موت الخبر في الجريدة اليومية!
جواد البشيتي
صحافتنا اليومية، ولجهة علاقتها بـ "الخبر"، هي من حيث المبدأ، وعلى وجه العموم، صحافة لـ "وكالات الأنباء العالمية"، التي في مقدَّمها، عندنا، "وكالة الصحافة الفرنسية" و"رويترز"، فالقارئ لها، ولـ "خبرها" على وجه التعيين أو الخصوص، يكفي أن يعقد مقارنة بين خبر الجريدة اليومية والخبر نفسه في وكالة أنباء عالمية هي مَصْدَره حتى يتوصَّل إلى أنْ ليس من معنى لعقد "المقارنة"؛ لانتفاء أحد ركنيها، وهو "أوجه الاختلاف والتباين".
"محرِّر الخبر"، في صحافتنا اليومية، والذي إنْ أمعنا النظر في عمله لا نقف على شيء من معنى صفته المهنية تلك، أي "محرِّر خبر"، يجهل، أو يتجاهل، أنَّ ثمَّة شيئاً يدعى Spin في خبر، أو تقرير، الوكالة الأجنبية، التي منها يستقي المادة الخبرية؛ وكثيراً ما فهمنا ذاك الشيء (Spin) على أنَّّه "دسٌّ للسُمِّ في العسل"؛ ولكنَّنا، في "تحريرنا للخبر"، لم نَقُمْ بعمل مضاد، فـ "محرِّر الخبر" يتكيَّف مع خبر الوكالة الأجنبية تكيُّفاً سلبياً، يخضع له ويستخذي، ويكاد أن يعامله على أنَّه نصٌّ مقدَّس، أو مرجعية للقياس المُطْلَق.
لقد جاء في "خبر الوكالة الأجنبية" أنَّ المستشفى الفرنسي قرَّر السماح بعودة المخرج المصري يوسف شاهين، وهو في حالة غيبوبة، إلى مصر لمتابعة العلاج، وأنَّ الأطباء المشرفين على علاجه قالوا إنَّ الأمل في شفائه ما زال قوياً.
أمَّا في "حقيقته" فالخبر هو أنَّ المستشفى الفرنسي فشل في معالجة المخرج المصري، فأعيد إلى مصر ليموت في مستشفى مصري. وعلى ذلك قِسْ.
نحن، حتى الآن، وعلى وجه العموم، ليس في مقدورنا أنْ نفاضِل إلاَّ بين أمرين يختلفان في السوء درجات أو دركات، فنقيض "المحرِّر السلبي"، أي الذي "يقصُّ" الخبر من "الوكالة ـ المَصْدَر" لـ "يلصقه" في صفحة الجريدة اليومية، هو المحرِّر الذي إنْ تجشَّم مهمَّة "تحرير الخبر" مسخه، وشوَّهه، وعاث فيه؛ ودعا، موضوعياً، القارئ، بالتالي، إلى أن يفضِّل "المحرِّر السلبي" على هذا المحرِّر الذي أراد أن يكون "محرِّراً إيجابياً"؛ ولكن متاعه المهني والسياسي والفكري لم يسمح له إلاَّ بابتداع عبارة بديلة كعبارة "البرتقال الصهيوني"، فهو يشطب من خبر الوكالة عبارة "البرتقال الإسرائيلي" حيثما وردت، ويملأ الفراغ بعبارة عسلية خالصة، نَزَع منها السُم تماماً، هي عبارة "البرتقال الصهيوني". وعليه قِسْ.
"خبر الوكالة" بنيان مرصوص؛ وينبغي لكل "محرِّر" أن يعامله على أنَّه "المعلومة التي كُتِبَت بمداد سياسي"، أو "المعلومة، التي على أهميتها، مُغْرِضة سياسية"، أي أنَّ لها غرضاً سياسياً. وهذا "البنيان" يجب أن يُهْدَم أوَّلاً، لِيُبْتَنى من حجارته، ومن حجارة أخرى، بنيان جديد، يفي بغرضٍ جديد، ويلبِّي حاجة جديدة؛ ولكن من غير تطاول أو اعتداء على "المعلومة". هذا الخبر، أي "خبر الوكالة"، هو "التركيب" الذي يجب أن ينحل ويتفكَّك، توصُّلاً إلى تركيب ثانٍ جديد، يشتمل على عناصر ثلاثة، هي الاستبقاء، والنفي، والإضافة، فـ "المعلومة" التي تضمَّنها "خبر الوكالة" تبقى، و"التوظيف السياسي" لها يُنْفى؛ وإلى ذلك تُضاف "معلومة جديدة"، و"اتِّجاه جديد".
