الاستثمار في فضائيات العبث
احمد عبدالملك
فتحَ الانتشار الفضائي وهبوط كلفة حجز الأقمار الصناعية، شهية بعض المغامرين من أصحاب رؤوس الأموال إلى الدخول في عالم الإعلام والشهرة، دونما دراسة متأنية لاستحقاقات البث أو أخلاقيات المهنة الإعلامية.
وكان أن ساهم سهر ''سكارى'' الليل مع بعض المستثمرين العرب في إقناعهم بجدوى إطلاق فضائيات تدر عليهم الملايين وهم لا يخسرون شيئاً؟ ومن هذه الفضائيات التي خرجت علينا - وشوهت السماء العربية - تلك التي لم تبحث في البنى التحتية اللازمة لعمل الفضائيات، بل أخذت تبث من شقة أو شقتين من هذه العاصمة أو تلك معتمدة فقط على كاميرا ثابتة تنقل صورة مذيعة ''مسخ'' وغير مؤهلة لعملية الاتصال بالجمهور، وبرنامج آخر لتلقي مكالمات الجمهور عبر إغراء الجمهور العربي ''الغلبان'' بالفوز بجائزة قدرها 90 أو 95 ألف دولار!
ومن باب حب الاستطلاع أوقفتُ جهاز الريموت كنترول على إحدى هذه الفضائيات ''المقززة'' ورأيت الآتي:
- مذيعة تصرخ وكأنها في ملهى ليلي - في شارع الهرم أيام عزه - تنادي على المشاهدين - مثلما يفعلون في سوق (شبرا) أو سوق (الحراج) في الخليج وتطلب منهم الاتصال فوراً كي يفوزوا بمبلغ 95 ألف دولار، وأن هذه الجائزة لهم حتماً. أما السؤال (النكرة) والذي كانوا يسألونه في برامج الأطفال في السبعينات يقول ''فاكهة لونها أخضر وداخلها أحمر وفيها عبيد سود؟ أو سؤال آخر يقول ''دولة عربية تقرأ من اليسار مثلما تقرأ من اليمين؟ وتواصل المذيعة التي ترتدي الجينز المحزز والقميص ذا الألوان غير المتناسقة بالصراخ وكأنها في ملعب كرة قدم تنادي على الجمهور بالاتصال. هذا هو مضمون البرنامج الذي يستمر ساعات من وقت البث الثمين؟ وعندما يتوقف الاتصال، نسمع أغنية هابطة يهتز معها جسد ورأس المذيعة، ثم نشاهدها تضحك، من دون أن نعرف الأسباب، ثم تضع يدها على فمها، لربما حتى لا نشاهد أسنانها ''الجميلة''، حتى يتصل أحد الغلابة الحالمين من أبناء هذه الأمة، ويقول إن الجواب على اسم البلاد العربية التي تقرأ من اليسار مثلما تقرأ من اليمين هو بيروت؟ تصوروا الغباء وقلة الثقافة، بل ويتصل آخر ليقول إن الجواب هو المغرب؟
وهكذا يتم استغفال المشاهد العربي ''الحالم'' بخمسة وتسعين ألف دولار، وتنشر تفاهات عقول بعض المشاهدين والهدف كله الحصول على ثمن المكالمات وتقاسمه - بنسبة معينة - مع شركة الاتصالات. هذه هي حكاية فضائيات العبث التي تأتي من وراء سهر الليل على الطاولات الحمراء أو الخضراء.
بالطبع شاهدت أكثر من 15 محطة من هذه النوعية في السماء العربية. هذه المحطات التي ولدت مشوهة ولا تريد أن تصرف كي تكون محطة محترمة؟ بل تقوم باستغلال المحرومين والحالمين بالثراء من المعدمين من أبناء الأمة العربية وذلك عبر التلويح لها بمبلغ 95 ألف دولار، حيث تنهال المكالمات التي تغطي أجر المذيعة المتواضع، وإيجاز الشقة الضيقة وكلفة الحجز السنوي للأقمار الصناعية والذي أصبح لا يتجاوز 200 ألف دولار سنوياً؟ وهو مبلغ يمكن أن يرميه أي مغامر عربي على الطاولة الخضراء في لندن أو لاس فيجاس في غضون نصف ساعة؟
نحن ننصح الأثرياء العرب - الذين يتعرضون للابتزاز الليلي بعد الكأس الثامنة أو العاشرة - إلى رفض هذه المشروعات السطحية، وقبول إطلاق فضائيات مشوهة منذ ولادتها! وتشويه سمعتهم بمثل هذه الفضائيات التي لا هوية لها ولا هدف، سوى جمع أثمان المكالمات من الحالمين من أبناء هذه الأمة وجعلهم يعيشون وهمَ الثراء السريع - ودون عمل - وفي النهاية لا يوجد لا رابح ولا رابحة، سوى المزيد من ''ترجيات'' المذيعة الغلبانة، التي لا تعرف لماذا هي موجودة أمام الكاميرا، بإعادة الاتصال وزيادة الوهم في عقول أبناء الأمة.
نحن ننصح كل العرب الذين تُعرض عليهم مثل هذه المشروعات الليلية أن يستشيروا الأكاديميين الإعلاميين العرب ويطلبوا آراءهم إن كانوا قد تم إقناعهم بالتحرر من الأهداف القومية والأخلاقية ولم يعرفوا القيم المهنية للإعلام. كما ندعو السادة وزراء الإعلام العرب - كما أيدناهم بوقف فضائيات السحر والشعوذة - أن يوقفوا مثل هذه الفضائيات ويضعوا مواصفات جديدة للقناة العربية اللائقة. والتي من ابسطها: أن تكون لها لغة تلفزيونية وبرامج ثابتة وهدف واضح ورأس مال يوفر الإنتاج الجيد والأطقم البشرية والتقنية والأستوديو الجميل الذي يعتبر جزءاً من شخصية الفضائية. كما ندعو أن تكون هنالك مواصفات للمذيعة التي تخاطب الناس، لا أن تكون منادية على البضائع التي نراها في سوق ''الشبرة''؟ أو سوق الخميس.
هامش: يتحسّر (أرثر كلارك) في قبره على سوء استخدام اختراعه العظيم وهو الأقمار الصناعية من قبل بعض الـ«عربو».