أيها المتلقي موضوعية الإعلام.. مسئوليتك
عبير صلاح الدين- مصر
يتولى أصحاب أي مؤسسة أو هيئة مهمة تدريب العاملين بها، سواء قاموا هم بأنفسهم بعملية التدريب، أو أوكلوها إلى جهة أخرى -تحت إشرافهم- تعمل وفق أهدافهم.. ويختلف الأمر بالنسبة للإعلاميين؛ فيمكن لأي جهة ببساطة أن تجعلهم هدفا لتحقيق أغراضها تحت مسمى تدريبهم. لا فرق بين أن تكون هذه الجهات جهات حكومية، أو جامعات، أو جمعيات أهلية، أو منظمة دولية، أو مركزا بحثيا، أو مجلسا قوميا، أو مشروعات إعلامية تابعة لوزارة، أو جامعات خاصة، أو مراكز ثقافية.
وقد تشمل الدورة التدريبية جهتين: جهة تتولى التدريب وأخرى تتولى التمويل، ويكون بين الجهتين عادة شبه اتفاق في الأهداف. أما الطريقة التي تصل بها هذه الجهات إلى هؤلاء الإعلاميين فهي ميسورة وذلك بأن تتوجه هذه الجهات إلى المسئولين في الصحف أو القنوات التليفزيونية أو الإذاعية لترشيح أحد الإعلاميين للتدريب على موضوع ما، ووقتها إما أن يقوم المسئول بترشيح من يعمل في تخصص موضوع الدورة، أو أن يرشح أحدا من "المرضي عنهم" إذا لم يكن الموضوع مباشرا، وقد توجه الدعوة للتدريب إلى أشخاص بعينهم مباشرة تعرفهم جهة التدريب من خلال كتاباتهم حول الموضوع، أو من خلال تغطيتهم لأخبار هذه الجهة وأنشطتها.
موضوع معلن .. أهداف عديدة
أهداف هذه الدورات كثيرة تزيد عن الموضوع المعلن، فقد يكون الموضوع عن تناول قضايا المرأة في الإعلام - وما أكثرها - ربما لكثرة الجمعيات والجهات التي اتخذت قضايا المرأة محورا لعملها وأنشطتها، وكذلك الجهات التي يمكن أن تمول الدورات في الشأن نفسه. أما عن الأهداف الأخرى وراء هذه الدورات فقد يكون من بينها الترويج للجامعة الخاصة التي تستضيف الدورة والمتدربين، وقد يكون الهدف هو تجنيد هؤلاء المتدربين الإعلاميين لتبني قضايا معينة (قضايا التعاون العربي، الحوار بين الحضارات،…) أو تغيير وجهة نظرهم تجاه قضايا أو موضوعات بعينها. ويزوّد هؤلاء الإعلاميون بهذه الأفكار الجديدة والأبحاث والمعلومات التي تؤكد وجهة النظر الجديدة تلك، ويصبح البعض منهم مهيأ تماما لتبني هذه الأفكار، بينما البعض الآخر قد يخرج من الدورة مؤمنا بنظرية "المؤامرة" التي يفسر من خلالها أهداف الدورة على أنها تخريب للمجتمع وأفكاره من جهات خارجية، وقد يكون هؤلاء على حق في بعض الأحيان! وقد تكون الأهداف مركزة في تقديم التقنيات العملية للإعلاميين المتخصصين في مجالات معينة وتزويدهم بالمعلومات في هذا المجال، خاصة إذا كان هؤلاء الإعلاميون من غير المتخصصين دراسيا في هذه المجالات ولكنهم اكتسبوا خبرة فيها من خلال عملهم في هذا المجال، مثل الكتابة في الموضوعات الاقتصادية لغير المتخصصين مثلا … وهكذا.
والدورات التدريبية للإعلاميين حظوظ، بعضها يكون خارج البلاد، ويشمل التدريب برنامجا سياحيا وأجورا للسفر، وبعضها يكون في البلد نفسه بأحد الفنادق الكبرى، وبعضها يكون في قاعة صغيرة بإحدى كليات الجامعة أو مركز بحثي.