"المحرِّر الإيجابي" عندنا ما زال أسوأ من "المحرِّر السلبي"؛ فهو طالما حرَّر خبر الوكالة بما يُظْهِره، أي يُظْهِر "المحرِّر"، على أنَّه "هدَّام" لـ "الخبر"، عِلْماً وفنَّاً، فنظرية "الهرم المقلوب" الشهيرة هي دائماً ضحيته الأولى.
إنَّه ينتزع الفقرة الأقل أهمية من "خبر الوكالة"، ليتَّخِذ منها، في "العنوان"، وفي مبتدأ الخبر، قاعدةً لـ "الهرم المقلوب"، وهي التي (أي تلك الفقرة) إنْ شُطِبت من الخبر الأصلي ظلَّ الخبر خبراً، أي ظل محتفظاً بأهميته الخبرية كاملة.
وأقول على سبيل المثال إنَّ الخبر كان "زيارة وفد (جمهوري وديمقراطي) من الكونغرس لإسرائيل للتضامن مع حكومة نتنياهو في نزاعها مع إدارة الرئيس أوباما في شأن الاستيطان". هذا هو "الخبر"، فهذا هو "الأمر الجديد المهم"؛ أمَّا الأقل أهمية، والذي لِقِدَمِه وتكراره لا يجعل الخبر خبراً، فهو تلك الفقرة التي جاء فيها أنَّ ليبرمان قال لدى استقباله الوفد إنَّ إسرائيل لن تعيد هضبة الجولان إلى سورية. لقد انْتُزِعت هذه الفقرة، التي مفيدها غير جديد، وجديدها غير مفيد، من متن خبر الوكالة، لتصبح هي قاعدة "الهرم المقلوب"، بعدما طُعِّمت بـ "عبارات التسييس المضاد"، التي هي جميعاً من قبيل عبارة "البرتقال الصهيوني (المتطرِّف)"!
"خبر الوكالة" يمكن أن يكون طويلاً؛ ولكنَّ الخبر الخبر فيه يمكن أن يكون في سطر، أو سطرين، أو أكثر قليلاً؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "محرِّر الخبر" يجب أن يبدأ عمله بـ "الاكتشاف"، أي باكتشاف الخبر في الخبر؛ وكثيراً ما احتاج هذا الاكتشاف إلى قوَّة إبصار تفتقر إليها "العين المجرَّدة"، فـ "العين السياسية والمهنية.."، أو "عين الخبرة"، هي التي يجب أن تتولَّى سد النقص، والتغلُّب على الضعف، وتمييز الغث من السمين.
قديماً، وقديماً جداً، كانت الجريدة اليومية مَصْدَراً للخبر، فالأحداث لا تَحْدُث إلاَّ عندما تأتي الجريدة اليومية إلى الناس بخبر حدوثها. وكانت لـ "الإعلان التجاري" ناشِراً وناقِلاً وحاملاً. "خَبَرُها" كان هو "الحامِل"؛ أمَّا "إعلانها التجاري" فكان هو "المحمول".
واليوم، أصبح "الحامِل" هو "المحمول"، و"المحمول" هو "الحامِل"، فلولا "الإعلان التجاري"، وأشباهه، لتضاءل الطلب أكثر على "المُنْتَج الخبري" للجريدة اليومية، فـ "الخبر الأحدث" في الجريدة اليومية هو خبر قديم، وقديم جداً، بحسب "ساعة القارئ".
وهذا إنَّما يشدِّد الحاجة لدى الجريدة اليومية إلى "ثورة خبرية"، تعود بفضلها إلى ما كانت عليه من أهمية خبرية، أو إخبارية.
وليس من سبيل إلى ذلك سوى "المعلومة الخبرية الخاصة بها وحدها"، مع التأسيس لعلاقة جديدة مختلفة نوعياً مع "خبر الوكالة الأجنبية"، فـ "التحرير الجديد" لهذا الخبر هو الحاجة التي بقوَّتها وضغطها يمكن ويجب أن يُخْلَق "المحرِّر الجديد"، فليس من "تحرير جديدة" في غياب "المحرِّر الجديد".
و"التحرير الجديد" يحتاج إلى أن تؤسِّس لها الجريدة "ستايل بوك"، تبتني بفضله شخصية لغوية ومهنية وفنِّية تُميِّزها عن غيرها، فأسماء الأعلام، مثلاً، يجب أن تُكْتَب، دائماً، وفي كل مكان من صفحات الجريدة، على نسق واحد، فليس مقبولاً أن نكتب تارةً "صحفي"، وطوراً "صحافي"؛ وإذا كان الفعل "أشار" يتعدَّى بحرف الجر "إلى"، فليس مقبولاً أن نرى "عبارة أشار أن..".
إنَّ الجريدة اليومية إمَّا أن تثور على نفسها، وإمَّا أن تظل في بقائها على قيد الحياة خير دليل على أنَّ كثيراً من الموت يَظْهَر على هيئة حياة وأحياء!