نجاح الصحف.. كيف؟
يتعجب القاريء العربي مما يراه في بعض صحفه العربية من مظاهر تكريس الانهزام فيما تنشره من مواد صحفية لا ترقي إلي مستوي وعيه، بل إن فيها ما يستهين بهذا الوعي، عندما تهتم تلك الصحف بأمور أقل من أن تستحق الاهتمام، مما لا يتفق مع ما يعيشه هذا القاريء من هموم طاحنة، وأحداث سياسية مقلقة، تمثل تحديات لا طاقة له علي مواجهتها، وبدلاً من أن يجد في صحافته عوناً له عن طريق معالجة ما يمكن معالجته من معضلاته الملحة تحاشياً لتبعاتها المستقبلية السلبية، بدلاً من ذلك لا يري في هذه الصحف سوي الموقف السلبي من تلك المعضلات، وفي أحسن الحالات عرضها بشكل سطحي لا يدل علي جدية المناقشة أو الرغبة في الوصول إلي حل، حتي وإن أدي ذلك إلي تجاوز المحاذير الوهمية التي تجد فيها بعض الصحف تبريراً لتقصيرها تجاه القاريء وهمومه وقضاياه التي لم تعد خافية علي أحد، باستثناء بعض الصحف التي تدس رأسها في الرمال كما تفعل النعامة، غير عابئة بما يجري حولها.
بعض تلك الصحف تفاجئك بصورة الفنانة العالمية فلانة أو منشورة بحجم كبير، فتعتقد أن هذه الفنانة قد أتت من الأعمال الخارقة بما لم يستطعه الأوائل، وإذا التعليق المنشور أسفل هذه الصورة يقول: الفنانة .... تبتسم أمام الكاميرا، وينتهي الخبر، لتنصرف أنت كقاريء عربي إلي شد شعر رأسك حنقاً وحسرة علي ما وصلت إليه بعض الصحف من استهانة ليس بهمومك فقط ولكن بوعيك أيضاً، فما يعنيك أن تبتسم أو تبكي هذه الفنانة أو تلك، والملايين من العرب والمسلمين يبكون فقد أوطانهم أو حرياتهم أو حقوقهم أو حتي الحد الأدني من وسائل عيشهم بكرامة؟ وما هي الأهمية لابتسامة حتي الموناليزا نفسها، بالنسبة لمن يموتون من الفقر والمرض في أنحاء كثيرة من عالمنا الإسلامي، دون أن يجدوا ما يسد الرمق أو يخفف آلام المرض، دون أن تلتفت لهم هذه الصحف، وتنقل مآسيهم وتستصرخ إخوانهم الميسورين في بلاد المسلمين، لعل القلوب التي تحجرت تلين، ولعل الضمائر التي نامت تستيقظ علي أنين المحرومين ومآسيهم، فيمدون لهم العون، بالقليل من الصدقات أو أموال الزكاة التي لو حرص أثرياء المسلمين علي إخراجها لما بقي في بلدانهم فقير واحد؟
عناوين غريبة وبأحجام كبيرة لصورة أو صور تحتل مساحة لا يستهان بها من صفحات تلك الصحف، وجميعها تستخف بالقاريء العربي المبتلي بصحافته كما ابتلي بأمور كثيرة في حياته، ولقاءات صحفية هزيلة حول حياة الفنانين وأكلاتهم المفضلة وأنواع ملابسهم وهواياتهم الخاصة، مما يضيق به ذرعاً ليس القاريء فقط بل الفنانون أنفسهم الذين لا تهتم بهم الصحافة إلا من هذا الجانب السطحي دون تقديم الوجه الإنساني لحياتهم وثقافتهم وفلسفتهم في الحياة، فليس كل الفنانين بهذه الدرجة من السطحية لكنها الصحافة التي تصر علي تكريس هذه السطحية.
إفساد ذائقة القاريء كما يبدو هي المهمة الأولي التي اخذتها بعض الصحف علي عاتقها بإصرار غريب، حيث لا يوجد أي تفسير لهذا المنهج المعوج غير هذا التفسير، وصولاً إلي رفع نسبة التوزيع، وهو هدف لن تحققه سوي الصحف الجادة التي تتعاطي العمل الصحفي بمهنية عالية ووعي كبير بدورها في التنوير والإصلاح وكشف مواطن الخلل في مسار الجهات المعنية بمصالح المواطنين، وتنمية الوطن.
إن صحافة لا تعني بقرائها وهمومهم ومشكلاتهم هي صحافة خاسرة في نهاية المطاف، لأن المواطن هو الرهان الوحيد لتحقيق نجاحها واتساع رقعة توزيعها، وبالتالي تحقيق مكاسبها المادية من خلال التوزيع والإعلان، فالقاريء أولاً وهو الذي يرفع معدلات التوزيع، وبارتفاع معدلات التوزيع يرتفع حجم الإعلان الباحث دوماً عن أكثر الصحف توزيعاً. وبذلك تتحقق نظرية أن الصحافة رسالة وصناعة، والرسالة التي لا تحقق أهدافها فاشلة، وكذلك الصناعة التي لا تحقق للمستثمرين العائدات المنتظرة فاشلة أيضاً، فالنجاح يقود إلي النجاح، أما الفشل فنتيجته غير ذلك.
د. كلثم جبر