بين التكرار والتدريب
قد لا تتعدى الدورات التدريبية-كما يطلقون عليها – شكل المحاضرات أو الندوات التي يُدعى إليها الكثير من الخبراء ليتحدثوا في موضوع الدورة، ولا يشكل ما يقولونه وما يصل إلى أيدي المتدربين من أبحاث ودراسات جديدا بالنسبة لهؤلاء الإعلاميين؛ وبذلك تكون الدورة من باب تحصيل الحاصل، وقد تتخللها ورش عمل تناقش فيها هذه الموضوعات وطرق طرحها خلال الأعوام التالية.
أما التدريب بالمعنى الحقيقي للكلمة بما فيه من اكتساب مهارات جديدة، سواء في النظر إلى قضية ما أو طريقة طرحها أو إعادة طرحها والتقنيات الحديثة في هذا الطرح -فلا تحظى به سوى القليل من الدورات التي تنظم من أجل الإعلاميين، أو بمعنى أدق من أجل "موضوع الدورة".
مثال هذا النوع الأخير من الدورات تلك الدورة التي نظمتها مؤسسة "فريد ريش إيبرت" الألمانية مع "المركز الثقافي البريطاني بالقاهرة" لأكثر من 25 إعلاميا -وأنا منهم- حول "الإعلام وقضايا المساواة".
وبصرف النظر عن العنوان وما قد يثيره من مشكلات في أذهان البعض، فقد كان الشيء المميز لهذه الدورة هو قيام محترفين من العاملين في الحقل الإعلامي بالتدريب، وهما: الدكتورة نجلاء العمري، والأستاذ حسين شهيدي من (هيئة الإذاعة البريطانية BBC - القسم العربي). وتركز التدريب الذي كان عمليا بالفعل على تبادل المهارات والخبرات في المجالات الصحفية المختلفة، وكذلك الأشكال الإذاعية وأنواع الخطاب الإعلامي للموضوعات الخلافية كتلك المتعلقة بحقوق المرأة، خاصة أن المدرب حسين شهيدي هو مدير إدارة التدريب في الـ BBC ود. نجلاء العمري من المهتمات بموضوع الدورة، وممن يتناولونه في برامج متميزة.
الحياد المستحيل
كشفت مناقشات التدريب الذي قام على تبادل الخبرات بين المدربين والمتدربين أنه لا يوجد إعلام محايد مهما حاولت الوسيلة الإعلامية تصنع هذا الحياد؛ فوسائل الإعلام الحكومية –مثل قنوات التليفزيون التي تملكها الدولة، والصحف القومية- تلتزم إلى حد كبير –أو يلتزم العاملون فيها- بالتوجه السياسي للدولة، حتى إن كان ذلك على حساب الحقيقة التي يجب أن تظهر للناس.
فإذا أراد الإعلامي أن يكشف عن عنصرية بعض الدول العربية ضد بعضها من خلال عرض لدراسة علمية فإنه يُمنع من ذلك؛ توخيا للمصلحة القومية العامة التي تتبناها الجريدة الرسمية للدولة. وقد ينشر هذا في صحيفة حزبية أو صحيفة مستقلة خاصة. ونفس الأمر بالنسبة لمساحة الحرية –النسبية- في القنوات الفضائية الخاصة.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للوسائل الخاصة غير الحكومية التي تحكمها مصالح من نوع آخر، مصالح من يمتلكونها أو يمولونها، فمهما بلغت الوسيلة من مساحة الحرية وتوخي الموضوعية تظل هناك مناطق تكشف من خلالها الموضوعية المفقودة؛ فالحرية النسبية التي تتمتع بها بعض القنوات الجريئة ينقصها عدم المساس ببعض الموضوعات التي تعتبر من المحرمات في دول هذه القنوات، لكن هذا لا ينفي أن تلك المساحة من الحرية التي تميزت بها مثل هذه القنوات فتحت السبيل إلى مزيد من الحرية، وبالتالي الموضوعية وحق المواطن في المعرفة.
