرية الكاملة في التعبير لحد مفرط في بعض القضايا أزعجت الرئيسة ميجاواتي وتيارها عند وصولهم للسلطة، مع أنهم اعتمدوا عليها قبل ذلك، فميجاواتي اتهمت بعض وسائل الإعلام تحديدا (29-12-2001) بأنها تسيء استغلال الحريات المكفولة بنشر أخبار "غير متوازنة وغير متجانسة" وأنها لا تساهم بذلك في حل مشاكل البلاد وصراعاتها، وكان رد مجلس الصحافة عليها بضرورة تشجيع الجماهير على محاكمة وسائل الإعلام في القضايا الخطيرة، وبأن على الرئيسة أن تعين متحدثًا باسمها، لكن ذلك لم يحدث، بل إن الرئيسة زادت من الحواجز بينها وبين الصحافيين، على قلة مقابلاتها معهم بإصدار تعليمات (25-1-2002) مفصلة تضم 14 نقطة مثل توجيه أسئلة ارتجالية للرئيسة، واستبدال ذلك بالأسلوب التقليدي السابق من تحديد الأسئلة والموافقة عليها مسبقًا، وقد لاقت هذه التعليمات استياء الوسط الإعلامي بجاكرتا، حيث من الصعب أن ينشروا للجمهور بهذه الصورة تصريحات آنية ومجزية من الرئيسة حال وقوع حدث ما.
ميجاواتي والمخاوف
وقد لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذا استقر الحكم لميجاواتي في فترتها الحالية أو في فترة رئاسية أخرى، فهناك مخاوف من أنها ستعمل على تقييد حرية الصحافة، ومع أن ذلك سيكون صعبًا للغاية بعد أن تذوق الإعلاميون والسياسيون والجمهور طعم حريتها.. لكن القيود قد تكون على شكل قوانين تحد من التعامل مع بعض القضايا بأسلوب معين، مربوطة بأحكام قضائية تزيد بمجموعها من خوف الرقابة الذاتية للإعلاميين.
وقد مورست في الأشهر الأخيرة ضغوطات من قبل بعض الأطراف السياسية والبرلمانية على وزير الإعلام وتكنولوجيا الإنترنت "شمس المعارف" ليسير في هذا الاتجاه.
لكن وزير الإعلام قاوم ذلك، وأصر على ضرورة الالتزام بقانون حرية الصحافة الجديد الذي يحظر على الدولة والجمهور القيام بأي تقييد أو تضييق على حريات الإعلاميين، مؤكدًا ضرورة الاعتماد على القوانين الأخرى، وعلى مجلس الصحافة مع أنه قال بأن خمسة قوانين (تتضمن 37 مادة) ستصدر بخصوص الإعلام الإلكتروني، لكنها ستتعامل مع الملكية المحلية والأجنبية للقنوات والجوانب التجارية الأخرى.
وقال الوزير يوم (13-2-2002): "منذ سقوط الحكم السابق قد تحركنا باتجاه حكومة مسؤولة وديمقراطية تقوم بدور الوسيط، بينما يتقدم عليها دور الوسط التجاري، ومشكلتنا الأساسية هي اصطدامنا بواقع مختلف بعد أن عشنا حكمًا شموليًّا، والشعور بالصدمة تجاه هذا التغير هو ما يصعب إدارته".
وتخشى وسائل الإعلام الجادة أن تكون ضحية تدني مستوى إنتاج مؤسسات أخرى ذات طموحات تجارية بحتة مفتقدة للمهنية المطلوبة، ولا تعمل بأخلاقيات مسئولة، مفسدة بذلك أجواء الحرية الإعلامية ككل، وفي فترة تعيش فيها الكثير من الشخصيات التي صعدت اقتصاديًّا وسياسيًّا على أكتاف الحكم السابق.
وهنا يدخل المال عاملا لشراء ذمم الإعلاميين لعدم نشر قصة ونشر أخرى بهدف إخفاء حقائق حياتهم عن الجماهير، والتشهير بأعدائهم السياسيين، بل وتأسيس مؤسسات إعلامية لمجرد حماية مصالحهم الاقتصادية والسياسية وتهديد حياة الصحفيين "المحققين" في قضية ما، حتى لو كانت بيئية.
ونهاية القول: إن دور الإعلام في التحولات التي تعيشها إندونيسيا سلاح ذو حدين يحتاج إلى أن تعتمد الوسائل الإعلامية الرئيسية نظامًا رقابيًّا وتوجيهيًّا ذاتيًّا ينظر إلى مصلحة البلاد وأن تعمل جنبًا إلى جنب مع الحكومة والنخبة ممن يسعون للإصلاح الاقتصادي والسياسي الحقيقيين، بدلاً من ترك بعض وسائل الإعلام تتمادى في السير دون نظرة مستقبلية وسط أجواء الحرية.. وهو ما قد يوقع الجميع فجأة في مأزق الرقابة والتضييق الرسمي بعد حين.
________________________________________
* صحفي متخصص في شؤون جنوب شرق آسيا.