وهذه القنوات -بالنسبة للعديد من القنوات الحكومية في الكثير من البلاد العربية- وضعت غيرها في مأزق أمام متلقيها بسبب تقصيرها الواضح في طرح الحقائق ومتابعتها، وفتحت أيضا المجال لتأسيس وإنشاء قنوات خاصة أخرى في البلاد العربية تتحرك من خلال مساحة أكبر من الحرية والموضوعية، فلم تعد الحكومات تحتكر وسائل الإعلام وتمنع وتسمح بما تريد للمشاهد (المتلقي).
وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة لموضوعية الوسيلة الإعلامية، فهناك أيضا ما يسمى بمصداقية الصحفي (الإعلامي) داخل الوسيلة ذاتها، وهو ما كشفت عنه إحدى الدراسات التي كان عدد من الصحفيين في المؤسسات الصحفية في مصر هم عينتها، والتي أوضحت أن الصحفيين أنفسهم ينتقدون بعض ما يُكتب في مؤسساتهم، من خلال علاقة الصحفي بالمسئولين وبالمعلنين، وتأثر ما يُكتب بذلك، إما مجاملة أو إظهارا لبعض الحقائق وإخفاء بعضها؛ فقد يُكتب أكثر من خبر عن نفس الحدث ويختلف كل خبر وما يؤديه من معلومات حسب توجه الصحفي الذي كتبه.
ولهذا فقد أكد الصحفيون في الدراسة على أهمية عدم تلوين الأخبار، ونقل الواقع وعدم إخفاء أي حقائق واحترام حق القارئ في المعرفة، وتناول الموضوعات التي تهم القارئ واحترام عقليته والدفاع عنه، والكشف عن الفساد.
ولذلك كانت التدريبات خلال الدورة تؤكد على قدسية الخبر، وضرورة تغطية الحدث بشكل موضوعي دون أن يتدخل الصحفي بالرأي فيه فيذكر الحدث، وإن كانت هناك خلفية لديه عن الخبر فليذكرها كخلفية، وإذا استطاع رصد أصداء الحدث وتداعياته والآراء المختلفة حوله فليذكرها على لسان أصحابها وبشكل متوازن لا يرجح رأيا على آخر.
لكن هل يمكن ذلك بالفعل؟
كواليس اللغة الإعلامية
إذا كان هذا ممكنا في كثير من الأحيان فإنه يبقى بعيدا عن التحقق في أحيان أخرى؛ بسبب استخدام الصور وطريقة استخدام اللغة ومفرداتها؛ فهل سيختار أحد المذيعين العرب بين كلمتي "انهزم" و"اندحر" عندما يصف انهزام القوات المصرية أمام القوات الإسرائيلية في حرب 1967 -دون أن تحكمه مشاعره وانتماؤه الخاص- ليختار فقط بين المعنى الأقوى للدلالة على الحدث؟
ولهذا فقد لا يعرف المتلقي كمّ المناقشات التي تدور في كواليس المؤسسات الإعلامية للاختيار بين المترادفات التي تتيحها اللغة العربية؛ حيث قد يعني اختيار واحدة منها نوعا من عدم الموضوعية في طرح الحدث بشكل أو بآخر.
إذا كان لنا من كلمة أخيرة لك أيها القارئ فهي: إنك المسئول عن الموضوعية والحياد في تلقي الأحداث، عليك أن تسأل نفسك عددا من الأسئلة، منها: في أي وسيلة إعلامية نُقل الحدث؟ وأي صحفي أو إعلامي نَقل الحدث؟ في أي دولة يعيش بقوانينها وما تتيحه وما لا تتيحه من حرية التعبير؟! ما هو النسق السياسي الذي يعيشه الإعلامي، وكذلك المحيط الاجتماعي والثقافي الذي تربي عليه، ويعيش فيه؟!
أنت -أيها المتلقي- من يستطيع الوصول للأبعاد المختلفة للحدث أن تقرأ ما بين السطور، وألا تصدق فقط الصور التي تراها؛ فهناك -بالتأكيد- صور أخرى لم يتم بثها لأسباب كثيرة، لا تصدق كل ما يقال لك أو تسمعه أو تشاهده؛ فهناك الكثير مما لم تسمعه أو تشاهده، ويمكنك إكمال الصوت والصورة من العروض المختلفة التي أصبحت كثيرة ومختلفة.
اقرأ وأنت تفكر.. اسمع وأنت تفكر.. شاهد وأنت تفكر..